دكتور غنام
قناة دكتور أكرم على يوتيوب

آخـــر الــمــواضــيــع

صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 42

الموضوع: حكايات زورك نيميسيس ..وقصص عن الجن والعفاريت ...يمنع الدخول للأطفال

  1. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية ذات المهاق الأبيض

    " كانت بيضاء كأشباح ديزني ، و كان لها شعر ينافس شعر جدتي بياضا "

    - تعال يا أوندير .. دعنا نتعرف على هذه العجوز الشمطاء الصغبرة
    - فليكن عزيزي جيهان .. أنت أيتها العجوز الهزيلة .. هل لك اسم ما ؟

    نظرت لهما الفتاة من وراء نظارتها بحذر وقالت بتردد :
    - اسـ .. اسمي آرزو

    انطلقت ضحكات جيهان و أوندير عالية جدا كعادتهما الأبدية كلما أرادا الضحك .. كنت أنظر إلى هذا المشهد باهتمام من مكاني في الفصل بمدرسة أوزيل إيريشيم الابتدائية في اسطنبول .. هل حكيت لكم حكاية آرزو بعد ؟ .. عجبا لكم .. إذن دعوني أستجمع أفكاري أولا .. فهذه القصة من القصص الغالية على نفسي .

    هل رأيت في حياتك فتاة صغيرة مهقاء ؟ .. ماذا ؟ لا تعرف معنى مهقاء أصلا ؟ .. إنها من المهاق .. و أصحاب هذه الصفة نوع من الناس تكون كل شعرة في جسدهم بيضاء منذ ولادتهم .. شعرهم و حاجباهم وحتى شواربهم وذقونهم .. وهي حالة طبيعية جدا .. يسمون من لديه هذه الحالة أمهق باللغة العربية الفصحى . و Albino باللغة الانجليزية .

    إن آرزو – بمد الواو – كانت مهقاء .. مهقاء بعنف .. دعونا نعود بالذاكرة إلى ما قبل المشهد الأول بربع ساعة .. كنا في حصة ما .. ومدرسنا الهمام يحدثنا بحماس عن شيء ما لا أذكره بتاتا .. سمعنا طرقات خافتة على باب الفصل .. سكت المدرس وبدأنا نحن في الكلام كالعادة.. استدار ليفتح باب الفصل .. نظرنا تلقائيا بلا اهتمام إلى الباب لنعرف من القادم .. كان المدير .. دخل بابتسامته المريعة .. و عيناه المخيفتان .. تبا له .. لازلت أذكر تلك الصفعة التي تلقيتها على وجهي من يديه القذرتين .

    - قيام

    كان هذا هو المدرس يحاول أن يلعب دور القائد الحازم علينا نحن الأطفال المساكين الذين لا حول لنا ولا قوة .. قمنا جميعا كنوع من الاحترام للمدير .. لماذا لا نقوم بهذا الشكل عندما يأتي الفراش ليغير كيس الزبالة .. هل يعني هذا أننا لا نحترمه ؟ .. ظللت أفكر بهذا الخاطر غير سامع للحماقات التي يتحدث المدير والمدرس بشأنها .. ثم فجأة نظر إلينا المدير بجسده .. نعم هذا الطراز من المدراء لا يلتفت لينظر إليك برأسه .. بل هو يحرك جسده كله لمواجهتك .. لذلك تكون أطرف اللحظات عندما يتحدث مع اثنين في ذات الوقت .. و فجأة سمعته يقول بصوت عال :

    - و الآن يا فصل خامسة خامس .. أريدكم أن ترحبوا بزميلتكم الجديدة .. آرزو فولكان .. فصلكم هو الوحيد حاليا الذي فيه مكان شاغر .. تعالي يا آرزو .. تعالي يا عزيزتي .. ادخلي إلى فصلك الجديد .

    الآن بدأنا ننظر في اهتمام .. هناك وافدة جديد إذن على مجتمعنا الرهيب .. ترى كيف ستكون .. هل ستعيش أم ستموت .. هنا دخل مخلوق هزيل أبيض يرتدي نظارات وينظر إلى الأرض في اهتمام .. معذرة فأنا أصف لك أول شيء شعرنا به ونحن ننظر إلى آرزو .. كانت هزيلة .. ومهقاء .. يبدو لك عندما تراها لأول وهلة أنه تم غمسها في برميل طلاء أبيض ..

    هنا سمعت ضحكات مكتومة من ورائي .. ضحكات مكتومة من طراز – خخخخخ – نظر المدير إلينا بغضب محاولا أن يعرف مصدر هذه الضحكة .. كانت آرزو تحمل حقيبة زرقاء تمسكها بكلتا يديها وتنظر إلى الأرض في خجل.. تتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتها لتخفيها من أمامنا .. أعرف هذا الإحساس .. وقد شعرت به في أول يوم لي في هذه الغابة أيضا ..

    - هيا يا آرزو .. هناك مقعدك .. أريدك أن تكوني مجتهدة و تكتبين واجباتك كل يوم .. وحذار من الغياب .

    كان المدير يشير لها للمقعد الوحيد الشاغر في آخر صف .. بجوار النافذة .. في ركن الفصل الخلفي .. نظرت آرزو إلى المقعد ثم نظرت إلى الأرض وبدأت تمشي بين الصفوف وهي تجر حقيبتها الزرقاء خلفها.. يالهذا الشعر الأبيض الطويل .. يبدو أنها ستتعب معنا جدا ... كانت تسمع عبارات خافتة وهي تمشي بين الصفوف ..

    - آآآآرزوووو
    - انتبهي من الضفدع الذي وضعته على مقعدك
    - هي هي هي

    لحظات وانطلق جرس الحصة معلنا انطلاقنا إلى الحرية .. نظرت إلى آرزو فوجدتها تتشاغل بالنظر إلى جدران الفصل وإلى اللوحات المعلقة عليها .. كانت تجلس بجوار فتاة من النوع المشاغب جدا .. كانت تجلس بجوار إسراء .. لابد أنكم تذكرون إسراء .. هي نفسها التي اختفت في حكاية رجل الظلام .. لا عليكم .. يكفي أن تعرفوا أنها تشبه البرغوث و تسبب نفس الصداع الذي يسببه هذا الأخير .

    - تعال يا أوندير .. دعنا نتعرف على هذه العجوز الشمطاء الصغبرة
    - فليكن عزيزي جيهان .. أنت أيتها العجوز الهزيلة .. هل لك اسم ما ؟

    هذا كان أوندير وجيهان .. أسوأ ولدين في هذا العالم .. نظرت لهم الفتاة من وراء نظارتها وقالت بتردد :

    - اسـ ....اسمي آرزو

    كان صوتها مبحوحا خافتا جدا .. تشعر معه أن ثعبانا يسكن داخل حنجرتها الرفيعة .. وهذا زاد من ضحك جيهان عليها ... قال أوندير :

    - أخبريني يا عزيزتي .. كم عمرك بالضبط ؟ ... لابد أنك تعديت السبعين .. هل نسيت أن تكملي تعليمك وتذكرت الآن فجأة ؟

    لم ترد الفتاة ونظرت للأرض في حذر غاضب .. قرصتها إسراء في ذراعها قرصة مؤلمة وقالت لها :

    - ماذا يا جدة ؟ هل نسيت فعلا كم عمرك ؟ .. و هل هذا طقم أسنانك ؟ هلا أريتنا كيف تأكلين به ؟

    أغمضت الفتاة عينيها و أدارت وجهها عنهم .. واستمرت ضحكاتهم عليها و قرص إسراء لها .. رأيتها تغمض عينيها بقوة وتضع يديها على أذنيها ..

    - لابد أن هذا شعر مستعار
    - عجوز
    - شمطاء
    - ساحرة
    - ها ها ها
    - انظروا لهذين الحاجبين

    وهنا فتحت الفتاة عينيها و نظرت لأوندير .. ترى كيف أصف لكم تلك النظرة الرهيبة التي حدجته بها .. كانت نظرة كراهية وغضب وقد اتسعت عيناها عن آخرهما في مشهد مخيف .. تسمر أوندير في مكانه مرتعبا من هذه النظرة .. خاصة أنها كانت تصدر صوتا غاضبا مكتوما كصوت الأفعى ... قطبت حاجبي ناظرا لهذا المشهد الغريب .. إنها مرعبة حقا .

    في اليوم التالي مباشرة غاب أوندير عن المدرسة .. عرفنا أن الفتى الضخم تعرض لحادث مريع كسر معه كاحله ... في وقت الـ Break في نفس اليوم كنت أجلس مع هشام في مطعم المدرسة منتظرين وجبتنا التي لم تتغير منذ شهر .. لقد صار هذا مملا .. رأيت الطباخ النحيل علي يكلم آرزو ذات الشعر الأبيض بحدة .. لم أعرف فحوى الحديث بالضبط لكنني رأيتها تحمل صينيتها الصغيرة التي احتوت على طبق المعكرونة المعتاد و الدجاج المريض الذي يتفننون في طبخه هنا .. كان يبدو أنه يحاول أن يشرح لها شيئا لا تفهمه هي .. وهنا رأيت الطباخ علي يقطب جبينه و ينظر لها بقلق مذعور .. كنت أراها من ظهرها .. إن لها شعرا طويلا ناعما يصل للآخر فقراتها الظهرية .. ترى أين رأيت هذه النظرة المذعورة من قبل ؟

    في اليوم التالي مباشرة وجدت ورقة معلقة على باب المطعم .. كان فيها " على جميع الطلاب الشراء اليوم من ( الكانتين ) فلن تتضمن وجبات اليوم أي لحوم أو دجاج .. لأن السيد علي روزا أصيب بوعكة صحية .." ..
    قلت لمن كان بجانبي :

    - هذا أكثر راحة حقا .. لا بد أن الرجل أكل من الدجاج الذي يطبخه فمرض .
    - يقولون أنه مريض جدا
    - أتمنى أن يستبدلوه قريبا

    إن المصادفات تحدث .. لذا لا داعي للأفكار الشريرة بشأن آرزو .. ذات يوم غاب أحد المدرسين عن حصته .. وكان هذا طبعا يوم عيد للكل .. ترى البعض خرج ليكتب أشياء حمقاء على السبورة .. البعض وجد الفصل مناسبا للسباق أو للمصارعة .. و كنت أنا أتحدث مع شخص ما في أمر تافه ما ..

    سمعت صوت إسراء يأتي من الخلف :

    - ترى ماذا يوجد داخل هذه الحقيبة الزرقاء أيتها العجوز ؟

    أمسكت آرزو بحقيبتها ونظرت لإسراء بحذر .. هنا انضم بعض الطلاب للحفل ...

    - هل تخفين فيها كتب السحر الأسود أيتها الساحرة الشمطاء الهزيلة ؟
    - ربما لو فتحتموها يخرج لكم منها أرنب أبيض ما
    - هي هي أنا أحب الأرانب جدا
    - اتركوا حقيبتي .. اتركوني

    بدأت إسراء تشد الحقيبة حتى انتزعتها .. ثم قفزت فوق أحد المقاعد و قالت بصوتها البرغوثي المزعج :

    - مرحى ياخامسة خامس ، إنه يوم كشف الساحرة الشريرة

    وبدأت تفتح الحقيبة بعنف .. تجمع العديد من الطلاب حولها .. كانت آرزو تقول شيئا ما باحتجاج لكن أحدا لا يسمع شيئا .. هنا قمت لحل هذه المهزلة ..

    - اتركي الحقيبة يا إسراء وإلا صعدت لأنتزعها منك بالقوة
    - ماذا ؟ هو حب جديد إذن ، اسمعوا يا خامسة خامس .. إنه يحبها .. يحب الساحرة الشمطاء

    وهنا قلبت إسراء الحقيبة لتفرغ محتوياتها بعنف .. انفرط كل شيء على الأرض .. مجرد كتب وأقلام وكراسات .. وكانت هناك دمية رخيصة معتنى بها .. أخذت إسراء الدمية و عزمت أن تكسرها .. هنا لم أحتمل .. صعدت على أقرب كرسي .. لكن إسراء قالت :

    - لو اقتربت سأكسرها ولا يهمني ما سيحدث وأنت تعرف هذا
    تقدمت ولم أبال .. وهنا شدت إسراء ذراعيّ الدمية بقوة حتى مزعتها .. وكانت مشاجرة .. ودخل الأستاذ كمال ليحلها .. كان يوما حافلا بالضرب من عصا المدير و الخمش من إسراء .. والعتاب من الأستاذ كمال .. من هو الأستاذ كمال ؟ .. لابد من واحد مماثل في كل مدرسة .

    في اليوم التالي اختفت إسراء من الفصل .. لابد أنكم تذكرون كيف اختفت .. وقد حكيت هذا في السابق عندما كنت أحكي عن رجل الظلام .. لا تنظروا لي بهذا الشكل .. آرزو مجرد فتاة مسكينة و لا خطر منها صدقوني ..


    بعد حوالي ثلاثة أشهر تقريبا من هذه المشاهد كنا في طابور الصباح .. وكان الدور على فصلنا ليقدم برنامج الصباح .. كنت أنا المذيع كالعادة لأن المدير يحب صوتي جدا ويصفه بأنه صوت إذاعي من الدرجة الأولى كان يجعلني أقدم دائما معظم البرامج الصباحية للفصول حتى اعتدت هذا .

    كان معنا العديد من الفقرات .. لكن ما جعل هذه المرة مميزة هو أن آرزو كانت هي التي ستقدم فقرة الأخبار .. كنت قلقا عليها حقا .. كيف يكلفها الأستاذ كمال بهذا و هو يعلم أنها أكثر الطالبات خجلا .. أتمنى حقا ألا تسوء الأمور ..

    - أترككم الآن مع أهم أخبار اليوم .. تذيعها لكم الطالبة آرزو فولكان ...

    تقدمت آرزو إلى الأمام قليلا .. كانت تبدو متوترة جدا .. أخذت تعدل نظارتها بشكل ذكرني بجدتي فعلا .. كانت تنظر إلى ورقتها التي ستقرأ الأخبار منها .. كان قلبي يدق حتى كنت أخشى أن يسمع الناس دقاته خلال المايكروفون الذي أمسك به ..

    بدأت آرزو في الكلام .. وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوتها بهذا الوضوح .. إن لها صوتا مبحوحا خافتا جدا يشعرك أنها ثعبان رهيب .. كنت أنظر إلى وجوه الطلاب الضاحكة أمامي .. آرزو تتلعثم مرة ومرة .. ثم تعدل نظارتها .. سمعت ضحكات مكتومة بدا تأتي من كل مكان .. آرزو بدأت تسعل وتتلعثم ثانية .. بدأت الضحكات المكتومة تتحول لضحكات عادية .. خاصة مع استمرار آرزو في التلعثم و تعديل النظارة بطريقة جدتي .. ثم أخذت تمسح عرقا وهميا من على جبينها و تقرأ ما في الورقة بخفوت محاولة أداء مهمتها .. هنا لم يحتمل الطلاب أكثر ..

    تعالى صوت ضحكاتهم عاليا ... يا إلهي هناك مدرسات يضحكن أيضا .. أرى المدير يصيح بشيء غاضب ما .. لكن لا أحد يأبه به .. آرزو حولت نظرها من الورقة إلى الطلاب .. إنها مذهولة .. الجميع يضحك عليها .. رأيت شبح دموع تترقرق في عينيها .. ياله من موقف .. هنا رأيت الورقة والميكروفون قد سقطا من يدها .. و سالت دموعها ساخنة على وجنتيها .. وأخذت تنظر للجميع بكراهية مقيتة .. ترى أين رأيت هذه النظرة المخيفة من قبل ؟

    رأى الجميع آرزو تجري مغطية وجهها بكفيها متجهة إلى المبنى المجاور الذي فيه فصلنا .. فزاد ضحكهم عليها وتطور إلى قهقهة ثم إلى الوقوع وضرب الأرض حتى لم يعد أحد من المدرسين يستطيع إيقاف هذه المهزلة .. هنا رأيت المدير يتجه إليَ بحدة ثم مد يده وأخذ المايكروفون من يدي بعنف وصرخ قائلا :

    - لن ينصرف طالب إلى فصله اليوم قبل أن يلقى عقابا يجعله ينسى ماذا كان اسمه . ولو سمعت ضحكة أخرى بعد هذه اللحظة سواء من طالب أو من مدرس سيطرد نهائيا من المدرسة .. بلا رجعة .

    خفت صوت الجميع نوعا ما وبدأوا ينظرون إليه بقلق .. رأيت بعض الطلاب يكتم ضحكات أخرى خرجت رغما عنه .. وهنا ناداهم المدير بأسمائهم في غضب .. قال لهم أن يتوجهوا بعد العقاب إلى مكتبه .. لأنهم مطرودون.. تعالت بعض همهمات الاستنكار لكنه لم يبال بها مطلقا .. وهنا التفت لي بحدة وأمرني أن أذهب لأحضر آرزو من الفصل .

    وبينما أنا ذاهب لأداء مهمتي رأيته يقف أمام الطابور الأول من الطلاب .. ثم سمعت صوت ضربة عصاه الغليظة على يد أحدهم... وبينما أنا في طريقي إذ سمعت ضربة أخرى وأخرى .. إنه يعاقب الطلاب واحدا واحدا إذن .. إن هذا يناسب شخصيته تماما .. لكنها المرة الأولى التي يصل فيها معنا لهذه الدرجة .

    - آرزو .. إن المدير يريد أن يراك
    - ........
    - آرزو ؟ إنه يعاقب الطلاب واحدا واحدا من أجلك .. ألا تسمعين صوت الضربات
    - ..............

    لم ترد .. كانت تدفن وجهها بين ذراعيها وتبكي في صمت .. جلست أتأملها برهة .. هذه الفتاة لم يكلمها أحد منذ أتت إلى مدرستنا .. لم أر أحد يكلمها إلا وهو يسخر منها.. إن لها الآن اكثر من ثلاثة شهور بيننا ولم نعرف عنها شيئا واضحا .. ترى من هي ؟ .. كيف تراها تشعر ؟ هنا بدأت أشفق عليها حقا .. وضعت يدي على كتفها قائلا بأكثر لهجة حنون استطعت أن أخرجها :

    - آرزو ؟
    - .................
    - إنني أفهم شعورك يا عزيزتي .. لقد مررت بنفس تجربتك .. كانت أول شهور لي في هذه المدرسة شهورا مرعبة .. الكثير من المشاكل و السخرية وكل شيء .. ثم تكوّن الأصدقاء تلقائيا .. لا يوجد مكان في هذه الدنيا يحوي أعداء فقط .
    -..................................
    - إن هناك طلابا سيطردهم المدير من المدرسة نهائيا لأنهم ضحكوا عليك ؟ ألم تسمعي كلماته ؟

    حاولت أن أرفع وجهها برفق لكنها دفنته أكثر .. مررت بيدي على شعرها الناعم بطريقة حنون قائلا :
    - أرجوك يا آرزو .. نحن سنكون أصدقائك الجدد .. إن طول صمتك ونظرك للأرض هو ما جعلنا نظن أنك لا تريدين مصادقة أحد .. أرجوك .

    هنا رفعت رأسها ونظرت إليَ .. إنها المرة الأولى التي أراها بدون نظارتها .. إنها جميلة حقا .. ولا أدري من السفاح الذي اشترى لها هذه النظارة الكبيرة التي تذكرك بنظارة المحقق كونان .. قلت لها بلطف :

    - اسمي أحمد .. و أتشرف بأن أكون أول صديق لك يا آرزو .

    و مددت يدي لها لأصافحها .. ظلت يدي ممدودة فترة من الزمن بلا أي استجابة من قبلها .. ثم أخيرا مدت يدها المرتعشة لي و قالت وهي تتلعثم :

    - شكـ .. شكرا لك

    لازلت أسمع أصوات الضربات .. وصوت صياح المدير .. كانت تلك أياما حافلة حقا ولا أدري لماذا تبدو الأيام الحالية باردة إلى هذاا الحد ..مرت بضع أيام بعد هذه الحادثة .. وقد تطورت علاقتي مع آرزو إلى السلام كلما رأيتها .. وتعرف هشام ابن خالتي عليها – وهو معي في ذات المدرسة - .. و أخته نورهان أيضا – وهذه معي في نفس الفصل - .. وقد أصبح الطلاب يعاملون آرزو بحذر أكثر منذ ذلك اليوم الرهيب .

    هناك كتاب قرأته ذات مرة عن الساحرات .. يقول أن الساحرة تكون ساحرة منذ ولادتها لكنها لا تعرف أنها ساحرة إلا عندما يقرر الشيطان ذلك .. لا أذكر اسم الكتاب جيدا .. يقولون أن الساحرة لها طاقة نفسية هائلة .. و غضبها دائما ما يتحول إلى خراب ..وأن علينا أن نحرقها وهي طفلة قبل أن تتطور قدراتها هذه ..

    قال لي هشام وهو ينظر إلى آرزو من بعيد في أحد الأيام ونحن نتمشى في فترة الـ Break في المدرسة :
    - كيف تفسر إذن كل هذه الحوادث التي أصابت الكل بعد أن غضبت عليهم آرزو ؟
    - هذا لا يعني أنها ساحرة يا هشام
    - ماذا يعني إذن أيها العبقري ؟
    - يعني أن خيالك واسع ويحتاج لمن يضيقه قليلا
    - هل رأيت نظرتها المرعبة تلك ؟ أنا نفسي أخاف منها جدا وأعاملها بحذر .. أنا لم أستطع أن أحبها أبدا .

    كنا ننظر إلى آرزو التي تجلس على أحد المقاعد العامة وتكتب شيئا ما في أحد الكراسات بشرود .. وفجأة رفعت آرزو رأسها ونظرت لنا بحدة فرأتنا ننظر لها ونتحدث .. لمع انعكاس الضوء على نظارتها فلم أر عينيها جيدا .. لكنها كانت تقطب حاجبيها .. رأيت هشام يقول بذعر وهو يستدير منصرفا :
    - هذه الفتاة ساحرة حقيقية .. لم أعد أحتمل .. لقد سمعتني .. تبا لك يا أحمد .

    وفي أحد الأيام .. بعد هذا بشهور .. أذكر أنه قد دار بيني وبين آرزو حديث مرعب :

    - أنا لست ساحرة يا أحمد .. إنما أنا فتاة ضعيفة .. لكن الله ينتقم ممن يظلمني .
    - من قال أنك ساحرة يا آرزو ؟ لا تلتفتي لمثل هذه التفاهات
    - الكل يقول لي هذا .. حتى أنني أرى هذا في عينينك أنت نفسك عندما تنظر إلي .
    - إن عقلك الباطن يهيء لك أمورا كاذبة .. فلا تصدقيه
    - عقلي الباطن هو أفضل صديق عرفته يا أحمد
    - وماذا أكون أنا إذن ؟
    - أنت ولد من الأولاد الذين يتظاهرون أنهم لطفاء جدا ..
    - هلا كففت عن هذا الكلام يا آرزو .. أنا لم أؤذك يوما بكلمة
    - أنت تخاف مني يا عزيزي .. تخاف أن يصيبك ما أصاب غيرك .. هل تستطيع أن تصفعني الآن يا أحمد ؟
    - كفي عن هذا يا آرزو ..
    - أنت أضعف من أن تفعل .. أنت تخاف مني .. أرى ذلك في عينيك .
    - اخرسي يا آرزو وكفي عن هذا الهراء .. أنت لا تخيفينني .
    - أنت جبان يتظاهر أنه شهم وشجاع .. هيا اصفعني لو كنت رجلا .

    وهنا هوت يدي على وجهها بصفعة غاضبة لا أدري كيف خرجت مني .. أطارت الصفعة لها نظارتها .. فنظرت لي بغل .. نظرت لي بكراهية .. تبا .. إنها تلك النظرة ثانية . .. نظرت لها بخوف .. قائلا :
    - آرزو ... أنا متأسف .. صدقيني لم أقصد هذا أبدا

    كانت لا تزال تنظر لي بكراهية ... هذه النظرة ... إنها تقلق أشد الرجال شجاعة ..

    (أنا لست ساحرة يا أحمد .. إنما أنا فتاة ضعيفة .. لكن الله ينتقم ممن يظلمني )

    لقد أصيب أوندير بكسر رهيب في الكاحل منذ أن سخر منها .. والطباخ علي روزا ظل مريضا لمدة شهر ثم اكتشفنا أنه أصيب بالذبحة الصدرية بلا سبب معروف ..

    (عقلي الباطن هو أفضل صديق عرفته يا أحمد )

    ( اسمي أحمد .. و أتشرف بأن أكون أول صديق لك يا آرزو )

    جميع طلاب المدرسة ضربوا بعنف في مشهد لم يسبق له مثيل فقط لأنهم سخروا منها .. حتى هشام منذ أن نظرت له تلك النظرة المفزعة وهو يحكي لي عن أن حبيبته قد أرسلت له رسالة تعتذر فيها منه لأنها ستتركه ...

    (تخاف أن يصيبك ما أصاب غيرك )

    ( أنت ولد من الأولاد الذين يتظاهرون أنهم لطفاء جدا )

    ماذا عن إسراء أيضا ؟ .. هذا فوق قوانين المصادفة ..

    (لابد أن هذا شعر مستعار )

    (اسمي آرزو )

    ( آرزو فولكان )

    ( أنت أضعف من أن تفعل )

    ( لست ساحرة )

    كنت أنظر لها بخوف ... ثم فجأة اختفت نظرتها المخيفة تلك و انفجرت ضاحكة بصوت مبحوح أشبه بصوت ثعبان البوا عندما ينفجر ضاحكا .. نظرت لها بدهشة ... نظرت لي في امتنان وقالت :

    - لا تخف يا عزيزي أحمد .. أنت أفضل صديق لي حقا .. لقد كنت أرى إذا كنت تصادقني خوفا مني .. شكرا لك يا عزيزي ..

    وهنا انحنت تطبع قبلة سريعة على جبيني المندهش .. ثم انطلقت راكضة بسعادة مختفية عن ناظري ..

    ظللت مندهشا مما حدث فترة من الزمن .. ومرت السنين تلو السنين .. و تخرجنا من المدرسة .. و سافرت إلى الجامعة في مصر ..وقد كانت آخر مرة رأيت فيها آرزو هي في السنة الماضية عندما زرت تركيا كعادتي في نهاية العام .. عندها نظرت لها بدهشة حقيقية ... لكن هذه المرة كان هناك سبب آخر لدهشتي .. كانت تزور نورهان في بيتها بعد أن تطورت صداقتهما جدا .. ورأيتها بشكل جديد تماما هذه المرة .. لقد كانت آرزو محجبة .

  2. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية شياطين السيرك


    " لعمري إن مهرجي السيرك كائنات قذرة، خذها كلمة من رجل نام مع هذه المخلوقات في غرفة واحدة "


    حياتي كانت غاية في القصر والتفاهة .. وجدت نفسي أغادر الدنيا قبل أن أوعى عليها .. سنوات حياتي الثلاثة والعشرين لا أذكر منها شيئا ذا قيمة .. كل شيء كان تقليديا .. المدرسة .. البيت .. فتاة الجيران الحسناء .. ابنة عمي التي تصر أمي أنها رائعة رغم أنها كالبومة المكتنزة .. حلم العمل في القاهرة .. خطبة فتاة لم أرها في حياتي سوى في تلك المرة التي يطلقون عليها اسم ( الشوفة ) ؛ حينما تدخل علينا بصينية من الشاي في خجل شاعرة شعور البضاعة وهي تعرض أمام الزبائن ...نعم الجماد يشعر ياعزيزي .. هذا ما ستكتشفه لاحقا بعد أن تغادر هذا العالم القصير جدا .


    أعيش في مدينة ساحلية شعبية تدعى جمصة .. أعرف أنه اسم يشعرك بعدم الارتياح لكنه اسم المكان الذي فرض عليً أن يكون بلدي .. وفرض عليً أن أحبه و أدافع عنه ضد أي شخص يحاول المساس به .. إن جمصة مدينة ساحلية تعتبر مصيفا لمحدودي الدخل ؛ وهو اسم أطلقته الحكومة المصرية على الفقراء الذين يشكلون ثلاثة أرباع الشعب تقريبا .. الشهر الأخير من حياتي كان ملحمة تعلمت فيها أن الدنيا لم تكن أبدا بخير .. و أن البشر هم أضعف السلالات العاقلة التي خلقت ... أضعفها و أكثرها غرورا وغطرسة .


    انتهيت من التعليم الثانوي المصري الحقير سريعا .. وبدأت في رحلة البحث عن العمل إياها ... قمت بعدة سفرات خائبة إلى القاهرة و الإسكندرية لعرض نفسي على أشخاص ربما يجدونني ذا نفع في مؤسساتهم …في النهاية وجدت عملا كخادم لعائلة تسكن في أحد البيوت الراقية في المعادي .. عملت معهم أكثر من سنة حتى عشقوني وأصبحت منهم .. مهلا .. هل أخبرتك باسمي ؟ لا عليك ففي العالم الذي أنا فيه الآن لا نهتم بالأسماء مطلقا .. كان اسمي هو إسماعيل ... إسماعيل سري ... أبيض البشرة .. أزرق العينين .. بني الشعر ناعمه .. يبدو شكلي طفوليا بشكل يزيل توتر كل من يقابلني .. نعم هذه الأوصاف يمكنها أن تشكل ملامح مصرية ريفية رغم أنها نادرة الوجود نوعا ما .


    ربما يكون الشيء الوحيد المختلف في شخصيتي هي أنني أعشق السيرك منذ صغري .. لم أفوت أي عرض سيرك أسبوعي أبدا في أي بلد أسكن فيها .. كانت التذكرة بثمن زهيد .. بالطبع كنت أتابع عروض السيرك على القناة الثانية والتي كانت تعرضها مساء كل يوم ثلاثاء .. رأيت عروضا من سيرك باروم في ألمانيا و سيرك دو هيفير الباريسي .. أيضا سيرك بيلاروسيا المذهل .. وأنا لا أمل أبدا رغم أن العروض ربما تبدو مكررة للبعض .. السيرك قديما كان وحشيا .. قتال و دماء و آلاف المشاهدين تصيبههم نشوة القتل ... كان يدعى الكولوسيوم .. الآن أصبح الأمر أكثر تحضرا بالطبع .. لكن صدقني .. ليس أكثر متعة .


    لم يمض الكثير من الوقت حتى وجدت نفسي مسافرا إلى موسكو .. نعم إلى موسكو في روسيا .. أسمع بالطبع سؤالك و أتوقعه .. كنت منذ قليل أبحث عن عمل في جمصة فمالذي أودى بي إلى روسيا .. كان الشهر الأخير من حياتي غريبا جدا .. لكني سأختصر عليك الأمر .. ببساطة سافرت مع العائلة التي أخدمها في إجازة سنوية قصيرة .. وفكرة هذه العائلة المدللة عن الإجازة السنوية هي شهر من الاستجمام في دولة جميلة ..وفي تلك السنة كانت روسيا هي هدفهم .. وقد قرروا أخذي معهم إلى هناك لخدمتهم خاصة أن الأب لن يسافر معهم ... هذه هي قصة ذهابي لروسيا باختصار .. الأكثر أهمية هو ما حدث لي في روسيا نفسها .. وكيف مت فيها .


    من الصعب جدا أن تأخذ شخصا من أبناء جمصة و ترمي به في موسكو هكذا بدون مقدمات ... وتفترض منه أنه سيكون مسؤولا عن عائلة من أم و ثلاثة أطفال ... وصلنا إلى مطار دوموديدفو الذي بدا لي كبيرا ومنظما بشكل مبالغ فيه رغم وجود آلاف المسافرين .. ليس كالمطار المصري الذي يشعرك أنك في حمام كبير مزدحم .. برغم هذا أنهينا الإجراءات في حوالي ساعتين .. فتشوا كل حقائبنا .. لابد أنني لم أرق لهم .. فمن سيفتش على عائلة مسكينة كهذه لو لم يكن معم أحمق مثلي .


    أمضينا الليلة في فندق ما لا أذكر اسمه .. لكنني عرفت أنه في منطقة ما تدعى الريغستراتسيا .. الاسم الذي لم أكن لأستطيع قراءته أصلا وقتها .. كانت رحلتنا إلى روسيا أسبوعين .. قضيت مع العائلة أسبوعا منهما والباقي قضته العائلة والشرطة في البحث عني .. مسكينة هي هذه العائلة .. أعرف تماما كم أفسدت إجازتهم التي لا يحظون بها إلا مرة في العام .


    نعم مشينا على نهر موسكوفا .. ورأينا مبنى الكريملين .. تلك المنطقة بالذات تشعرك أنها متحف للمباني الواقفة أمامك كعارضات الأزياء .. الكريملين .. قصور سانكت .. قصر الملكة إيكاترينا الأحمر .. كاتدرائيات ... متاحف .. أمضينا وقتا جميلا بين معالم روسيا حتى أتت ليلة الجمعة .. كان مقصدنا في تلك الليلة هو سيرك موسكو الكبير .. ولك أن تتخيل كيف كانت حماستي وقتها ... كنت متحمسا حتى يمكنك أن تسمع دقات قلبي .. تلك الدقات التي سمعتها لآخر مرة في تلك الليلة .


    كان السيرك الذي أراه في جمصة و حتى السيرك المصري الروسي في القاهرة مجرد لعب أطفال أغبياء بالنسبة لهذا الحفل الخيالي الذي رأيته في آخر ليالي حياتي .. مدرجات كالمسرح الروماني الدائري إياه .. قاعة عرض عبارة عن قاعدة متحركة على أحدث الأنظمة في منتصف المدرج الدائري.. مصممة بحيث يصبح بإمكانها النزول تحت مستوى الأرض والتحول إلى خمسة أشكال مختلفة .. جليد .. مياه .. رمال .. جمباز .. و أرضية فيلم ماتريكس السوداء .. كنت موهوما ...رأيت عروضا كثيرة متتابعة غاية في الرقي والإتقان .. أذكر أنه كانت هناك دراجات نارية تدور داخل كرة خشبية عملاقة ... لاعبي جمباز يقفزون في السماء بشكل مرعب بينما الخلفية بالأعلى تتحول لتماثل الفضاء الخارجي بنجومه وكواكبه ... فجأة يتحول المسرح لحوض مائي و نرى عرض التماسيح المتوحشة .. وبعد قليل تجده أصبح أرضا رملية تجري عليها الجياد ... كان كل شيء ساحرا جدا .. تبع هذا كله عرض المهرجين .. وهي فقرة محببة لمعظم الناس .. و أنا منهم .


    اختلاف تام عن مهرجي مصر أصحاب الكروش الكبيرة والصوت الأجش والدم الثقيل .. هؤلاء مهرجين على أحدث طراز ممكن .... أرى كبيرهم يلبس عباءة حمراء طويلة و يضع قرنين على رأسه .. ياله من شكل غريب لمهرج .. شعرت أنه يجب أن أذهب إلى الحمام فورا و إلا ستحدث أمور ليست سارة على الإطلاق ... قمت من مكاني و شرعت في البحث هنا وهناك ... وقد طال الأمر معي .. نسيت أن أخبركم أمرا.. لقد كنت مشهورا بالغباء .


    لازلت أبحث .. أنظر إلى المسرح .. غادر المهرجون المسرح وبدأت فقرة الساحر .. رجل وسيم ذو شعر طويل أنيق أسود يرتدي بدلة سوداء ويقوم بحيل عادية في البداية لا تلبث أن تتحول لحيل لا تصدق ... أين أنا ؟ .. يالغبائي .. لم أحفظ مكان مقعدي ... من المستحيل في هذا المكان أن تعرف أين كنت تجلس .. هذه قاعة تسع أكثر من عشرين ألف شخص على الأقل ...ثم أين هو ذلك الحمام اللعين .


    استوقفت أحد العاملين و قضيت وقتا رهيبا معه حتى فهم أنني أريد الحمام .. لغتي الإنجليزية معدومة ويبدو من منظره أنه لم يسمع أصلا عن اللغة العربية .. في النهاية أخذني من يدي و أراني طريق الحمام ..أنهيت أموري بالداخل سريعا .. لكن ما هذه الضجة بالخارج .؟


    هناك صوت مزعج جدا بالخارج .. خرجت سريعا لأرى .. كل شيء يبدو على مايرام .. الناس كلها حبست أنفاسها وتحولت الأرضية لأرضية فيلم ماتريكس السوداء الشهيرة ذات النقاط .. ما هذه الضجة بالخارج ؟ لاحقا اكتشفت أنه لا توجد ضجة بالخارج .. وأن الضجة التي أسمعها هي بالداخل .. هناك دوخة غريبة أشعر بها وصوت غريب لا أدري ما هيته في دماغي .. لا أذكر ماذا حدث .. آخر ما أذكره هو أنني جاث على ركبتي و هناك على المسرح رجال ببدلات سوداء يؤدون عرضا ما يشبه فيلم ماتريكس .


    بالفعل لا أذكر شيئا البتة .. كانت غيبوبة متقطعة فيما يبدو .. كلما أفتح عيني أرى ستارا أخضر غريبا ومجموعة من الأصوات تتحدث بالروسية .. ثم أغيب مرة أخرى عن الوعي ..

    - موﭽـتي كَفَريت ميدلنا ﭘـﭽالستا ( من فضلك هلا تحدثت ببطء ؟ )

    - يا ني خَتشو أب إتم كَفَريت ( لا أريد التحدث عن هذا )

    - تي مني ﭭيريش؟ ( هل تثق بي ؟ )

    - كَنيشنا ( نعم )

    - ﭘرْدَلـﭽيتي سـﭭَيو رابوتو ﭘـﭽالستا ( إذن تابع عملك من فضلك )

    فتحت عيني ببطء .... أرى بعض المهرجين يقفون أمام مرآة كبيرة يبللون منديلا ما بمادة ما في كأس ما ثم يمسحون به المساحيق الملونة على وجوههم ... إن وجوههم كبيرة نوعا ما ... هاهو رئيسهم ذو العباءة الحمراء يتكلم بضع كلمات آمرة لواحد منهم ثم يشرع في إزالة المساحيق عن وجهه بدوره ... ثم بدأ يخلع القرنين القطنيين الذين كان يضعهما على رأسه ... هناك شيء ما لا أفهمه .. أم أنه تأثير الغيبوبة ... هؤلاء المهرجين .. إنهم ..يبدو أنهم ... كان يجب أن أفقد الوعي مرة أخرى .

    أفتح عيني فجأة .. ظلام تام .. صوت جهاز التكييف الرتيب ... أصوات شخير مقززة ... أنا راقد على الأرض وهناك ما يقرب من أربع أجساد نائمة على أربع أسرة حولي .. تسللت إلى أنفي رائحة منتنة .. يبدو أنني كنت أحلم أحلاما رهيبة .. أذكر أنني رأيت مجموعة من الرجال حمر البشرة جدا ذوو أسنان صفراء مقززة يتحدثون إلي بلغة غريبة .. ثم أنه كانت لديهم قرون قصيرة حمراء .. هذه الرائحة منتنة بحق .. و ها أنا أفقد وعيي للمرة الثالثة و الأخيرة في تلك الليلة .

    فجأة استيقظت على أصوات عالية جدا صمت أذني .. هناك ظلام و أضواء ملونة تتابع على وجهي .. أشعر أنني معلق في السماء بشكل ما ... لا أرى شيئا تقريبا مما هو حولي .. لكني أسمع صوت موسيقى من النوع الذي يميز أفلام الحركة .. بدأت عيني تعتاد البيئة وبدأت أسمع أصوات أناس كثيرة من حولي .. صوت شخص يتحدث عبر المايكروفون .. أصوات هتاف و تصفيق من عدد رهيب من الناس لا أراهم جيدا ... فجأة أضاء المكان كله دفعة واحدة .. ورأيت كل شيء .

    أنا معلق على ارتفاع متوسط بحبال محكمة في وسط مسرح السيرك ... حولي عشرين ألف متفرج يهتفون و يصفقون وينتظرون شيئا ما ... نظرت إلى المسرح من تحتي .. أرى أربع مهرجين يدورون حول القاعة بشكل استعراضي ويحثون الجمهور على الهتاف بصوت أعلى .. أمسك كبير المهرجين بالمايكروفون وقال شيئا ما بنبرة استهزاء و أشار إلي .. المفاجأة التي اكتشفتها هي أنني كنت معلقا هكذا مرتديا ملابس المهرجين .. شعرت بالأنف الأحمر الكبير المثبت على أنفي .. لم أستوعب الأمر .. كنت قد أصبحت فجأة مهرجا معلقا وسط سيرك موسكو الكبير .

    شيء ما أشعر أنه جامد في ملامحي كلها .. أشعر أن ملامحي كلها ضاحكة بشكل إجباري .. كلما حاولت تحريك عضلات وجهي أفشل ويظل التعبير الضاحك هو الغالب .. كان عقلي أصغر من أن يستوعب شيئا وقتها .. أسمع ضحكات الجمهور على دعابة ما قالها أحد المهرجين ... بدأت الموسيقى الحركية مرة أخرى .. تلك الموسيقى التي تجهزك لأمر جلل سيحدث بعدها .. الجمهور مترقب .. المهرجين وقفوا على شكل دائرة تحتي بحيث تكون وجوههم إلى الجمهور .. ما الأمر .. لا أشعر أنني على مايرام .. وفجأة حدث شيء رهيب .

    اشتعلت ملابسي بالنار فجأة ... مع صرخات الدهشة من الجمهور .. عشرون ألف صرخة دهشة سمعتها مع حرارة مفاجأة شعرت بها في أطرافي .. إنني أشتعل .. لا لست أشتعل .. إن أطرافي هي التي تشتعل ... النار شبت فجأة في أكمامي و ساقيً الاثنتين .. ولم تمس باقي الملابس ... لا أفهم شيئا ... ملامحي لازالت ضاحكة .. الحرارة تتزايد ببطء .. النار تأكل الملابس التي اكتشفت أنها ثقيلة حجبت جلدي عن النار لفترة وجيزة .. باقي الملابس على صدري و حوضي لا تصل إليها النار لسبب ما... الجمهور تحولت دهشته إلى تصفيق إعجاب ... مهلا أيها الحمقى .. إن ملابسي تذوب .. شعرت بلسعة النار على أطرافي ... الجمهور يصفق .. صرخت صرخة عالية جدا لم أسمعها أنا نفسي ... موسيقى تصم الآذان ... تصفيق حار .. وأنا أحترق .

    أنظر وسط الناس .. وجوه ضاحكة مستمتعة .. أطفال مندهشون .. مهرجين يستعرضون حركات استعراضية على المسرح ... أنا أحترق .. إن أطرافي تحترق أيها السفاحين .. ألا تشعرون ؟ ... أنا أصرخ بألم رهيب .. لكن بلا جدوى ... لازالت ملامحي ضاحكة جدا ... ما هذا الذي أراه وسط الجمهور .. أنا لا أفهم شيئا .. نزلت دموعي الساخنة على وجنتي الملتهبتين .. كانت أطرافي تحترق فعلا .

    تلك النظرة التي حانت مني إلى الجمهور رأيت فيها أمرا لا يصدق ... رأيت العائلة التي أعمل خادما لديهم يضحكون و يأكلون الفيشار و يستمتعون بالعرض جدا ... إنهم يصفقون مع الناس ... لكن من هذا الذي يجلس بجانبهم هناك .. ياللهول ... لقد رأيت نفسي جالسا مع العائلة .. إنه أنا .. ملامحي المتحمسة والمندهشة من تلك العروض الروسية التي لطالما حلمت برؤيتها ... كنت أستمتع وأضحك جدا .. يالهول ما أرى .
    أنا أموت ببطء .. أموت من الألم و الحرقة .. قدماي و يداي تذوبان بالنيران ... ألم لا يصفه ألف حرف ... المهرجين لازالوا يقولون دعابات تضحك الجمهور .. أرى نفسي بينهم أصفق .. و العائلة تصفق بجانبي ... شعرت بنفسي وقد نزل بي الحبل فجأة على الأرضية التي تحولت لحوض ماء كبير جدا .. نزلت في المياه الباردة ثم أخرجني الحبل مرة أخرى عدة مرات و أنا أسمع ضحكات الجمهور ... ثم أخرجني الحبل و علقني مرة أخرى أمام الكل ....لم أكن أشعر بأي شيء ... ببساطة لأن روحي كانت قد فارقت جسدي صاعدة إلى السماء .

    إن ما تعرفونه أيها البشر عن المهرجين لايكاد يذكر .. هل منكم من أحد له صديق أو قريب يعمل مهرجا في سيرك ؟ هل سمعتم من أحد أصدقائكم أن له قريب أو صديق يعمل مهرجا في السيرك .. أعرف أن الإجابة بالنفي القاطع .. أنتم تنظرون إلى المهرج في السيرك و تظنون بتفكيركم البشري الطبيعي أنه شخص عادي له عائلة و يعيش حياة طبيعية خارج السيرك كأي شخص... لكن دعوني أخبركم أمرا .

    هذه الكائنات ليست من البشر في شيء .. إنها من الشياطين .... شياطين خلقت من نار كبقية الشياطين وتنزلت مع بقية الشياطين لتعمل عمل بقية الشياطين... الفارق أنهم شياطين ذوو كيان مرئي ... يؤدون عملهم على أتم وجه .. يمتعون البشر بحركات و أقوال سخيفة تافهة .. البشر يعلمون بسخافتها لكنهم يستمتعون بها .. ويضحكون عليها ضحكات سريعة لا تدري مدى صدقها ..

    لقد أحرقوا روحي البريئة التي لم تفقه شيئا بعد قربانا لإضحاك بعض البشر الذين رأيت نفسي أضحك بينهم . ..هكذا هو المبدأ أيها الإنسان .. نحن نضحكك ونمتعك .. لكنك تضحك على أمر نفسك التي تتعذب في الجهة الأخرى حتى البكاء ..

    نعم هم في كل مكان .. بل إن منهم من يجري منكم مجرى الدم و لا تشعرون بهم .. يحدثونكم وتحدثونهم .. يناقشونكم و تجادلونهم .. هم مهرجين من الطراز الأول ... يصورون لكم أفعالكم كأنها غاية في الإمتاع .. بينما هي غاية في السخافة ... نعم هم شياطين .. منهم من يتنزلون كل ليلة إلى قاعات السيرك .. يؤدون دورهم اليومي ثم لن تدري عنهم شيئا حتى الليلة التالية .. هؤلاء هم شياطين السيرك .

    - تي مني ﭭيريش؟ ( هل تثق بي ؟ )

    - كَنيشنا ( نعم )

    - ﭘرْدَلـﭽيتي سـﭭَيو رابوتو ﭘـﭽالستا ( إذن تابع عملك من فضلك )

    تمت

  3. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية عين الشر


    " العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتي في العين"


    إنها حضرموت .. المدينة الوحيدة العربية التي تحمل نفس الاسم منذ آلاف السنين .. حضارة عريقة لازالت تترك ندوبا في عادات أهلها .. ابتسم بفخر يا رجل فأنت تعيش في وادي المسيلة .. ذلك الوادي الذي كان نهرا عظيما تربت على ضفافه أعتى الحضارات في القدم .. واجعل ابتسامتك تتسع أكثر فأنت منتم لقبيلة الحموم .. القبيلة التي تفخر بين القبائل اليمنية الأخرى أنها لم ترضخ للحكومة الأجنبية أثناء استعمارها للبلاد .. ولو لم تكن من قبيلتنا فابتسم أيضا بفخر لأنك تحدث الآن واحدا من الحموم .. محدثك هو السيد طويبة .. طويبة الحموم .

    معذرة لأنني لم أقدم نفسي أولا .. طويبة الحموم ، مقاول مخضرم من أهل حضرموت .. لكنني لست هنا للحديث عن نفسي .. ولا عن قبيلتي .. أنا هنا للحديث عن ذلك الرجل الواقف هناك .. هل رثيت لحاله من النظرة الأولى ؟ رجل هزيل أعمى في الثلاثينات يتكيء على عصا يمشي بها على غير هدى بينما يعدل النظارة الشمسية الكبيرة التي يحب العميان لبسها لسبب غير مفهوم .. هل تصدقني لو أخبرتك أن هذا الرجل لا يجرؤ أهل اليمن كلهم على الوقوف في وجهه ؟ هذا الرجل الهزيل هو أرحب .. أرحب الحموم .. أخي .

    سأنقل لك الصورة منذ البداية و كأنني أعرض فيلما على آلة عرض أفلام قديمة... فلنبدأ معا .. هل ترى ذلك الطفل الجالس في فصله في انعزال على تلك المنضدة هناك ؟ نعم ذلك الذي تركز عليه الكاميرا .. هذا هو أرحب أخي في سن الثامنة .. إن له حاجبين صارمين نوعا ما ونظرات جادة بالنسبة لطفل في سنه ... الشاشة الآن تعرض لك ست صور لأطفال صغار ، كل صورة طفل مكتوب تحتها اسمه .. وهذا التاريخ الذي تراه تحت كل صورة والذي كتب على طراز ( من عام ...... حتى عام ..... ) يمثل الفترة التي عاشها كل طفل منهم حتى مات .. نعم كلهم ماتوا وهم أطفال .. ربما ستجد كلامي غريبا نوعا ما لكن هؤلاء الأطفال كانوا أقرب أصدقاء لأخي أرحب في فترة الدراسة الابتدائية .

    تنتقل بك الكاميرا الآن إلى مشهد آخر .. هل ترى ذلك الفتى الراقد على السرير ؟ هذا هو أرحب أخي في مرحلة مراهقته .. كان يعاني من إفراط في حبوب الشباب التي استعمرت وجهه لمدة طويلة ... والآن ابق معي .. هل ترى ذلك الشاب الوسيم الواقف يتحدث هناك .. أنت تراه من جانبه الأيمن .. بعد لحظات سيستدير لتراه بوضوح .. ها هو هناك يتحرك .. هل رأيت ؟ .. لا تفزع .. إن الجانب الآخر من وجهه محروق .. اللحم دخل على بعضه ليشكل منظرا بشعا .. هذا الشاب يدعى فاتح .. وهو شاب سيء الحظ .. تعرض لحادث سيارة رهيب احترق فيه نصف وجهه .... حرق لا أمل في إصلاحه .. إن فاتح كان شابا أحبته وعشقته فتاة تدعى سندس ... و سندس هي ابنة خالة أرحب .. وهي الفتاة التي كان يهواها أرحب في تلك الفترة .. بل كان يتنفسها .

    دعنا نكمل قصتنا .. ترى الآن مشهدا من داخل سيارة ... إن الشاب الذي يقود السيارة هو أرحب .. إنه مسافر في طريق سريع ما .. هناك سيارة فخمة تتجاوزه بسرعة ... نظر أرحب إلى السيارة قليلا ثم أعاد بصره ليركز على الطريق ... بعد أكثر من عشرة أميال رأى أرحب السيارة مرة أخرى ... لكنها كانت مقلوبة على جانب الطريق السريع .. تابعها ببصره حتى تجاوزها و أكمل طريقه وهو يهز كتفيه متحسرا في فتور على طيش السائقين الشباب هذه الأيام .

    الآن انتقلت الكاميرا بك إلى مشهد صاخب نوعا ما .. رقص و طبول .. إنه عرس كبير ... كل هؤلاء الحاضرين أقربائي .. أعراس قبيلة الحموم لها طابع خاص جدا .. يمكنك أن ترى العريس بين الحشود .. ها هو هناك .. نعم إنه أنا .. وهو عرسي ...كنت سعيدا لأنني تزوجت فتاة كنت أريدها فعلا .. هذا الجالس هناك هو أرحب .. أراك اعتدت ملامحه وعظام وجهه البارزة الآن ... كانت ليلة من أحلى ليالي حياتي ... استيقظت في اليوم التالي لأجد زوجتي ترقد بجانبي ميته .. سكت قلبها عن الخفقان لسبب لا أدريه حتى الآن .. لقد سمعت عن موت الفجأة و أستعيذ منه دائما .. لكن يبدو أنه أتاني في أحب الناس إلى قلبي .

    هل تريد مشاهد أخرى لتفهم الحقيقة المرة أم أن هذا يكفي ؟ نعم أنا أعترف .. أنا أخ شقيق لأشد عين حسودة في اليمن كلها .. بل في العالم كله على حسب ظني .. إن أرحب الحموم مشهور في اليمن ... لا يجرؤ شخص مهما كان عاقلا رزينا أن يواجهه أو يتعرف به خوفا على نفسه .. كانت هناك أوقات أرى أخي أرحب يمشي ليتباعد الناس عن مساره حتى لا يراهم .. كان مرعبا .. نعم أقولها ... لو كان الحقد رجلا لكان أرحب .

    لقد بلغت شهرته أن عقدت معه أحد المجلات العربية الشهيرة جدا مقابلة كاملة قرأها الكثير من الناس ولم يصدقوها ... كان يقول إن كل شيء يحدث رغما عنه .. عندما ينظر إلى شيء جميل لا يقدر إلا أن ينظر له تلك النظرة التي قد لا تستمر أكثر من ثانية .. لكنها تكون كافية .. ثم يختم اللقاء بالقول إنه ومنذ صغره و الكل يتحاشاه ولا يحبه أحد حتى أقرباءه .. وكل ما يفعله هو أنه يعامل الناس بالمثل .. من حقك أن تكره من يكرهك .. ولو كرهك كل الناس فمن حقك أن تكره كل الناس .. وليس لك أدنى ذنب إذا كان كرهك هذا يؤذيهم بهذا الشكل .

    لم يعاني أحد مثلما عانينا نحن قبيلة الحموم .. لقد أسقط أرحب سمعة العائلة التي أصبحت مرتبطة باسمه المقبض حتى الآن .. هذا بغض النظر عن أن أذيته طالتنا أكثر من غيرنا لأننا أكثر الناس الذين يحتكون به .. عندما تتعامل مع أرحب و تحدثه فإنك تتعامل مع شخص عادي جدا .. لا تشعر بشيء مريب فيه إلا أنه صموت بعض الشيء و كلامه مقتضب وجيز .. لكنك بعد أن تغادره تتكشف لك مصيبة لاتزال تنهش فيك حتى تهلكك .. أحيانا قد يحدث هذا إذا مررت من أمامه و ألقيت عليه التحية فقط ... أو حتى مررت ولم تلقها ... كان رجلا شريرا حقودا .

    لك أن تتصور حال أرحب وشعوره .. كل الذين يكرهونه و يكرههم يرتعبون منه .. لذا كان يتسلط .. لا يجرؤ أحد أن يرفض له طلبا مهما كان ... فعل أرحب كل شر يمكنك تصوره في العالم ... أخذ أموال أناس أمام أعيتهم ... ضرب .. اعتدى .. اغتصب ... وصل إلى مرحلة أن خرجت عليه إشاعات أنه هو المسيح الدجال نفسه .. البعض بدأ يصدق هذا بالفعل ... كان يجب أن يوضح حد لكل هذه المأساة قبل أن ينهار اسمنا على رأسنا ولا تقوم لنا قائمة مرة أخرى .

    لقد أريتك إياه في البداية وهو أعمى البصر يهتدي بعصا حقيرة .. رغم هذا فلا يزال هناك من يرتعب و يرتجف عندما يلتفت ناحيته أرحب وهو أعمى مرتديا تلك النظارات السوداء .. كيف أصبح أعمى ؟ هل هذا سؤالك ؟ إن لهذا قصة ...

    كانت هناك محاولات عديدة لقتل أرحب .. ليس هذا غريبا و كل أهل اليمن يتمنون موته .. لكن كل المحاولات باءت بالفشل رغم أن بعضها كان بالأسلحة النارية ... لكن الله إذا كتب عليك أن تعيش ، فستعيش و لو اجتمع الكون كلهم للفتك بك .. هذه قاعدة مسلم بها .

    أذكر في تلك الأيام ذلك الاجتماع الكبير لقبيلة الحموم ... كل الرؤوس الكبيرة حضروا الاجتماع ....كانوا بالطبع يتناقشون في أمر واحد ... أرحب الحموم .. وما حدث لنا بسبب أرحب الحموم ... كانت الآراء متضاربة جدا إلى حد النزاع الحاد ... لكن في النهاية اتفق الكل على ما سيحدث .. لقد قررنا أن نجرده من سلاحه إلى الأبد ...قررنا أن نغتال بصر ابننا أرحب .

    كان تفكيرنا منطقيا جدا رغم بشاعته ... هذا رجل سيقتل عاجلا أو آجلا .. اسم الحموم أصبح في التراب .. وأصبح ينعكس علينا كأشخاص في تعامل الناس معنا .. لابد أن نفعلها نحن .. لن نقتله بالطبع فلسنا بمجرمين ... نحن فقط سنغتال بصره .. ويجب أن نفعل هذا بأيدينا نحن .. وأن يكون هذا على مرأى ومسمع من كل القبائل ... فيعود لنا ماء وجهنا و تعود لنا هيبتنا بينهم .


    دعني أنقل لك الصورة كاملة كما حدثت في تلك الفترة المشهودة .. وجد أرحب الحموم نفسه ذات يوم مدعوا إلى حفل عائلي بسيط ... عائلة من قبيلتنا تحتفل لسبب عائلي ليس مهما جدا ... من الغريب أن يدعوه أحد ... لكنه قبل الدعوة بساطة وحضر الاحتفال .. في منتصف تلك الليلة أصيب أرحب بدوار مباغت .. دوار أجبره على أن يسند رأسه على المائدة التي كان يجلس إليها ويغيب عن الوعي بهدوء .

    يمكنك الآن أن تراني قد أتيت و معي بعض الرجال من أقاربنا لنحمل أرحب بعيدا عن تلك الصالة وندخله إلى أخد غرف البيت .. يمكنك أن تراني أيضا أكشف عن ذراعه و أحقنه بمادة ما بسرعة .. ثم ترانا نغلق الباب بإحكام وراءنا وننسحب في هدوء ونعود لنكمل الحفل .

    في اليوم التالي يمكنك أن ترى تجمعا في الشارع الرئيسي بوادي المسيلة يزداد كلما مر الوقت ..... كان تجمهرا كبيرا من الناس يبدون و كأنهم أتوا لرؤية حدث ما .. ثم يمكنك أن ترى مجموعة من الرجال يحملون شخصا معصوب العينين ويخترقون صفوف الجموع متجهين إلى ساحة رملية قريبة .. نعم هذا أنا و بعض من أقربائي نحمل أرحب .

    وضعناه على الأرض ... كان مكبلا بشكل يستحيل معه أن يحرك يديه أو قدميه .. الشمس في منتصف السماء والجو حار خانق كأنك تقف في فرن كبير .. هل تتساءل عما نفعله ؟ نحن ننفذ ما اتفقنا عليه نحن أكابر الحموم .. نفعل ما كان يجب أن نفعله منذ زمن .. يمكنك سماع صوت أرحب مكتوما من وراء الكمامة المحكمة التي وضعناها على فمه .. لا أدري لو كنت قد لاحظت أم لا ، لكننا أيضا قيدنا حركة رقبة أرحب بشكل يستحيل له تحريكها .. لا زلت أسمع سؤالك عما نبتغي .. تابع و ستفهم كل شيء .

    الناس ينظرون لبعضهم غير فاهمين لشيء و تعالت أصواتهم ... فجأة أزلنا العصابة عن عين أرحب و اتضح كل شيء ... هناك حديدتان دائريتان غريبتا الشكل كل واحدة موضوعة على عين من عيونه .. ألم تعرف ما هية الحديدتين بعد ؟ إنها أداة استعرناها من عيادة طبيب العيون .. وهي تمسك الجفون لتبقي العين مفتوحة دائما بشكل إجباري مهما حاول المريض إغلاقها .. يستعملونها في العمليات الجراحية على العين عامة .. سمعنا من أرحب صرخة مكتومة لكنها بدت عالية جدا في آذاننا .. صرخة ألم ... فقد كنا قد وجهنا جسده و رأسه عيناه لينظر إجباريا إلى قرص الشمس الكبير .

    حاول أن يتملص مرارا بتحريك جسمه في محاولة للانقلاب على بطنه لكننا طبعا اخترنا أقوى رجالنا لتكبيله و تثبيته على الأرض .. كان أحد مشاهد حضرموت التي لا ينساها أي يمني ... لحظة اغتيال عين الشر ... الناس توقفوا أماكنهم من هول الموقف ... يمكنك أن ترى رجالا من الشرطة يقفون لمشاهدة الحدث دون محاولة للتدخل ... فنحن نفعل فعلا نحافظ به على الأمن العام و ليس العكس .

    كانت هذه هي الخطة ببساطة .. كيف تغتال بصر إنسان دون أن تقدم على أفعال شنيعة مثل فقء العين أو صب ماء ساخن عليها أو حتى اقتلاعها بيدك أو بالسكين أو ضربه عليها مباشرة ... كان أرحب يصرخ .. ويحرك كرة عينيه يمينا و شمالا للهرب من قرص الشمس ... كان يتألم بقسوة ... هل تصفنا بقساة القلوب ؟ أنت لا تعرف الشر الكامن داخل هذا الرجل ... إن الأمر كله يذكرني بمشهد تكرر كثيرا في الحضارات القديمة .. مشهد حرق الساحرة .. لقد كانوا يأتون بها و يصلبونها أمام الكل و يحرقونها .. هي عملية طبيعية يتم فيها تطهير الشر .. الفرق هنا أن الشر متمثل في عيني رجل .

    ظللنا على هذا الحال أربع ساعات كاملة .. حتى نتأكد أن بصره قد احترق .. أصبنا بالإجهاد الشديد نحن وكل الحضور .. في النهاية أضفنا اللمسة الأخيرة .. أخرج ثلاثة منا أقلام من النوع الذي ينبعث منه ليزر ويستعمل في المحاضرات .. تلك الأقلام التي تباع في السوق بمائتي ريال يمني .. وهو سعر زهيد جدا على عكس ما يأتي في الأذهان .. وجهنا الليزر إلى عينيه مباشرة لمدة كافية .. وهكذا أنهينا العملية .. وتطهر اسم قبيلتنا .. كانت عملية اغتيال .. اغتيال بصر .

    أعدنا العصابة على عين أرحب و حملناه على أكتافنا مغادرين المكان إلى منزل العائلة الكبير .. كان منهارا ... وضعناه داخل حمام بارد ليغتسل بعد كل هذا الإجهاد .. ثم أرقدناه على سرير ووضعنا له قماشا مملوء بالثلج على عينيه لنخفف من ألمه .. كان في حالة يرثى لها .. لم ينطق بكلمة ... رغم أن كلام كبير العائلة له كان قاسيا وهو يخبره أنه الآن قد تطهر من شره إلى الأبد وبأنه سيسمح له بالسكن و العيش في أي بيت من بيوت العائلة يختار وهم ملزمين بكافة احتياجاته .. قال له أيضا أنه سيزوجه لو أراد ذلك ... كانت أياما لا تنسى حقا .

    بعد شهر وثلاثة أيام بالضبط توفي أرحب ... وجد ملقى على الأرض في بيت العائلة الكبير .. و خرجت الحموم كلها في جنازته ... كنت من الذين حملوا نعشه ... كانت الجنازة تمشي بهدوء حتى وصلنا إلى مقابر الحموم الشهيرة ... كنا قد جهزنا له قبرا خاصا بعيدا عن القبور الأخرى .. فقد كنا نعتقد أن هذا أكثر أمنا بشكل ما... وصلنا إلى قبره .. لكن ما هذا ؟ لماذا لم يحفر هؤلاء الحمقى القبر جيدا .

    رأيت راعي المقبرة يتجادل مع أحد كبار العائلة و يقسم بأغلظ الأيمان أنه حفر القبر بالحجم المعتاد في كل القبور .. وهو يمارس هذه المهنة منذ عشرين عاما و ليس من المعقول أن يخطيء مثل هذا الخطأ الغبي الآن ... لم نضيع مزيدا من الوقت .. طلبنا منه أن يزيد حجم الحفرة لننهي هذه المهمة بسرعة .. و بالفعل أمسك الرجل جاروفه و بدأ في الحفر .

    لست أدري شيئا عن الحفر .. لكن إما أن هذا الرجل لا يفقه شيئا أو أن هذا التراب لا يتحرك فعلا ..... الرجل يبذل مجهودا هائلا كما هو واضح و جدران القبر كما هي لا تتزحزح .. أخذ يضرب الجدران بجاروفه بقوة بلا فائدة ... وهنا نزل الشباب لمساعدته ... البعض أمسك حجرا ثقيلا وأخذ يضرب على الجدران في محاولة لتوسيع الحفرة ... نصف ساعة كاملة ونحن نحاول .. حتى يئسنا تماما .

    شرع الرجل في حفر قبر جديد . .لكن شيئا حدث في تلك المقبرة ... الرجل أصيب بالذهول العارم ... الأرض لا تستجيب للجاروف كأنها تأباه ... تحول ذهول الرجل إلى رعب و قراءة للمعوذتين .. ثم بدأ اهتمامنا يعود مرة أخرى للقبر الضيق الأول .. حملنا أرحب من نعشه وأدخلناه في ذلك القبر الضيق .. وقد بذلنا في هذا جهدا حقيقيا ... كان هذا هو الحل الوحيد ... لم نعد نريد شيئا أكثر من أن ندفن هذا الرجل لننتهي من هذا العذاب .

    بدأنا في ردم القبر بعد أن أدخلنا أرحب ... حتى سوينا الأرض جيدا .. وبدأنا ننفض التراب عن ملابسنا ... دقائق و سمعنا ما أرجف قلوبنا و أذهل عيوننا كلنا بلا استثناء ... سمعنا صوتا أرضيا خفيفا من النوع الذي تسمعه في وقت الزلزال ... وصوت تكسر عظام واضح جدا .. يا إلهي هل أنا أهذي ؟

    عدنا إلى ديارنا .. وهناك فهمت كل شيء كما حدثنا أحد الشيوخ من قبيلتنا ... حدثنا عن ضيق قبر الحاسد وظلمته .. و هو شيء ليس بغريب على روحه .. ففي حياة الحاسد يكون في كدر نفساني و ضيق دائم في صدره .. ويستمر هذا الضيق معه في قبره ... لكن أن يضم القبر على عظامه حتى يكسرها فهذا عذاب منزل من الله لهذا الرجل الحسود بالذات دون غيره .. هكذا كانت نهاية أرحب أخي .. أرحب الحموم .

  4. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي




    " أنتم صنعتم لنا مكانا مثاليا لنعيش فيه .. ونحن هيأنا لكم مكانا حارقا تموتون فيه "



    أشعر بملل رهيب .. الأيام رتيبة بشكل يصيبك بالنعاس .. أنظر من وراء زجاج ( فاترينة ) هذا المحل إلى الشارع في فتور .. يالكمية البشر .. متى أتى كل هؤلاء إلى العالم ؟ ومتى سيرحلون ؟ إن لكل منهم حكايته .. أشعر أن هناك الملايين من الناس يطوفون بالخارج في هذا الحي المزدحم .. يبدون وكأنهم لا يذهبون إلى أي مكان .. هم فقط يطوفون بالخارج .. هذا الحي في مانيلا هو حي باكو ... ونسميه هنا الحي الأصفر .. وهذا لأن أكثر قاطنيه من اليابانيين الذين وفدوا إلى مانيلا منذ قديم الزمان أيام وجود الإسبان فيها .. الإسبان لهم علامات حضارية جميلة في بلدتنا مثل الكاتدرائيات والحدائق .. أما اليابانيين فأشعر أنهم سمجون جدا .. ولم نأخذ من مجيئهم سوى اللون الأصفر .



    أنا في هذا المحل الشهير في وسط الحي الأصفر .. محل ليفيز للملابس الجاهزة .. ألم ترني بعد ؟ ها أنا أقف هناك في الفاترينة الزجاجية .. أنت ضعيف النظر جدا و أحمق مثل كافة بنو جنسك ... انظر جيدا وستراني .. هل ترى هذه الزبونة الذي أتت تتفحص قميصي في إعجاب ؟ نعم إنه أنا التي أحدثك ؟ أنا هي تلك المانيكان الأنيقة يا صاحب العقل القاصر .. أنا سومارا التي لا يمر عليها شخص إلا و أبدى إعجابه بأناقتها .. بعقليتك القاصرة أسمعك تسأل نفسك كيف أحدثك ؟ بل من أنا أصلا ... كنت أود أن أحكي لك الحكاية التي أدخرها سريعا .. لكن يبدو أنني يجب أن أفسر لك ما هيتي أولا .



    نحن هنا منذ البداية .. نحن هنا قبل أن تأتوا أنتم .. هنا منذ ملايين السنين .. والأرض بأكملها كانت ملك لنا وحدنا .. وعندما نزل جنسك البشري إلى الأرض .. حكم علينا بالاختفاء .. تسألني من نحن ؟ إننا الجن أيها القاصر ... الجن الذين تحجمت جميع ممالكهم وإمبراطورياتهم ونفوذهم بسبب كائن أحمق مثلك .. لكننا موجودون .. أنت لا تدري بقصورك و غرورك أننا في كل مكان حولك .. بل إن منا من وكلوا ليكونوا قرناء لشخصك القذر يتابعك أينما تذهب .. ولولا أن هناك حدودا وضعت بين جنسنا الفاخر وجنسك الضعيف لكنا حولنا حياتك إلى جحيم ... وكل حد بين شيئين له ثغرات عدة ... وبسبب كرهنا الشديد لك فقد أصبحنا خبراء في استغلال هذه الثغرات .. وسنظل نفعل هذا ولن نمله على الإطلاق .



    نعم أنا الجنية التي تسكن ذلك المانيكان بريء المنظر الذي يتوسط هذا المحل ... إن الجان أنواع عديدة تفوق قدرتكم على التفكير .. وأنت لا تتخيل أن هناك جنس كامل منا يسكن في تلك الأجساد والتماثيل التي تصنعها أيديكم .. شرط أن يكون هذا الجسد برأس ذات رقبة .. سواء كان جسد إنسان أو حيوان أو حتى جسد كائن خرافي ... فور انتهاء صانعيكم من صنعه يحل فيه واحد من جنسنا .. وأنتم تفرطون في صنع هذه الأجساد بمسميات كثيرة ... الأصنام الأثرية .. التماثيل في المتاحف أو الميادين .. المانيكانات ... ألعاب الأطفال بأنواعها .. أيها القاصر ... هل أدركت الآن أننا حولك في كل مكان وأنت لا تشعر ؟ مهلا .. هناك وجه جديد أراه لأول مرة يعمل في محلنا .. فتاة مكتنزة متوسطة الجمال ..ذات ملامح غير مريحة ... يبدو أنه قد تم تعيينها اليوم فقط ..



    إنها ترتدي ذلك الزي الأزرق الذي ترتديه العاملات في محلنا .. قميص و تنورة قصيرة فوق الركبة وربطة شعر زرقاء ... إنها تضحك مع جريس .. جريس تعمل هنا منذ سنوات ويبدو أنهما سيكونان صداقة ما .. هي أحد المحظوظات ....لإنه لا يعمل في محل ليفيز الشهير إلا المحظوظات فقط .. قطع ضحكاتهن أن دخل المحل شاب ياباني وسيم ألقى التحية بصوت عال ..وعندما أقول أنه شاب ياباني وسيم فما أعنيه هو أن عيناه أوسع من غيره ... اليابانيون يحملون عقدة من ضيق عيونهم دائما ، لذا تجد كل شخصيات الكرتون اليابانية ذات أعين واسعة جدا تحمل ثلث الوجه ... هذا أول شرط تتعلمه إذا أردت احتراف هذا النوع من الفن .. الرسم الياباني يصب الاهتمام على العين فقط بينما تقتصر باقي ملامح الوجه على بعض الخطوط هنا وهناك ... الخلاصة أن الشاب الوسيم كان يحتاج إلى بزة رسمية .. وهاهي جريس قد ساقته وراءها لتختار له شيئا مناسبا ... وهاهي تلك الفتاة الجديدة - التي عرفت فيما بعد أن اسمها هو مادل - تمشي وراءهما لتتعلم كيفية جعل الزبون يخرج من المحل وقد صرف كل ما يملك .



    الحكاية المعتادة .. الشاب غاب عقله تماما عن جريس التي نبحت صوتها في الكلام عن هذه البزة أو تلك .. بينما عيناه تسترق نظرات إلى مادل .. إنه عيب هذه المهنة ... من الصعب أن تكمل فيها فتاة مكتنزة متوسطة الجمال .. لكن مادل رسمت وجها ثلجيا وأبدت أنها تهتم لكل كلمة تقولها جريس ... الشاب استنفذ كل الطرق التي يمكن أن تجذب بها اهتمام فتاة ما .. لكن الجليد على وجه مادل كان يزداد ... جرب الفتى أن يكون طريفا ففشل .. جرب أن يضيق عينيه من حين لآخر ليعطي انطباعا بالخطورة ففشل .. جرب أن يسأل مادل عن رأيها في كل قطعة تعرضها له جريس فكانت تقول كلمات مقتضبة جدا من النوع الذي يقتل فيك أي رغبة للحديث .. في النهاية تظاهر الفتى أن وراءه أمرا ما ... فقط ليعود ثانية بالطبع فيجرب مرة أخرى ... هذا السيناريو رأيته آلاف المرات ... وسيتكرر اليوم عشرات المرات مع عشرات الفتيات ... ألم أقل أنها حياة رتيبة ؟



    قل لي هل أخبرتك كم يكرهك جنسنا ؟ وكيف أننا نستغل أي فرصة للظفر بك ؟ أنت لا تعرف أن جنسنا هو سبب أي حريق حدث في هذا الكون .. راجع الملفات الجنائية لأي حريق وأحص بنفسك عدد المجسمات والتماثيل التي كانت موضوعة في المكان .. كيف نسبب الحريق ؟ سؤال أحمق كصاحبه .. سل لماذا نسبب الحريق ... لازلت تجعلني أتكلم في أمور لا أريدها .. إن جهلك لا يطاق .



    لقد أتينا من النار .. هي جزء من أرواحنا .. وعندما تتقد وتشتعل في عالمك القاصر ، يكون الانضمام إليها من أجمل متعنا .. و الذوبان فيها هو قمة شهوتنا و نشوتنا .. لكن ليس لأجل النار نفسها .. بل لأجل الأرواح التي تحرقها في طريقها .. دعك من اللذة الغامرة التي تنتابنا عندما تحرق هذه النار أرواح بشرية .. البشر ضحايا أغبياء .. ونحن نشعلها نارا كلما سنحت لنا الفرصة .. هل قابلت بشريا بعد أن مات بالاحتراق ؟ هل حدثك عما رأى ؟ هل حدثك عن جنسنا ؟ لن أتحدث أكثر من هذا .. التزم الصمت و دعني أكمل لك ما بدأته .



    في اليوم التالي دخل علينا الشاب الياباني واسع العينين نفسه و ألفى التحية بصوت عال ... اتجهت له جريس و تكلما بضع دقائق ... ثم مشت ومشى وراءها .. أشارت لمادل لتتبعهما ففعلت .. وها هي تعرض له أنواعا من البزات ... وها هو ينسى كل شيء ويحاول أن يجذب انتباه مادل التي رسمت الوجه الثلجي إياه .. وأجابت بنفس العبارات المقتضبة إياها .. في النهاية مثل الفتى وكأن هناك موعدا هاما وراءه وانصرف بسرعة ... هذا يبدو مألوفا جدا .. لقد قلت أن الحياة رتيبة وتتكرر .. لكن ليس هكذا .. في اليوم التالي أتى الفتى الوسيم إياه .. و ألقى التحية إياها ... و اتجهت له جريس .. و عرضت له الأنواع إياها .. و مادل كانت هناك بالوجه الجليدي إياه .. وفي اليوم التالي أتى نفس الشاب و ...



    مهلا ... ألاحظ أشياء غريبة هذه الأيام بالفعل ... الفتى الكاشير الذي يدعى موديستو يتشاجر كل يوم مع رجل سمين ذو شارب كث يأتي و يبدأ بالتذمر على الأسعار ثم ينتهي بسب موديستو بأمه ... هناك كذلك طفل شحاذ ذو شعر أحمر ناري يدخل هنا كل يوم ويتفحص بعض الملابس في قسم الأطفال حتى يأتي رجل الأمن الضخم المدعو بينجي فيلقي به خارجا ... أرى الآن أمامي امرأة ممتلئة جدا تدخل مع زوجها .. هذه تأتي كل يوم في هذا الوقت و تخرج وقد اشترت نفس أنواع الملابس ويخرج زوجها كل يوم متذمرا ... هناك فتيات يأتين هنا كل يوم بملابس المدرسة بعد انتهاء يومهم الدراسي و يقفن لتفحص نفس أنواع الملابس كل يوم .. وكل يوم يخرجن ضاحكات ولا يشترين شيئا .. وهاهو الفتى الياباني الوسيم يدخل مرة أخرى ...



    إنه منتصف الليل ... موعد إغلاق المحل قد حان الآن ... لازال هناك زبائن قليلة جدا يحاول الكاشير موديستو أن ينجر أمورهم بسرعة .. لم تمض عشر دقائق إلا وقد أصبح المحل خال .. وبدأ رجل الأمن يغلق أنوار المحل تدريجيا ... ثم أغلق أبواب المحل الكبيرة .. فساد الظلام الدامس ... و سمعته يغلق الأبواب الحديدية في الخارج .. ثم انصرف الجميع ... إنه وقت حريتنا الآن .. أخيرا يمكنني التحرك بهذا الجسد الغبي الذي أسكن فيه ... لست وحدي هنا ... هناك قبيلة كاملة من المانيكانات بدؤوا يتحركون الآن بحرية في المحل ... نعم ... نحن نأخذ حريتنا عندما تغيب عنا أعينكم القذرة .. لا خوفا منكم حاشانا .. و إنما لأن هذا قانون صارم جدا على جنسنا كله ... كل ذا رقبة يتحرك عندما تغيب عنه أعين البشر ... و البشر أغبى من أن يلاحظوا شيئا عند عودتهم إليه ... حتى لو تغير وضع وقفته فهم أغبى من أن يلاحظوا .. و إن لاحظوا فإن تفكيرهم أكثر قصورا من مجرد الشك في حقيقة ما حدث .

    أرى الآن المانيكانات ميريل و نيبريدا و سييلو و أفانسينا و ديلاروز كلهن وجدنها فرصة لفك القيد الذي كانت تحاصرهم به أعين البشر وبدؤوا في التحرك و الحديث بحرية ... بالفعل لاحظ الكل أن هناك مشاهد تتكرر كل يوم منذ أسبوع بشكل مستفز ... حتى أن سييلو أقسمت أن هناك شاب يأتي كل يوم ويتحسس قميصها بإعجاب ثم ينادي العامل و يصر أن يشتري القميص الموضوع عليها وليس الموجود على الرف .. ويصر على رأيه حتى يضطر العامل أن يخلع القميص عن سييلو و يبيعه إياه بسعر أغلى من سعره ... و يأتي الفتى كل يوم ويشتري كل قميص يضعونه على سييلو المسكينة .

    طبعا كل ما أقوله لك الآن غريب على مسامعك ... لكننا اتفقنا على أنك قاصر العقل ... هذه الأمور نراها نحن أقل غرابة لأننا نعرف أكثر .. نعرف أن القرين بعد موت صاحبه وبعد مضي مئات السنين عل الدفن ، يكلف أن يعيد أداء مشاهد معينة من حياة صاحبه ... لماذا ؟ لا أحد يدري ... ولا أحد سيدري ... إنها أسرار جنس كامل .. في عالمك إفشاء الأسرار شيء سهل جدا ... لكن عالمنا يختلف ... هذه أشياء مستحيلة الحدوث ... هذا يعني أن كل هؤلاء الذين يأتون و يروحون كل يوم هم قرناء ... لكن لماذا يجتمعون كل يوم في محل ليفيز للملابس الجاهزة ؟

    إنه يوم جديد .. أرى نفس الشخصيات قد أتت و اجتمعت في المحل كل يؤدي مشهدا رأيته عشرات المرات من قبل ... جريس تحاول منذ أسبوع إقناع الشاب الياباني أن يشتري شيئا ما .. وهناك ذلك الشاب يجادل العامل في أمر قميص سييلو ... فجأة حدث شيء في غاية الغرابة ... بدأ بعض الشباب يغلقون أبواب المحل فجأة بعنف .. وعلت همهمة الزبائن .. أفاق الحارس بينجي من غفوته .. لم يستوعب شيئا ... أخرج الشباب مسدسات من مكان ما و أطلقوا عدة طلقات في الهواء .. هذه عملية سطو مسلح .. والسطو على محل ليفيز في هذا الوقت من اليوم مربح جدا .... من ذا الذي قال أن الحياة مملة .. كم أحببت هؤلاء الشباب .

    صرخات نساء .. بكاء أطفال ... همهمات رجال ... طلقات مسدسات .. مجرمين يطالبون الكل بالجلوس على الأرض ... أرى الكل قد جلس .. لكن ذلك الطفل الشحاذ ذو الشعر الأحمر مازال واقفا بتحدي .. و أرى أيضا ذلك الرجل السمين ذو الشارب الكث كف عن التشاجر مع موديستو ووقف مقطبا جبينه رافضا الجلوس ... فتيات المدارس توقفن عن الضحك و نظرن نظرة جامدة و أبين أن يجلسن مع الجالسين ... الشاب الياباني إياه أراه يقف راسما أعتى علامات الخطورة على وجهه ... طلقات المسدس اشتعلت مرة أخرى ... صيحات مجرمين ... إنهم يهددون الواقفين بتحويل أجسادهم إلى مصفاة ... وهاهو أحدهم يصوب مسدسه على الرجل ذو الشارب الكث ... وهاهو الرجل يقف في تحدي .. وهاهو المجرم يطلق النار .

    " لكن لماذا يجتمعون كل يوم في محل ليفيز للملابس الجاهزة ؟ "

    صرخات نساء ورجال .. نحيب أطفال .. كرش رجل ذو شارب كث ينزف دما بينما يقف الرجل مكانه وكأن كل هذا لا يعنيه ... مجرمون ينظرون في ذهول ... مجرمون آخرون يصوبون مسدساتهم ويفتحوا النار على صاحب الشارب الكث .. دماء تنزف ... رجل سمين ذو شارب كث يبدو بصحة عالية رغم أن جسده تحول إلى مصفاة .. مجرمون تحول ذهولهم إلى رعب جنوني وبدأوا في إطلاق النار في كل مكان على كل الواقفين .. طفل شحاذ ذو شعر أحمر ينزف دما أحمر من رأسه بينما ينظر في جمود ... فتيات مدارس لوثت ملابسهن المدرسة بدمائهن بينما ينظرن لبعضهن في فتور ... صرخات مجرمين ... زبائن مغمى عليهم أو ماتوا بالسكتة القلبية لن تعرف أبدا .

    " وجه جديد أراه لأول مرة يعمل في محلنا "

    أسمع أصوات سيارات الشرطة بالخارج .. أرى المجرمين في حالة من الذعر .. ليس من الشرطة بالطبع وإنما مما رأوه بداخل محل ليفيز .. هاهم يفرون إلى الباب .. رغم أن الشرطة بالخارج إلا أنها أكثر رحمة من هذا العذاب .. يحاولون فتح الأبواب التي أغلقوها ... لكن لا مجال .. لقد أوصدت الأبواب .. لا تسأل عن الكيفية .. فقط أوصدت .

    " فتاة مكتنزة متوسطة الجمال ..ذات ملامح غير مريحة "

    نظر المجرمون إلى الخلف في رعب .... وهنا رأى الكل مشهدا عجيبا ... بدأت الملامح الجامدة لكل الواقفين الذين أخافوا المجرمين تتحول إلى ملامح مذعورة جدا .. ملامح رسمت عليها أعتى علامات الرعب .. وكانوا كلهم ينظرون إلى نقطة واحدة .. مادل ... التي بدأت تطلق النار عليهم بدورها ... لكن في هدوء شديد .... وأصبحوا يتساقطون أمام طلقاتها .. لا تزعج عقلك القاصر بالتفكير ... هذه الفتاة هي قاتلتهم ... وموضوع تكرر المشاهد لم نلاحظه إلا بعد عمل هذه الفتاة في المحل ... كانت هذه هي قاتلتهم في حياتهم الحقيقية ... وقاتلتهم بعد مماتهم .

    مهلا ... أرى المانيكان ديلاروز بدأت في إعطاء إشارة ما .. هناك سيجارة مشتعلة سقطت من فم أحد المجرمين إلى الأرض الرخامية .. لكن ديلاروز نجحت في جعل السيجارة تلامس أحد أقمشة الملابس المعروضة .. نجحت ولم ينتبه أحد لحركاتها وسط كل هذا الجنون ... هذا يعني أن الموازين ستنقلب .. وأنه دورنا في هذه المسرحية .

    نار بدأت صغيرة لكنها اشتعلت بسرعة غير مفهومة في كل ما حولها .. سرعة اشتعال النيران في الحرائق نحن سببها الوحيد .. فالجذوة الصغيرة يمكننا جعلها نيران رهيبة تأكل غابة بأكملها .. الناس تصرخ .. المجرمون يصرخون .. هناك أجساد واقفة تنزف منها الدماء وتنظر لكل ما يحدث في برود تام .... واشتعلت النار أكثر ... أسمع ضربات على الأبواب بالخارج ... هناك نوافذ لكنها عالية جدا وتحتاج لسلالم ليمكن الوصول إليها .

    الكل في الداخل أصبح يجري و يصرخ .. ضربات على الأبواب و محاولات مستميتة لفتحها دون جدوى ... تسألني من أوصد الأبواب فجأة هكذا ؟ .... لا تستهن بجنسنا أيها القاصر ... لحظة إنهم يكسرون الباب من الخارج ... إنهم ينجحون في هذا ... لقد كسروا الباب الكبير الرئيسي .... الكل في الداخل والخارج توافد على الباب ... أناس بالداخل يودون الخروج .. و شرطة بالخارج تحاول الدخول للقبض على بعض من في الداخل ... لكن مهلا ... فجأة سقطت كل الأبواب الحديدية الخارجية واصطدم بها الجميع ؟ هل ستعاود سؤالي عمن أنزل الأبواب أيها القاصر عديم النفع ؟ من خلال الباب أرى في الخارج سيارات مطافيء قد وصلت للمكان و بدأت في تحريك سلمها في اتجاه النوافذ العالية ... لكن هيهات ... لقد كان حفلنا قد بدأ ... وصل حجم النار إلى الحجم الذي يسمح لنا بالتحرر ... وقد تحررنا ...

    نعم يمكنني أن أقول أنها كانت ليلة غاية في اللذة و الإشباع ... أرواح بشرية بريئة .. وأرواح مجرمين .. وروح قاتلة مسلسلة .. وقرناء سيئ الحظ .. إن جنسنا هو الذي يسود في النهاية .. لا أحد يقف أمام النار .. نيراننا توقدت في وجه رجال الإسعاف الذين كسروا النوافذ و بدأوا في إطلاق المياه من خراطيمهم السخيفة ... هؤلاء تساقطوا من فوق النوافذ إلى داخل المبنى و ليس إلى الخارج ... من الممتع إضافة أرواح أبطال المطافيء أيضا إلى المجموعة .

    في داخل محل ليفيز للملابس كنا نتحرك .. فجأة رأى الناس مجموعة من المانيكانات دبت فيها الحياة و توحشت ملامحها وصارت تعطي تعبيرات بوجوهها كالبشر تماما ... وتوحشها ليس توحشا عاديا .. كان توحشا رهيبا حارقا ... كنا نمسك بواحد من هؤلاء البشر و النار مشتعلة فينا .. و نقبض على جسده حتى تشتعل فيه النار .. ويحترق ... ليس فقط يحترق .. إنه يحترق و تحترق روحه معه .

    إنها لذة ما بعدها لذة ... لثد قدرت جريدة مالايا الفلبينية عدد ضحايا هذا الحريق بحوالي مائتان و سبعون شخصا ... وكتبت كلمات بشرية حمقاء عن الخبراء الذين تحدثوا عن ماس كهربائي ما ... وعن تحليل جنائي للحريق وعلاقته بمجموعة المجرمين الذين صادف وجودهم هناك في ذلك الوقت .

    مرحبا بكم مرة أخرى .. محدثتكم سومارا من محل يوكاي للملابس الجاهزة على أطراف مانيلا ... نعم أنا المانيكان ... هل تفتح عقلك و أصبحت تدرك معنى هذه الكلمة الآن يا صاحب العقل القاصر ... لن أعرفك على باقي المجموعة ... يمكنك رؤيتهم بنفسك ... نيبريدا و سييلو و أفانسينا ... كلهن واقفات بأناقة هنا وهناك .. و مجموعة من الوجوه البلهاء تنظر لهن في إعجاب ... نحن المانيكان .. بل نحن أكثر من هذا .. لطالما كنا نراقبك .. وسنظل نراقبك .. و إننا نراقبك الآن .. لا تنظر لنا هكذا أيها القاصر ... فقط تذكر ما قلته لك يوما ... لولا أن هناك حدودا وضعت بين جنسنا الفاخر وجنسك الضعيف لكنا حولنا حياتك إلى جحيم .. لكنها فقط مسألة وقت ... نعم ... إنها مسألة وقت .

  5. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الدماء المقدسة


    "يابني أنا والدتك .. لكنك إذا رأيتني وقد طال الشعر على وجهي و تقوس ناباي و أصبحت أكره نور الصباح ، فاقتلني يابني "


    كم أمقت تلك الأيام التي كنت فيها واحدة من أمثالكم .. أفكر مثلكم .. أحلم أحلاما حمقاء و أبحث عن متع زائفة.. أتجمل و أتعطر لأبدو أكثر احتراما أمام أناس يتجملون و يتعطرون لنفس السبب .. أقرأ كتبكم البلهاء لأبدو أكثر ثقافة أمام مجموعة من الجهلاء ... والآن أنظر إلى ما أنتم عليه من التدهور ثم أنظر إلى مرآتي و أبتسم ... لست شخصية أنانية لأستأثر لنفسي بما وصلت إليه ... بل إن هدفي أن يرتقي غيري في السلسة الحيوية كما ارتقيت .. أعود أنظر إلى مرآتي و أبتسم ... و ناباي يبتسمان معي في سخرية .

    سأتبسط في حديثي نوعا ما .. فأنتم تحتاجون إلى هذا .. أنا الدكتورة بريانكا شونرا ، استشارية أمراض الدم الشهيرة بمستشفى العائلة المقدسة في بومباي بالهند .. توفي زوجي و أنا طالبة في الكلية خلال السنين الأولى من زواجنا .. كنت قد أنجبت منه ابني راج .. بعد وفاة زوجي كرست حياتي كلها من أجل راج .. وراج وحده .. لأجله تخرجت من كليتي بدرجات عالية .. ولأجله وحده سافرت إلى انجلترا و أمريكا لأحصل على الماجيستير و الدكتوراه وهو معي .. ثم عدت إلى الهند .. كان تخصصي في الطب هو أمراض الدم .. ولا أدري لماذا اخترت هذا المجال بالذات .. لكني شعرت أنه الأنسب .

    وصلت إلى كل ما تحلم به أي طبيبة في الهند من ناحية المادة و مستوى المعيشة المتقدم ... سيارة فاخرة .. بيت كبير في بندره بمدينة بومباي .. راتب شهري يزيد جدا عما يجب أن تكون عليه حاملة الدكتوراه من أمريكا ... ربيت راج تربية صارمة جدا .. كنت اختار له كل شيء منذ أن كان طفلا مرورا بمرحلة المراهقة وحتى هذه اللحظة وهو في بداية العشرينات .. ملابسه .. قصة شعره ... وحتى كلية الطب فرضتها عليه فرضا .. فرضت عليه الفتاة التي يجب أن تكون زوجته .. ولكن راج عند هذه النقطة عصاني .. نعم يمكنك أن تفرض على أي شخص أي شيء إلا أن تفرضعليه أن يحب أو يكره .

    هذه مشكلة كل أم في العالم تربي ابنا وحيدا .. هي تفني عمرها كله من أجله فقط لتأتي طفلة من صاحبات الصدور غير المكتملة لتأخذه على طبق من ذهب .. فقط لأنها ضحكت له ذات مرة في بلاهة .. لن أسرد لكم تلك الدراما الاجتماعية المألوفة .. أنتم في غنى عن كل هذا .. بل إن كل هذا سخف بشر .. ولست هنا للحديث عن سخف بشر ... تعرفتم علي بما فيه الكفاية الآن ... ما أنا هنا للحديث عنه هو الطوق الذي سينقلكم من بحر السخف الذي تعيشون فيه إلى بر الرقي .. أنا هنا لأحدثكم عن البورفوريا ... وتذكروا هذه الكلمة جيدا .

    إن الدم مخلوق عظيم .. هو ليس مجرد سائل كما تقول كتبكم ... بل إنه مخلوق .. لأنه حي .. كل شيء فيه حي .. بداية بالبروتينات الجانبية التي تنقل الغذاء وانتهاء بالخلايا البيضاء الدفاعية ... لقد نوهت لك أنني استشارية في أمراض الدم .. تعلمت الدم في أرقى مدارسكم العالمية .. علمتموني أن البورفوريا مرض خبيث يصيب الدم و يجب التخلص منه قبل أن يتفاقم .. و بذلتم جهودا خرافية لعلاجه حتى نجحتم وببراعة .. إن البورفوريا أيها الجهلة هي حالة مقدسة تمر بها دماؤكم البشرية لترتقي .. أنتم تذكرونني بالشخص الذي اكتشف جذوة نار دافئة في صحراء شديدة البرودة فأطفأها ظنا منه أنها ربما ستحرقه .

    فلنر ماذا تقول كتبكم ؟ تقول أن الدم ببساطة يتركب من مادة معقدة نوعا ما تدعى هيموجلوبين .. و أن الجسم يصنع هذه المادة ذات الاسم المعقد من مادة أبسط تدعى هيم ...هذا ما تتشدقون به ليل نهار ... لكن عندما يحدث تحور غير مفهوم – كما تقولون - في مادة الهيم البسيطة ، فإنها لا تصنع هيموجلوبين في النهاية بل تؤدي لصنع مواد أخرى غريبة – كما تقولون – أحدها يدعى البورفرين ... وهذا الأخير عندما يتراكم في الدم يوصله لحالة مرضية – كما تقولون – تدعى البورفوريا .

    علمتمونا كيف نعرف مريض البورفوريا عندما نراه أمامنا ؟ ألم رهيب في البطن .... قيء متكرر .. ثم نلاحظ أن المريض زادت نسبة الشعر في وجهه .... و أصبح حساسا جدا لأي ضوء .. ثم وفي النهاية يلتوي ناباه و يزيدان في الطول ... بعدها تبدأ حاجته إلى الدماء تزيد شيئا فشيئا ... هل يذكركم هذا بشيء ؟ بالطبع أنتم تأخذون هذا المريض إلى عياداتكم و تعطونه كل الدماء التي يحتاج إليها بأسلوب طبي ثم تعزلوه عن الناس حتى لا تعدي حالته أحدا ... و تعالجونه حتى يعود إلى طبيعته .

    ما لا تقوله كتبكم ولن تصل إليه عقول علماؤكم هو أن من تأتيه البورفوريا يبدأ دمه في التحور من الدم البشري ليصبح ذا طبيعة أخرى أكثر رقيا ... طبيعة الفامباير .. أو كما تسمونه في مصطلحاتكم الناقصة بمصاص الدماء .. أنتم أطلقتم هذا الاسم لأول مرة على الامبراطور فلاد الثالث ، امبراطور مقاطعة والاشيا برومانيا والذي أسميتموه ( دراكيولا ) أو الشيطان .. رغم أنه لا علاقة تربطه بالشياطين .. إن السيد فلاد ليس أسطورة خيالية ... لقد ارتقى السيد فلاد وتحور من الطبيعة البشرية إلى طبيعة الفامباير المقدسة .. بل و أصبح أشهر فامباير بالنسبة إليكم .. ليس هو كبير عشيرة الفامباير كما هداكم خيالكم المريض .. هو فقط أكثرهم شهرة .... بالطبع استلهمتم من شخصيته الكاسحة أفلاما و روايات لا عدد لها .. وجنيتم من وراءه أموالا لا حصر لها كعادتكم البشرية المعروفة .

    كثير من البؤساء المشهورين أتاهم ذلك النداء – البورفوريا – لكنكم حطمتموه قبل اكتماله ... و أشهرهم الملك جورج الثالث و جدته ماري ستيوارت ... أنتم تظنون أن الفامباير هي أجناس مرعبة و مؤذية كالجن و الشياطين .. هذه حماقة .. إن هدف مصاص الدماء .. أي مصاص دماء هو ترقية البشرية و إعطائهم شرف الوصول إلى الحالة التي وصل هو إليها ... فيما سيأتي سأحكي تجربتي الشخصية مع البورفوريا .. أنا ارتقيت من استشارية بشرية شهيرة حمقاء إلى أكبر مصاصة دماء في الهند بأكملها .

    بدأ كل شيء بالصدفة ... في السنين الأولى من عملي بمستشفى العائلة المقدسة .. بالمناسبة هذا مجرد اسم وضعوه للمستشفى لكنها لا تتعلق بأي عائلات مقدسة ..بدأت الحكاية عندما دخلت على عيادتي الشهيرة فتاة متوسطة الجمال في مرحلة المراهقة .. فاتحة اللون عكس معظم فتيات الهند و ذات عيون بنية يائسة .. تملك شعرا أصفر جميلا تجعله كبنات المدارس الصغيرات حيث ترى خصلتين يخرجان من الشعر كقرون الاستشعار .... كانت تبدو مريضة جدا .. اللون الأصفر الشاحب ينطق من وجهها المراهق ويعطي تأثيرا دراميا مع لون شعرها .. أنا استشارية أمراض دم .. ومجيء هذه الفتاة عندي يعني أنه تم اكتشاف أن لديها غالبا فقر دم ككل الفتيات اللواتي يأتين إلي كل يوم ويتبين أن لديهم نوع من أنواع فقر الدم الخمسة .. لكن ومنذ نطقت الفتاة كلماتها الأولى اتضح لي أنها حالة من الحالات التي يعرف الطبيب أنها ستستهلك الكثير من وقته بالفعل .

    بورفوريا .. هذا مؤكد .. رأيت حالات بورفوريا نادرة فيما سبق من حياتي كان معظمها أثناء إنهائي لرسالة الماجيستير في لندن .. مريض يشكو من الآم في البطن و يحكي عن هلاوس يراها ويسمعها طيلة الوقت لدرجة أن معظمهم يتم تحويلهم للعيادة النفسية لتشارك في العلاج ... كانت الفتاة تدعى ريا .. وهذا كل ما تهمك معرفته حاليا .
    كانت ريا هي أول حالة بورفوريا أراها في الهند .. وقد تصرفت كما تتصرف أي طبيبة استشارية تستحق مركزها وبدأت في طقوس العلاج بالترتيب الذي تعلمته و أعلمه لتلامذتي .. لكن ريا كانت تتصرف بحدة .. وترفض العلاج بقسوة إلى حد أننا كنا نكبلها على سرير المستشفى لنسقيها أو نحقنها العلاج بالقوة .. لا أفهم لماذا أتت إلينا لو كانت ترفض العلاج بهذه الطريقة .... كل ما قالته لنا هو أنها فتاة في السنة الأولى من الجامعة .. و أنها تريد أن ترتاح من آلامها .. و أن اسمها ريا .. و أنها هاربة من بيت أهلها مؤقتا .

    - مقدسة أنفاسنا .. مقدسة دماؤنا .. من الظلام المقدس أتينا .. و في الظلام المقدس نعيش .. وإلى الظلام المقدس نعود ...
    - ماذا تقولين يا ريا ؟
    - خلقنا منذ خلقت الدماء على الأرض .. محرم علينا النور .. محرم علينا الهرم ..
    - إلى متى ستعيشين وسط هذه الأوهام يا فتاتي ؟
    - دماؤكم غذاء أرواحنا .. منها نرتوي ... و ...
    - أفيقي يا ريا .. أفيقي ... فلترحمنا السماء
    - نهاركم ليل لنا .. و ليلكم نهار لنا ..
    - ريا ؟
    - نداؤنا شرف لكم .. فمنكم من يرضى الشرف .. ومنكم من يرضى العار ..

    لقد كانت ريا مصاصة دماء .. لم أكن أفهم شيئا وقتها .. كانت دماؤها تمر بالحالة الانتقالية المؤلمة التي يجب أن يمر بها أي فامباير.. لسبب ما كنت أقدم لها العلاج بشكل غير كامل .. ربما شفقة عليها و استجابة لرغباتها .. وربما فضول لأرى هذه الحالة الغريبة عن قرب .. رأيت كيف نمت لها شعيرات خفيفة ملحوظة على وجنتيها .. وكيف بدأت أنيابها تطول وتلتوي حتى أصبحت مخيفة فعلا .. وكيف كنت أكبلها على السرير فتجد قوة هائلة لفك القيد والانقضاض عليً ... أذكر كيف كانت شراستها حين خمشتني بأظفارها وفي وجهها ذلك التعبير الشبيه بالنمور ... وكيف حاول رجال الأمن إيقافها فاندهشوا من قوة جسدها الضعيف ثم أذكر كيف راوغتهم و هربت .. أذكر أيضا كيف تغيرت حياتي بعد تلك الليلة .. وكيف فهمت كل شيء على حقيقته .

    قرأت كل شيء كتب عن الفامباير و جنسهم .. وكان كل ما قرأته كلاما فارغا جدا ... يتحدثون عن قتلهم بالثوم و أن إبراز الصليب يؤذيهم .. أنا فامباير تحترم نفسها ... وهؤلاء لا يعرفون أنني الآن أمارس حياتي اليومية كأي إنسانة و أطبخ يوميا باستخدام الثوم ... ثم أنني أعلق صليبا ذهبيا صغيرا على رقبتي ... فرغم أنني هندية إلا أنني لا أؤمن بالهندوسية و دجلها .. فأنا من الطائفة المسيحية في الهند .. قرأت أيضا أن الفامباير لا يموتون ويعمرون أبد الدهر ... هراء .. نحن نموت كما تموتون تماما و حالتنا المقدسة لم تعط لنا أي ميزة فيما يتعلق بالعمر ... نحن فقط لا نهرم ولا نشيخ ... لكننا نموت بنفس الطرق التي تموتون بها ... قراءتي لكل هذه التفاهات زادني حيرة على حيرتي في تلك الأيام ... وزادتني تصميما على دراسة الأمر بنفسي عن قرب .

    طلبت من المستشفى أن أكون مسؤولة عن جميع حالات البورفوريا التي تأتي إلى المستشفى رغم وجود عدد من أطباء الدم الآخرين المتخصصين.. لكنني طلبت أن أكون مسؤولة عن هذه الحالات دون سواها .. كان المريض يأتي إليً بآلام في بطنه وهو لا يدري أن لديه بورفوريا .. وعندما أكتشفها باستمتاع ، أتركها تنمو بداخله ... بل لإنني كنت أحفزها وأزيد من سرعة تقدمها .. بمرور الوقت زادت خبرتي في التعامل مع هؤلاء المرضى .. مثلا تعلمت أن أكبل المريض إلى سريره بأغلال حديدية بينما أتابع حالته ... هل يبدو هذا شاذا ؟ دعني أخبرك بأمر لم أخبرك به سابقا .. أنا رئيسة قسم أمراض الدم في المستشفى .. وكل ما أريده ينفذ حرفيا .. خاصة عندما أطلب أن أختلي بالمريض في غرفة الكشف .. أو أن أمنع أي شخص من زيارته سواء من عائلته و أصدقاءه أو حتى الممرضات .. بدعوى الحرص على عدم العدوى التي أدعي أنها سريعة الانتقال بشكل مرعب .

    انتقلت من مرحلة دراسة الحالات إلى مرحلة الفهم الكامل ... هؤلاء المرضى يتحولون لمصاصي دماء .. بالطبع خلال تجاربي أراهم يصبحون شديدي العصبية عندما يتم تكبيلهم هكذا كالسجناء .. لكن هذه لم تكن أبدا مشكلة.. كنت دائما أحقنهم بأقوى أنواع المهدئات ... وعندما أعرف أنهم وصلوا للمرحلة النهائية من مرضهم و أصبحوا بعيدين نوعا ما عن كلمة بشر ، عندها وعندها فقط أطلقهم ..

    الغريب أنني لاحظت أنهم يتصرفون دائما كبشر عاديين يتحدثون ويتعاملون بشكل عادي .. والمفاجأة التي أظهرتها متابعتي الطبية الدقيقة لهم .. هي أن هناك أعصابا زائدة تنمو في أسنانهم .. وتحديدا حول منطقة الأنياب.. وهي تختلف عن كل أعصاب الأسنان في أنها أعصاب من النوع الإرادي .. تسمح لهم بتحكم إلى درجة ما في أنيابهم .. فهي تبرز إذا توحشوا أو تمت إثارتهم عصبيا أو جنسيا أو حتى تم حقنهم بمادة منشطة .. و تضمر عندما يكونون في حالتهم الطبيعية ..

    دائما هم يحتاجون إلى دماء .. ودائما أحقنهم بما يحتاجونه منها ... لكنني إذا حرمتهم منها يزداد توحشهم جدا ...أجدهم يحاولون إخفاء عصبيتهم في البداية كما يحاول أن يخفي أي إنسان عصبيته ... لكنهم في النهاية يتحولون لوحوش كاسرة تحتاج إلى التكبيل بمقابض من حديد .. وهم لا يقبلون بأي دماء .. بل الطازجة منها فقط .

    نعم كنت أدرسهم دراسة احترافية .. ربما أدت هذه الدراسة إلى قتل بعض منهم .. و إيذاء البعض الآخر إيذاء فادحا ... لكنني كنت قد فهمت كل التطورات العضوية التي تطرأ عليهم .. ما كنت أجهله هو بم يشعرون .. لأنني كنت أستغرب جدا أنهم يتعاملون بشكل عادي بريء جدا .. كأن في الأمر سر ما ..

    الحق أنني كنت قد بدأت أهابهم و أخافهم شيئا فشيئا .. وبدأت أحلامي تتحول لكوابيس يومية مليئة بالدماء السوداء .. كل ليلة أقوم من فراشي فزعة ... بعض الكوابيس تصفني كجثة لا حيلة لها وبدلا من أن تنهشها الغربان كما هي العادة أراني تنهشني مجموعة من مصاصي الدماء .. و أحيانا أخرى أراني وكأني أسمع نداء غريبا مسموعا مثل نداء الكنيسة .. ثم أراني أتجه إلى النداء في الشارع ويتبعني مجموعة من الناس بعضهم أعرفهم .. عشت ليال كثيرة أندم فيها على ما فعلت و أقسم أن أعود استشارية عادية كما كنت .. ثم إنني ظللت أسبح في بحر أفكاري هذا حتى استيقظت يوما شاعرة بألم رهيب في معدتي .

    تحول فزعي هذا فورا إلى هيستيريا .. ذهبت إلى المستشفى كالمجنونة لأخضع نفسي للتحاليل التي أطلب من مرضاي أن يجرونها عادة ... النتائج كلها سالبة ... لكن هذا لا يعني شيئا .. النتائج لا تكون موجبة في بداية ظهور المرض .. ربما في مرحلته الثانية .. وعلى الجانب الآخر قد يكون هذا ألم معدة عاديا .. خاصة أنني فقدت شهيتي تماما في الآونة الأخيرة .

    استمر ألم البطن .. و صاحبه قيء متكرر بشكل أشعرني بالضعف الشديد ... رقدت في سريري في تلك الأيام غير قادرة على الحراك إلا بصعوبة .. راج ابني كان قلقا جدا علي ... حتى أنه أعطى لنفسه إجازة من كليته ليبقى بجانبي .. كان يوصلني إلى المستشفى لأخضع للتحاليل يوميا .. النتائج سالبة ... دائما سالبة ..

    في الأيام التالية شعرت أنني أصبحت أكثر وعيا .. أقصد أنني صرت أكثر حساسية لكل شيء يدور حولي .. حساسيتي للأصوات زادت بشكل مزعج حتى أنني أصبحت أسمع صوت وقوف راج على عتبة باب المنزل قبل أن يفتح الباب و أنا راقدة على سريري في غرفتي وراء صوت المكيف ....حساسيتي للروائح أشعر أنها زادت كثيرا .. لكن الأهم هو حساسيتي للأضواء .. في البداية كنت أشعر بصداع عندما يكون نور الغرفة مضاء ... وفي النهار عموما ... ثم تحول الصداع إلى صداع رهيب ثم إلى ألم شديد في البشرة يشبه لسعة الاحتراق .. في ذلك اليوم أيضا كانت نتائج التحاليل كلها سلبية .. لا أصدق .. أنا في بورفوريا لا شك فيها ... أنا أكثر من يعرف البورفوريا عند رؤيتها .. هناك شيء ما مريب .... ثم أنني أهلوس كثيرا جدا ولولا أن رباطة جأشي عالية و عقلي متفتح لكنت جننت منذ زمن .

    لابد أن أموت .. لا أريد أن أكمل هذا السيناريو .. كل هذا السخف يجب نهاؤه .. . رأيت ابني راج دخل عليً مهموما .. طلبت منه بهيستيريا أن يقتلني ليريحني من كل هذا الألم .. لن يفهم أنني أتحول إلى مصاصة دماء و أنه هذا الغافل – غالبا - سيكون أول ضحية لي.. مستحيل .. هذا راج .. وهو أغلى عندي من ذاتي... بدا راج منفعلا مع كلامي ثم أخذ في تهدئتي بحنان لم آلفه فيه .. قال لي أنني سأكون بخير و أن نتائج تحاليل سالبة ولا تشير لوجود أي مرض قاتل أو غير قاتل ...لكنني كنت أصرخ في هستيريا .. وفي النهاية أضطر أن يعطيني حقنة مهدئة رغما عني حتى رحت في النوم .

    " خلقنا منذ خلقت الدماء على الأرض .. محرم علينا النور .. محرم علينا الهرم"

    استيقظت من النوم .. أنظر بنصف عين إلى الغرفة من حولي ... أرى راج نائما على أحد الكراسي القريبة.. هذا الفتى عاطفي بالفعل ... جل ما أفكر فيه الآن هو الانتحار .. هذه ستكون نهاية عادلة أكفر بها عن كل حماقاتي ... أخرجت شريط دواء مهديء و شرعت أخرج كل الحبوب منه .. أخرجت تنهيدة مريضة لم يسمعها سواي .. فجأة استيقظ راج ... نظر إلى بهدوء .. ثم تحولت ملامحه إلى الحدة والغضب عندما عرف ما أنتويه ... أخذ مني الحبوب بغلظة ورماها جانبا .. نظرت إليه باستغراب برهة .. ثم تحول هذا الاستغراب لغضب عارم .

    " مقدسة أنفاسنا .. مقدسة دماؤنا "

    صحت فيه بغلظة كما كنت أصيح فيه منذ صغره وأمرته أن يتركني أفعل ما أريد ... لكنه بدأ يتعلم العند معي هذا الفتى .. أمرته بغلظة أن يوصلني للمستشفى لأخضع للتحاليل مرة أخرى .. لكن راج زاد عناده .. وأنا زادت هيستيريتي .. و إذا به يقبل علي ليحتضنني و يهديء من روعتي فأخمشه بأظفاري و أضربه و أقاومه .. وهو يكبلني بحنان و يتحمل ما أفعله بصبر .. أصبحت شرسة لدرجة أنني جرحته عدة جروح في وجهه .. أمسك ابني راج بمحقن قريب بسرعة .. لكنني ضربت يده في غل ليطير المحقن بعيدا .. ثم صرخت فيه و خمشته مرة أخرى في وجهه ... لكن ما هذا ؟

    " نداؤنا شرف لكم .. فمنكم من يرضى الشرف .. ومنكم من يرضى العار "

    إن ابني راج فد توحش عليً فجأة ... و بدت ملامحه الوسيمة كملامح نمر حبيس ... ثم احتضنني بقوة شديدة لم أعهدها فيه ... نظرت له بدهشة ..فقط لو أن عيناي المرهقتين تخدعانني ... إن ابني راج له أنياب ... أنياب مقوسة تعتزم عنقي .... إن ابني الحبيب راج له عينان مخيفتان .. وعيناه هاتان تحمل رعبا و شراسة لا حد لهما .. انقض ابني راج على ً... أنستني الدهشة أنه يجب أن أقاوم لأبقى .. هذا ابني ... إن قواي تخور مني ... شيء ما تذكرته الآن بسرعة .. دائما راج هو الذي كان يخبرني بنتائج التحاليل جميعها .. ولم أكن أرى ضرورة للنظر فيها بعد كلماته الواثقة .. استسلمت له تماما ... لا أشعر بالألم .. بل بالخدر اللذيذ يسري في عروقي كلها .. أود أن أشعر بهذا الشعور طيلة حياتي ... ثم إنني أغلقت عيني بهدوء واستسلام تامين .. ثم إن راج حملني ووضعني على سريري ببطء .. وطبع على جبيني قبلة حب ورضا .


    تمت

  6. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية بو


    "لازلت أذكر إدجار آلان بو .. ذلك الصبي الذي ماتت أمه ثم مات أبوه ..ثم مات أخوه الأكبر وجُنت أخته الصغيرة "


    ليلة مظلمة هي .. باردة .. لها فحيح كفحيح ألف أفعى غاضبة .. لا يأتيها نور .. إلا على هيئة ظلال أتت لتدهن جدران الغرفة وتزيدها ظلاما .. أحاول أن أكتم سعالي .. لأنني أشعر بطعم الدماء إذا سعلت .. بل هي دماء حقيقية .. دماء صدري .. كنت أسعل دما .. فقراء معدمين كنا .. نبذل جهدا حقيقيا لنعيش بآدمية كبقية بني الإنسان ; ننام على فرش و نشرب في أكواب ... نستر أجسادنا ... ونستر أقدامنا .

    أمام تلك النافذة المغلقة بإحكام كان يقف .. ينظر سارحا من خلالها لسماء لا يدري بم تهمس له بالضبط ... يسمع سعالي فيستدير ... ويتنهد .. ويقترب إليَ ... يضم معطفه الموضوع على جسدي محاولا ألا يجعل للبرد فرجة إلى صدري .. لكن قدماي و ساقاي يرتجفان .. أراه ينظر إلىً بتلك الملامح المميزة التي يمتلكها ... و كفه يمتد إلى جبيني ... أحيانا كثيرة يشعرني حنانه وحده بالدفء .. فأنظر له برضا .. و أبتسم بشحوب .

    أتذكر لما قابلته لأول مرة في حياتي .. كنت طفلة في السابعة .. أتى إلى بيتنا عندما لم يبق له مكان آخر يذهب إليه .. أمي ماريا هي عمته .. وهي تعمل خياطة فقيرة في بالتيمور و بالكاد كانت تجد مصروفات منزلها .. بالرغم من هذا فهو لما دخل إلى بيتنا ، كانت سعادتها به لا توصف ... تلك كانت أول مرة أرى فيها إدجار .. إدجار آلان بو .

    كانت طفلة
    وكنت أنا طفلا
    في هذه المملكة قرب البحر
    تحاببنا بحب كان أكثر من حب
    أنا .. و آنابيل لي


    كان في العشرين من عمره .. لم أكن أعي عنه إلا أنه ابن عمي الذي توفيت أمه و توفي أبوه .. وهو هنا ليعيش معنا في هذا المنزل .. كانت له ملامح من الطراز الذي يجعلك تنظر لها مرارا بلا سبب واضح .. ملامح خلق فيها الحزن قبل أن تخلق ... كنت دائما أحدق في ملامحه لفترات طويلة كطفلة لا تكترث بإخفاء إعجابها.. كان ينظر إلى وقتها ويبتسم .. ربما كنت أنا الشيء الوحيد في هذا العالم الذي استطاع جعل هذه الملامح تبتسم .

    عدت أسعل دما مرة أخرى .. نظر إليٍَِِ بيأس وقلة حيلة .. ثم إنه نظر وراءه على الأرض إلى القط الذي كان يتثاءب في كسل و يموء في جوع.. رأيت إدجار يقوم من مكانه فجأة ويحمل القط .. ثم يقترب مني ... ثم يزيح تلك الملاءة الرقيقة عن صدري بهدوء .. ثم يضع القط على صدري .. كنت مندهشة .. لكن كفه كانت تمسح على شعري بحنان لو خرج من قلبه إلى الدنيا لملأها نورا و ضياء .. ثم نظر إلى القط الرابض على صدري والذي كان يحاول النزول لكن إدجار يمنعه .. و أخذ يمسح على رأس القط حتى نام .. نام على صدري .. ثم ضم إدجار علَيَ ذلك المعطف الذي كنت أرتديه .. ونظر إليَ بابتسامة وقال لي .. " عسى أن ينجح هذا القط التعيس في تدفئة هذا الصدر الجميل "

    هذا الموقف أتذكره كل ساعة .. ولا أنساه أبدا .. كان إدجار يعشقني .. كنت أشعر أنه يود لو يخرج روحه و يهديها إلي َ .. لم يكن يريد أن يفقدني بعد أن فقد كل شيء في حياته .. ولما كان يزورنا زائر في بيتنا للسؤال عني ، كان إدجار يصر أنني لست مريضة و أن كل ما لدي مجرد تمزق بسيط في أحد شراييني سرعان ما سيشفى .


    أصدقاء آخرون قبله طاروا
    وهو غدا سيتركني
    كما مضت جميع آمالي من قبل


    منذ أربعة و ثلاثين عاما كان إدجار يقف نفس الموقف .. لكن الراقدة على السرير تسعل كانت أمه إليزا .. كان وقتها في الثانية من عمره .. لا يفقه شيئا لكنه يشعر بحزن طفل يرى أمه تتألم وتبكي ... كان في تلك الغرفة التي لم تكن تختلف عن هذه الغرفة الفقيرة .. يقف هو و أخوه ويليام ذو الأعوام الأربعة بينما أخته الصغيرة روزالي تزحف على الأرض ... ظلت الأم تسعل وتنظر إلى أطفالها وتبكي.. كانت تحدث ويليام بصعوبة .. ثم رآها إدجار تنام .. ولم يرها إدجار ثانية ... لم يكن يدرك أن أمه قد ماتت .

    كان أبوه قد مات أيضا قبل أمه بشهور ... هو حتى لا يعرف أبوه .. ولا يعرف شخصا يتذكر أبوه .. كأنه لم يكن ... تفرق الأبناء بعد موت أمهم .. ويليام ذهب إلى أقاربهم في بالتيمور.. وروزالي الصغيرة أخذتها عائلة أخرى في بالتيمور و تبنتها .. أما إدجار فقد تبنته امرأة عقيمة لا تلد تدعى فرانسيس .. فرحت به فرحا كبيرا و تولت تربيته كما لو كان ابنها .

    ربت مسز فرانسيس إدجار الصغير حتى العشرين من عمره .. كانت تعطف عليه جدا و تحبه من قلبها .. لكن زوجها آلان كان يكرهه .. ويرفض محاولاتها المستميتة لتبنيه.. وفي ليلة من تلك الليالي التي لا تنسى فارقت السيدة فرانسيس الحياة .. في تلك الليلة شعر إدجار بشعور مألوف ... شعور تشعر به عندما تتركك أمك وحيدا في الدنيا .. شعر به مرة وهو ابن سنتين .. و هاهو يشعر به الآن مرة أخرى .

    تحفر كل جذوة ظلا على الأرض لها وهي تموت
    وكم تمنيت أن يأتي الصباح
    عبثا


    بعد سنتين تقريبا من مجيء إدجار إلى بيتنا سمعنا عن مرض أخوه ويليام بالسل .. كان هذا الخبر يبدو مثل القشة التي قسمت ظهر إدجار .. كنت أرى تلك الملامح الحزينة تبكي .. وفي ذات يوم ذهبنا معه لزيارة ويليام .. كان نائما على ذات السرير الذي كان يتشاركه مع إدجار في طفولتهما ... وكان ويليام يسعل ويسعل بقوة .. و إدجار يخفي عينيه ... حتى انتهى سعال ويليام .. لم يجرؤ إدجار على فتح عينيه .. في تلك اللحظة كان أخوه ويليام أيضا قد فارق الحياة .

    مرت سنوات على تلك الحادثة .. حتى أتى ذلك اليوم الذي ذهب إدجار فيه لزيارة العائلة التي تبنت أخته الصغيرة روزالي .. لم يكن قد رآها منذ موت ويليام .. استقبلته العائلة المتبنية بابتسامات من النوع الذي لا يريحك عند رؤيته .. كان يريد رؤية روزالي ... وكان يبدو أنهم يخفون عليه أمرا ما .. ارتفع توتر إدجار إلى أقصاه و هم يماطلون في الإجابة عن حال روزالي و أخذ يصرخ فيهم كالمجنون ... لم يكن ليتحمل لو عرف أنها تركته هي الأخرى ... كان سيقلب هذه الدنيا رأسا على عقب .. لكن العائلة هدأت من روعه و قالوا له أن أخته روزالي تتمتع بصحة جيدة .. لكنها حاليا تقيم في مكان أكثر أمنا .. مستشفى الأمراض العقلية .


    انهار إدجار .. وسقط على الأرض يضربها بقبضتيه .. لم يكن لبشري أن يتحمل كل هذا ... ليس هذا فقط .. بل كانت هناك أيضا صدمة عاطفية مرت به منذ فترة ليست بالقليلة و هزت أوصاله ... كان يحب فتاة تدعى ساره رويستر تدرس معه في جامعة فيريجينيا .. لكنه اكتشف فجأة أنها لم تعد تريده بعد اليوم و أنها تزوجت من أول رجل ثري طلبها للزواج ... لذا رأيت بعيني إدجار الذي لم يكن قد أكمل الخامسة و العشرين من عمره ينهار .. وكنا نهون عليه نواسيه خشية أن يقتل نفسه .

    لازلت أسعل الدم .. كان سعالي يبدو كالصراخ المتقطع .. وهناك وقف إدجار آلان بو ينظر إليَ .. لازلت أذكر ذلك اليوم الذي طلب فيه من أمي الزواج مني و أنا لم أبلغ الثاثة عشر .. أمي ماريا وافقت بفرحة غامرة و كأنها كانت تنتظره ... كان فقيرا جدا .. ودائما سيتذكره التاريخ بأنه كان أول شاعر و كاتب يعتمد على كتاباته كمصدر رزق وحيد له لم يجرب غيره... تلك الكتابات التي لم يهتم بها أحد في حينه .. أذكر أن أكبر جائزة فاز بها كانت مائة دولار في أحد المجلات التي يرسل إليها أعماله .

    كان إدجار دائما ما يمسك يديً بتلك اليد الدافئة التي يمتلكها ويهمس لي ألا أتركه وأرحل .. و أن أتمسك بالحياة ... و دفئه هذا وحده هو الذي جعلني أقاوم لفترة طويلة رغم القحط الذي كنت أعيش فيه .. كنت أحبه .. أعشقه .. لكنني في ذات ليلة .. عرفت أن لحظتي قد حانت .

    همست باسمه في خفوت .. التفت إلي من بين همومه وهرع إلي ممسكا بيدي .. قلت له أنني أحببته .. منذ كنت في السابعة من عمري ... اتسعت عيناه الحزينتين في قلق وترقرقت بالدموع ... همست باسمه مرة أخرى ... نظر إلي من بين دموعه ... لم يعرف أبدا ما كنت أريد أن أقوله له .. لأنني لم أعد معه .. كنت قد تركت له الغرفة وحيدا ينادي علي ..وسمعت نحيبه و أنا أحلق بعيدا .



    يا هذا النبي أيها الشرير
    طيرا كنت أو إبليسا أو نبيا
    بحق هذه السماء فوقنا
    بحق رب واحد نعبده أنا و أنت
    قل لروح يسحق الحزن حشاها
    هل أستطيع أن أضم الغادة القديسة التي يسميها الملاك لينور ؟
    أعانق الطاهرة المشعة التي يسميها الملاك لينور ؟
    قال الغراب
    أبدا بعد اليوم

    لم يقدر إدجار حتى أن يوفر نفقات دفني .. لكن الجيران تطوعوا للقيام بهذا الأمر .. وعاش وحيدا من بعدي .. و أصبح يكتب بغزارة .. وكأن الكتابة ستعيد له ما فقده .. كتب عني قصيدتين .. وفي كل واحدة منهما سماني باسم قال أن الملائكة تسميني به .. فكنت "لينور" في قصيدة سماها "الغراب" .. و آنابيل لي في قصيدة بنفس الاسم ... إدجار كان زعيما للقصائد الرومانسية و قصص الرعب والغموض القصيرة .. وحتى القصص البوليسية .. كان بارعا جدا في كتاباته .. الذوق الأمريكي زعم أن كتاباته كانت مليئة بالفوضى و الغموض .. لكن الذوق الفرنسي فهمه و تذوقه و ترجم جميع أعماله .


    في هذه المملكة قرب البحر
    هبت ريح من غمامة في الليل
    قضت على آنابيل لي
    فجاء أقاربها النبلاء
    وحملوها بعيدا عني
    ليدفنوها في قبرها
    في هذه المملكة قرب البحر

    حاولت مرات في صغري و هو في بيتنا أن أقر كتاباته .. رأيت مرة شعرا كتبه عنوانه " الأعراف " .. قرأت بعضه لكني لم أفهم شيئا .. لم أعلم أنني قد وقعت على القصيدة التي كتبها إدجار آلان بو في سن الخامسة عشرة من عمره والتي قلما يفهمها الكبار عند قراءتها .. كانت تتحدث عن شيء غريب ... تتحدث عن أناس واقفين في مكان يدعى الأعراف .. و أنهم تساوت خطاياهم مع حسناتهم .. لا يعلمون إلى أي المصيرين سيكون مآلهم .. إلى النار .. أم إلى الجنة .. كانت كل معلومات القصيدة مستقاة من سورة الأعراف في القرآن الكريم ... وتلك كانت أطول قصيدة كتبها إدجار في حياته.


    لا يسطع ضياء القمر إلا و يجلب لي الأحلام
    عن آنابيل لي الجميلة
    ولا تلتمع النجوم دون أن أرى فيها
    عيني آنابيل لي الجميلة
    وهكذا أقضي الليل مسهدا
    وأرقد بجوار حبيبتي .. حياتي .. عروسي
    في ضريحها بجوار البحر
    في قبرها بجوار البحر


    بعد سنوات مضت بثقل .. في أحد شوارع بالتيمور بعد منتصف الليل .. كان يمشي رجل يدعي جوزيف والكر بهدوء متجها إلى منزله ... لكن مشهدا استوقفه وجعل عينيه تتسعان ... رجل فقير في حالة يرثى لها ملقى على الأرض .. كان يبدو يائسا بائسا وكأنه خرج من بين تراب هذا الشارع المقفر .. كان يحتاج لإسعاف عاجل .. طلب جوزيف الإسعاف وتم نقل الرجل إلى مستشفى كلية واشنطن القريبة .. و مدفوعا بالشهامة وحدها تابع جوزيف الرجل وهو في المستشفى للاطمئنان عليه ... كان الرجل أبعد ما يكون عن التمسك بالحياة ... وحاول المسعفون كل ما أمكنهم .. بلا فائدة .. يقول جوزيف أنه سمع الرجل ينادي بخفوت و يقول " يا إلهي .. ساعد روحي المسكينة يا إلهي " ثم فارق الحياة .

    - هل تعرف اسم هذا الرجل يا مستر جوزيف ؟
    - لا .. لقد وجدته ملقى في الشارع يتلوى
    - دعني أر هنا .. هذه الأوراق التي يحملها .. هذا هو اسمه .. حسنا شكرا لك مستر جوزيف
    - ماذا هو اسمه ؟
    - إنه يدعى بو .. إدجار آلان بو .. هل مرعليك الاسم يا مستر جوزيف ؟
    - لا .. كان فضولا ليس إلا .

    لم يعرف حتى الآن السبب الحقيقي لوفاة إدجار آلان بو .. لكن سجلاته الطبية تشير إلى أنه يحتمل أن يكون من الخمر أو الكوليرا أو الذبحة الصدرية أو حتى السل .. ليس هناك شخص يعرف تحديدا .. أعلنت وفاته بعد يومين في الجريدة المحلية و تم دفنه في الميريلاند في بالتيمور .. استغرقت جنازته بالضبط ثلاثة دقائق في جو بارد و أجواء مقبضة .


    حمدا لله
    قد انتهى الخطر .. وولى المرض الطويل
    وانتهت الحمى التي يسمونها "الحياة"
    أعرف أن قواي قد فارقتني
    وأنني عاجز عن تحريك عضلة واحدة
    لكن هذا لا يهم
    أشعر أنني أفضل حالا بكثير
    لقد سكن كل هذا الأنين والعواء والتنهد و البكاء
    ومعها سكن ذلك الخفق الرهيب في القلب
    لقد انتهت الحمى التي يسمونها "الحياة

  7. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي


    حكاية رجل الظلام

    هل تجرؤ يا سيدي على الاتصال ب 777 بعد منتصف الليل ؟ .. إذا كنت تجرؤ فأنت يا سيدي رجل شجاع جدا .. وإني لأحسدك على موهبتك هذه

    جريدة آي جازيت التركية ... 12 مايو ... 1995
    تم في مساء الأمس الثلاثاء اكتشاف جثة الطفل إرهان سلمان في جانب الطريق السريع إسطنبول – إيسينكوي .. كان أهل الطفل قد أعلنوا عن اختفائه منذ خمسة أيام كاملة ... وقد أسفرت تقارير الطب الشرعي عن رأي يقول أن القاتل قد خنق الطفل بوضع رأسه في كيس من البلاستيك السميك ... وقد أكد الطبيب أيضا أن الطفل إرهان قد تم اغتصابه بعنف شديد .. وتشير تقارير وتحريات قسم شرطة أوسكودار أن هذه هي الجثة الثالثة لطفل في نفس العمر .. فقد سبقه الطفل جلال كورت بعدة أسابيع .. وقبله دورسان حبيب ... وكلهم بنفس الأعمار وقتلوا بنفس الطريقة السادية .. مما يشير إلى وجود قاتل طليق في إسطنبول منذ أكثر من شهر ... وأكد رئيس الشرطة السيد عيسى كادري أن القسم يبذل قصارى ..................

    جريدة إستانبولوم .... 20 مايو ... 1995

    تواصلت أعمال سفاح الأطفال الذي اصطلح الأهالي على تسميته ب ( أكشام باي ) – ترجمتها هي رجل الظلام بالعربية - .... وفي هذه المرة فقدت الطفلة إسراء كوتشا منذ يومين .. وتعقد الشرطة حملات مكثفة للبحث عن الطفلة التي بدت والدتها في أسوأ حالاتها أمس ... وأكد جهاز الأمن أن ...........

    إعلان في مدرسة أوزيل إيريشيم الابتدائية ...

    على جميع طلاب المدرسة مراعاة مايلي :

    1 – لن يسمح بانصراف أي طالب إلا مع ولي أمره مهما كانت الظروف وتدعو المدرسة الطلاب للاشتراك في باص المدرسة الذي تم تخفيض تكاليفه كثيرا بأمر من الإدارة ..
    2- يمنع منعا باتا الخروج من المدرسة لأي سبب كان .. وكل من يفعل ذلك خفية تعتبر المدرسة غير مسؤولة عنه أمام ولي أمره ..
    3 – يمنع منعا باتا التأخر عن طابور المدرسة دقيقة واحدة .. وكل من يفعل ذلك سيضرب أمام جميع الطلاب عشر ضربات على يده .... ولا تقبل أي أعذار ..

    كنا نحن كما رأيتنا من قبل في حكاية تحضير الأرواح .. أنا وهشام .. سارة ونورهان .. بتول وشقيقها علي .. و ولد أصلع ذو عيون خضراء يدعى مظفر .... وكلنا في مدرسة أوزيل الابتدائية التي تقع في نهاية شارعنا .. إنها تحتاج لخمس دقائق بالضبط من المشي العادي حتى نصل إليها من بيوتنا المتجاورة .. إسراء كوتشا .. طفلة في التاسعة من عمرها كانت تسكن في الشقة التي تعلونا مباشرة .. ولاريب أنك قد قرأت خبر اختفائها مثلنا في جريدة إستانبولوم .. والدتها في حالة مزرية وهي تشتري كل الجرائد حتى المغمورة منها وتقرؤها كلها حرفا حرفا متوجسة شرا ... الشرطة بدأت تفقد ثقة الناس فيها .. فليس أغلى على الإنسان من ذريته .. وكنا نحن نعيش وسط كل هذا الخضم .

    لم نكن نحب إسراء .. بل إذا شئت الدقة كنا أعداءها الأزليين .. لكننا لم نكن نحب أبدا أن نقرأ خبر العثور على جثتها الذي يبدو أنه سيظهر بين ليلة وضحاها .. إن الرعب اجتاح اسطنبول بشكل لم يسبق له مثيل قبل الزلزال الشهير .. كانت إسراء معنا في نفس المدرسة .. بل إنها معي في نفس الفصل .. و آخر مرة شوهدت فيها هي خارج المدرسة تتسكع مع بعض الشبان الذين تهوى التسكع معهم دائما .. ثم لم يرها أحد بعد ذلك .. التحقيق مع الشبان لم يسفر عن شيء .. فقد قالوا أنها غادرتهم بعد أن زاروا محل أوتومان للآيس كريم .. كانوا معتوهين كلهم .. لذا يسهل تصديقهم .. لم نكن نحب إسراء .. لكننا كنا نفتقدها ... نفتقد ضحكتها السمجة وهي تخبيء كتابي في درجها وأنا أكاد أجن باحثا عنه في كل مكان خوفا من الاستاذ الشرير .. ثم وعندما أصل للنهاية تظهر هي مبتسمة متظاهرة بالبراءة ( هل هذا كتابك ؟ ) ..


    دعني أعرفك بفصلنا السخيف لأدخلك في جو مدرستنا الكئيبة ذات المباني الحمراء .. والتي صارت أكثر كآبة بعد تلك الأحداث .. أنا أجلس عادة في المقدمة في الجهة اليمنى ... في الصف الثاني من الجهة الوسطى تجلس نورهان و بتول متجاورتين .. ذلك الأصلع الذي بجانبي هو مظفر .. وأنا لم أر أصلعا بهذه الوسامة من قبل .. في الصف الأخير من الفصل تجلس – كالعادة في أي مدرسة تحترم نفسها – شلة السوء الأبدية .. أوندير .. وهو فتى يملك جسدا كالصخر ويبدو شريرا .. ولا يخلو من مثله أي فصل في العالم حتى في الصومال حيث تنعدم الأوزان الثقيلة .. بجانبه فتى خبيث يدعى جيهان – وجيهان اسم رجل في تركيا - .. وهناك مقعد خال في الصف الأخير .. خال منذ ثلاثة أيام بالتحديد .. مقعد إسراء .. إسراء الشريرة .


    فجأة وجدوا إسراء ... الحمقاء تاهت في اسطنبول بعد أن ركبت ( أوتوبيس ) يذهب إلى تلة تشاملجا الساحرة وهي تظن ان بإمكانها العودة بنفس الوسيلة .. كنت دائما أفتح نافذتي لأصغي لصرخاتها ووالدتها تضربها ضربا مبرحا لم تكن لتتلقاه من مختطفها لو أنها اختطفت .. لم أعرفك بنفسي بعد .. فأنا أرى وجوها جديدة هاهنا لم تقرأ حلقة الرعب منذ بدايتها ... أنا هنا أدعى أهميت .. وهو النطق التركي لكلمة أحمد .. لكنهم يعجزون عن الحاء ويتجاهلون الدال .. في التاسعة من عمري الآن .. وكما ترى فهذا فصل كل من فيه هو في التاسعة من عمره .. وفي هذا الفصل ظهر رعب من نوع جديد .. ظهر رجل الظلام .... أكشام باي ..


    مر شهر كامل على أحداث الاختطاف ... ولم يسمع عن ضحية أخرى .. مع ان رجل الظلام لايزال حرا طليقا .. وهنا وفي مدرسة كمدرستنا ... مليئة بالمعتوهين والمفكرين والفلاسفة و والمدعين .. مزيج نادر لن تجده إلا لدينا .. في مدرسة كمدرسة أوزيل هذه كانت لابد أن تظهر إشاعة .. بل إشاعات تخص رجل الظلام .. يقول أوندير الضخم أنه صديق شخصي له رغم أنه كان يبكي كالبرغوث خوفا عند اختفاء إسراء ... يقولون أيضا أن رجل الظلام هو نفسه مدرس الرياضيات المرعب الذي يذكرك بفرانكشتاين ...


    لكن هناك إشاعة أخرى أشد وطأة بدأت من مكان ما وانتشرت في اسطنبول كلها .. وأتت إلى مدرستنا مؤخرا ... هذه الإشاعة تقول باختصار أن رجل الظلام لا يعمل على هواه .. إنه يأتي بالطلب .. أي أن الضحية هي التي تطلبه ليأتي ويقتلها ... و أن الرقم الذي طلبه جميع ضحاياه قبل موتهم هو 777 ... وهو لا يعمل إلا بعد منتصف الليل .. إشاعة غريبة ... صدقها جميع أطفال تركيا .. وأصبحوا يهابون هذا الرقم بشدة .. وبعض المعتوهين الكبار - بسبب ضخامة الإشاعة - منعوا أطفالهم من استخدام التليفون نهائيا برفعه عن الخدمة ... إن رجل الظلام أرعب اسطنبول .. علمهم أن يفعلوا أي شيء مهما بدا مبالغا فيه لحماية أطفالهم ... فالحذر أفضل من وقوع المصيبة ... وبعض الحذر لن يضر أحدا ..


    لم أكن أصدق هذه التفاهات أبدا .. رغم أنني في التاسعة من عمري إلا أنني كنت أعرف ان هذا كله سخف .. هل يسهر أكشام باي بجانب هاتفه بعد منتصف الليل كل يوم منتظرا أن يعطف عليه أحد ويتصل به من الأطفال ؟ .. ياله من عمل شاق ذلك الذي يعمله أكشام باي ... ذات يوم فتحنا الدليل وبحثنا فيه عن رقم 777 علنا نجده .. فهو قد يكون رقم المطافيء أو الإسعاف ... أو مؤسسة التعاونيات الإصلاحية أو الإصلاحات التعاونية أو أي اسم من هذه الأسماء التي لا نهاية لها أبدا ...لكنه لم يكن موجودا ... إن مطلق الإشاعة ليس أحمقا ... لابد أنه بحث في الدليل جيدا هو الآخر ... وهنا جاء سؤال بتول الشريرة لنا كالصاعقة .. من منكم يجرؤ على الاتصال بهذا الرقم بعد منتصف الليل ؟ ..


    وهنا أود لفت انتباهكم إلى نقطة هامة .. إن بتول هي أميرة الفصل كله بلا أي منازع .. جذابة لدرجة أن أوندير وجيهان الشريران قد فعلا المستحيل لنيل رضاها دائما ... لكنني كنت أعلم أنها لي أنا .. لي وحدي .. أذكر تلك المرة في عيد ميلادي عندما كنت أنظر من النافذة إلى الثلوج التي غطت كل شيء .. أذكر أنها انسلت بخفة من ورائي و همست في أذني I Love You ثم هربت كالثعبان فلم أرها إلا غدا .. وقد تركت لي هدية متواضعة .. كنت أعرف أنها لي أنا وإن كنا لم نتحدث في الأمر أبدا ... إن حياة الأطفال من التاسعة وحتى الثالثة عشر هي أروع حياة ستكون قد عشتها في عمرك كله .. لكن بتول تجاوزت الحد هذه المرة ... تريدنا أن نتصل ب 777 .. إنها تحكم على من يفعل ذلك بالإعدام .. وبخبر صغير في جريدة آي جازيت ..


    هل أجرؤ على الاتصال رغم علمي التام بأنها إشاعة ؟ ... ماذا إن كانت حقيقة ؟ ... أنا سمعت أن الإشاعات لابد لها من فتيل لتشتعل وتنتشر ... إنها لا تأتي من الفراغ ... ماذا لو كان هناك احتمال نصف بالمئة بصحة الإشاعة .... أين أذهب أنا بعدها ؟ ... كنت أتخيل رجل الظلام هو كالتالي ... رجل بملامح قاسية يرتدي عباءة سوداء طويلة ... وقبعة سوداء تشبه قبعة زورو تخفي نصف وجهه العلوي في الظلال ... إن أوندير جبن عن الاتصال رغم أنه فتوة الفصل كله ... وجيهان لازال يفكر في الأمر و يحسبها من جميع الزوايا .. هل يضحي بحياته من أجل بتول الشريرة ؟ .... أم أنه لازال لديه بعض المشاريع لينجزها ..... آه .. لقد تذكر ... لازال لم يصلح دراجته بعد ... إنه يريد تجربتها على منحدر تشاملجا الكبير .... لاريب أن النزول بها من على المنحدر المسفلت سيكون ممتعا جدا .... ينظر إلى بتول فيجدها جميلة .... تلك اللعينة .... ثم حسم أمره في النهاية ... إنه ليس بهذا الغباء .. لن يتصل ... إن أمامه حياة حافلة يريد أن يعيشها ... وسيجد ألف فتاة مثل بتول في هذا العالم .. إن مارلين مونرو تبدو رائعة ومناسبة جدا ... ماذا ؟ ... ماتت ؟ .... لا بأس ... لابد من واحدة أخرى في مكان ما ..


    أما أنا فقد حسمت أمري .... إن رجل الظلام هذا بشر مثلنا وليس كائنا أسطوريا خلق ليغتال الأطفال أمثالنا ... سأتصل به .. وسأمكث في البيت بعدها وسأغلق كل النوافذ ... وإذا كان رجلا فليصل إلي بالداخل .. لماذا اتخذت هذا القرار ؟ .... لأنه من الممتع أن تفعل شيئا لم يسبقك أحد إلى فعله من قبل .. ثم إن هذا سيضمن لي بتول إلى الأبد .. إنها تجارة رابحة إذن ... لكنني أقسم أنني خائف ... لكن ليس للحد الذي أجبن فيه على الاتصال ... إنني قلق ... ولكنني سأتخذ كل الاحتياطات ... جميع الضحايا السابقين كانوا أغبياء ولم يعلموا أن هذا الرقم يودي إلى هلاكهم ... أما أنا فأعلم ... أنا الوحيد بينهم الذي أعلم ... فأنا الوحيد الذي أستحق النجاة ... هذا إذا كان الأمر صحيحا من أساسه .

    نعم سأفعلها في هذه الليلة .... إن الجميع جالسين معي الآن بالغرفة ... التليفون أمامي ينظر لي بسخرية .. نعم ينظر لي بسخرية ويوشك أن يخرج لي لسانه قائلا بأنني لن أتمكن من رفع سماعته اليوم ... بتول تنظر لي بترقب ... سارة شقيقتي تشعر أنها ستراني آخر مرة ... هشام يبدو متحمسا .. مظفر الأصلع يجلس بجانبي .. وهو الذي سيطلب لي الرقم ليتأكد أنني لن أتلاعب بهم ... نورهان تنظر إلى الساعة لتحدد لنا ساعة الصفر ... إن حياة الطفولة كانت حافلة حقا ... وإن الذي حرم منها لسبب ما بائس حقا .. ولن يعيش مثلها في حياته كلها مهما حاول ..

    . وهنا قالت نورهان أن الوقت قد حان .... إن الساعة تجاوزت الثانية عشرة بعد منتصف الليل بثلاث دقائق .. وهنا رفعت سماعة التليفون متظاهرا باللامبالاة ... وأنا أرتجف من داخلي كضفدع خرج من بياته في ليلة ممطرة ... ترى ماذا سأسمع عندما أتصل بالرقم ... هل سأسمعه يقول ( آلو ) الشهيرة .... أم سيقول مثل الأتراك ( أفندم ) عندما يفتحون التليفون .... أم أنه لن يتكلم ... أم أنني سأجده مشغولا .... إن مظفر يبدو متشفيا ومتحمسا جدا لخراب بيتي ... إن يده تتجه إلى لوحة الأرقام وعيناه الخضراوتين تنظران إلي مباشرة ... تيت ... تيت ... تيت ... 7 ... 7 .... 7 .

    تييييت ...... تيييييت ....... تييييت ......جرس كئيب ....... تيييييييييت ...... تييييييييت ...... تشكلككل ( صوت شيء ما ) ..... وهنا سمعت صوتا غريبا مخيفا ..... صوتا لا أدري ماهو .... صوت كالفحيح ثابت لا ينقطع ..... اتسعت عيناي في رعب .... الكل ينظر إلي وقد انتقل الرعب إليهم ..... يظنون أنني أسمع رجل الظلام يهددني .... بعضهم يفكر في الفرار ......... تشكلللكمك ......... شششششششششششششششششششش ....... ماهذا الصوت ؟...... شششششششش .... هل هي رسالة ما ؟ ..... ربما هي لغة خاصة ...... وهنا سمعت صوتا عاليا جدا ...... (تيييييييييييييييت ) عالية جدا صمت أذني فرميت السماعة صارخا من الألم ...... لن أحكي لك عن حالة الحمقى الذين معي في الغرفة لأنهم كانوا في أشد حالات رعبهم ...... ماهذا الذي سمعته ؟ ..... تبدو رسالة تقول إن خراب بيتي وشيك جدا .... يالتعاستي .... لماذا تحصل لي هذه الأشياء دائما ..

    زاد هشام الأمر سوءا علي .... لن ينام اليوم معي في الغرفة كما يفعل دائما ... سيهرب إلى الصالة خوفا من أكشام باي ... سأنام اليوم وحيدا ... إنني أشم رائحة نهايتي بالفعل ... هكذا تتأتي جميع الظروف لموتي .... في البداية يتخلى عني هشام .... ثم حتما سينقطع النور في هذه الليلة المشؤومة بالذات ... ثم وبالتأكيد سيأتي إلي ويأخذني لعالم آخر ... عالم الآخرة .... نمت اليوم ليلة عصيبة جدا ..... كنت أرتجف مع أقل صوت يحدثه الأثاث حين يصدر تلك الأصوات التي لانفهم لها سببا .... الثلاجة تنطفيء وتنفتح بعد قليل لتبدأ دورتها التبريدية .... وهذا يحدث أصواتا مخيفة مفاجئة ... ماهذه الأصوات في الخارج ؟ .... لا أنفك أنظر إلى النافذة الوحيدة في غرفتي ..... إنه سيأتي منها حتما .... سأرى ظلا ما وراء هذا الستار الأبيض .... ثم سأسمع من يحاول فتح النافذة ... ثم ستمتد يد ما ....... يا إلهي ... إنني أكثر من مشاهدة أفلام الرعب حقا ....

    في الصباح التالي كانت حالتي مزرية ..... شكلي يبدو كالزومبيات تماما ... كان اليوم هو الجمعة ولا توجد مدرسة ... كم أحب هذا اليوم ... انتهينا من صلاة الجمعة ... وعدت مع ذلك الجبان هشام نتمشى إلى المنزل ... كان معنا مظفر يتحدث عن كرة القدم كدأبه دائما .... وكيف أن المدرب غبي حيث سمح للاعب مثل هون بالنزول رغم أنه لا يفقه شيئا في كرة القدم ... وأنه – مظفر – يستطيع اللعب أفضل منه .... دنونا من البيت ... وهنا رأيت شيئا مرعبا .... أو إذا شئنا الدقة رجلا مرعبا .... كانت سيارة القمامة تمر وخلفها يتعلق رجلان .... أحدهما كان مخيفا جدا .... لديه عين بيضاء تماما وعين أخرى سليمة .... ووجهه دميم جدا .... يا إلهي .... إن الرجل ينظر ناحيتي مباشرة .... هل هذه ابتسامة على شفتيه أم أنني أتخيل ؟ .... إنه هو .... أكشام .... أكشام باي .. إنه رآني ... لقد أتى من أجلي .

    في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة .... كنت قد أصبحت مشهورا بعد أن انتشر خبر اتصالي ب 777 ... كل الشبان الذين يمرون أمامي يخبطونني في كتفي بقبضاتهم بمزاح قائلين شيئا ما عن ذلك الفتى الذي كانوا يظنونه عاديا .... بالفعل أنا لست عاديا .... أنا سأصير الضحية الرابعة لأكشام الرهيب .... لقد رأيته ... تبا لك يا بتول ... لماذا تكون الجميلات شريرات دائما ...... أصبحت بتول تعطيني اهتماما خاصا مما أثار غضب وحفيظة جيهان و أوندير الخبيثين .... ليس من مصلحتي أن يزداد أعدائي بهذا الشكل .... عموما هم لن يجدوا من ينتقموا منه ...
    سيكون رجل الظلام قد سبقهم ...... ومظفر السمج .... لن يجد من يتحمل ثرثرته خيرا مني ....

    عدت إلى البيت شاعرا بتعاسة لم يفهمها من حولي .... أبي عرف بأمر أنني اتصلت بالرقم الأسطوري ... فضحك كثيرا وقال لي أن علي أن أنتظر نهايتي من الآن فصاعدا .... مشكلة الكبار أنهم يظنوننا أطفالا .... نحن لسنا أطفالا .... نحن صغار فقط ... دوى جرس الباب وسمعت صوتا ما يناديني أن أفتح لأنه مشغول .... لا بأس .... فتحت الباب فوجدت رجلا طويلا ... يرتدي ملابس جامعي القمامة .... لديه عين بيضاء تماما وأخرى سليمة .... شكله أشبه بضفدع لم يغتسل منذ تسع شهور .......

    هاهو قد أتى إلي في عقر داري إذن ..... لكن من قال أنني سأعطيه الفرصة ..... صرخت صرخة مدوية ..... ثم أغلقت الباب في وجهه وجريت بأقصى سرعتي إلى الحمام ... أغلقته علي ومكثت بداخله بعض الوقت ... المكان الوحيد الآمن الخالي من النوافذ هنا .... إنه الجرس يرن مرة أخرى.... لم أرى قاتلا بمثل هذا الإصرار من قبل .... قاتل يدق باب ضحيته ليقتلها ..... لن يخدعني بزبه المزيف هذا .... لكن ماذا إذا فتحت له شقيقتي ... أو أمي .... سيجدهم في طريقه للوصول إلي فيقتلهم ليزيحهم نهائيا من الدنيا..... من قال أن هذا سيحصل .... سأخرج و أقتله قبل أن يقتلني ....

    رن الجرس مرة أخرى .... يالإصرارك .... ها أنا قادم إليك يا وجه الضفدع ..... أخذت سكين من المطبخ وسط نظرات أمي الذاهلة إلى الشر الذي بدا في عيني ..... أحمد ... ماذا تفعل يا أحمق ؟. .....ليس هذا وقت إجابة الأسئلة السخيفة .... إن عائلتي في خطر داهم .... فتحت الباب فوجدته أمامي ..... كان يهم بالتحدث لكنني بادرته قائلا .... ابتعد من هنا يا وجه الضفدع .... يا رجل الظلام السخيف ... ابتعد الآن وإلا قتلتك بهذه السكين ... نظر لي بعينه السليمة بدهشة للحظة .... ثم نظر في الأرض بحزن .... ثم استدار وانصرف ....

    لماذا لم يختطفني ؟ ... لماذا لم يفعل شيئا مما يفعله رجال الظلام في جميع أنحاء الأرض ؟. ... مهلا .... ماذا إذا كنت مخطئا ؟. .... لكنني لم أر جامع القمامة هذا من قبل في حينا ..... هل هو وافد جديد ؟ ..... إذا كان هذا حقا فقد آذيت الرجل وطعنته بهذا السكين في مشاعره عندما وصفته بوجه الضفدع ..... يالقسوتي ... بل يالغبائي وتهوري .... إننا كما يقول عنا الكبار .... أطفال صغار ... نستحق أن نضرب وتشد آذاننا ونمنع من المصروف ..... إننا حقا أطفال صغار .

    وهكذا مر شهر كامل على هذه الأحداث .... لم يسمع أحد عن رجل الظلام فيه .... لابد أنه آثر الاختفاء ... أو أنه مل من الأمر برمته ... أو أنه تزوج و اهتدى أمره ... أو أنه مات .... أو أنه لازال يخطط لأمر آخر لا ندري عنه شيئا .... وإلى الآن لم تعلن الصحف التركية عن قبضها على أكشام باي الرهيب أبدا .... انشغلوا بسفاحين آخرين أشد تدميرا ..... ونسوه تماما .... رأيت رجل القمامة بعدها يتحاشى المرور على شقتنا ... فذهبت مع هشام واعتذرت له عن سخافتي .... قلت له انني كنت أمزح معه ..... نظر لي بعينه الواحدة في سرور وقال ... تشكرا ديريم ..... وتعني شكرا لك جدا .....

    ودعوني أسألكم نفس السؤال الذي سألته لنا بتول ذات مرة ...... هل يجرؤ أحدكم الذهاب إلى تليفونه بعد منتصف الليل والناس نيام ..... ويطلب هذا الرقم ..... 777 ... ؟؟؟

  8. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية الزلزال

    " عندما ترى سبعين طابقا ينهارون أمام عينيك.... عندما ترى موجا تحتاج لرفع رأسك حتى ترى نهايته .... عندئذ تعرف أنك الله غاضب ... وأنك إذا مت في كل هذا فأنت في مأزق كبر"

    " سيداتي وسادتي نأسف لقطع برامجنا لإذاعة هذا الخبر العاجل ... ضرب زلزال قوي بلغت درجته 7.4 Mw منطقة وسط تركيا، و أدى إلى وفاة 17.118 شخص على الأقل و إصابة 50.000 آخرين و آلاف المفقودين و 600.000 مشرد، و أضرار شديدة في مقاطعات اسطنبول و كوكايلي و ساكاريا، و نفيد بأنه .........."

    كلنا سمعنا هذا الخبر على شاشاتنا في عام 1999 .. لم نهتم كثيرا كعادتنا .. بل إن من كان منا يتابع برنامجا ما أخذ يلعن في سره تلك الأخبار السوداء التي لاتنتهي والتي تؤدي لانقطاع البرامج دائما ... سمعناه في لحظة ونسيناه في التالية .... لكن تلك الكلمات المقتضبة التي حملها الخبر كانت تعني شيئا آخر في تركيا .... شيئا رهييبا ... عائلات كاملة أبيدت ... نساء ترملن فجأة .... أطفال ماتوا ولا يدرون لذلك سببا ....... وقد كنت – لسوء حظي – أعيش في كل هذا ... أعيش في اسطنبول ....

    في اسطنبول في البداية سمعنا أن هناك زلزالا قد ضرب مدينة إزميت ودمرها شر تدمير ... سمعنا هذا ولم نهتم كثيرا .... فرغم أن إزميت ليست بعيدة جدا .... إلا أن هذه الأشياء تحدث للآخرين فقط .. لا نتخيل أن نصبح نحن ذات يوم خبرا في التلفزيون يعرضنا نولول على حالنا ويرانا كل العالم ... هذا يبدو مستحيلا ... و كما تعلمون لقد كنا مخطئين ... وسذج ... لقد أصبحنا بعدها بيومين أهم خبر تتناقله جميع القنوات والصحف العالمية حقا .. خبر تدمير اسطنبول ..

    المكان : مدرسة أوزيل المتوسطة في اسطنبول
    المشهد : معلمة تكره اليوم الذي أتت فيه لهذا المكان
    السبب : مجموعة من الطلاب والطالبات الأغبياء – نحن –

    كانت المعلمة – التي تدعى صحاري – تشرح درس اللغة الإنجليزية في فتور .... تسأل أسئلة لا تنتظر إجابتها لأنها تجيب عنها بنفسها بعد ثانية واحدة ... الطلاب لا يبدو أنهم يعرفون معنى لغة إنجليزية بعد ... فالأتراك ضعاف في هذه اللغة بطبعهم ... وكل من يزورهم سيعاني الأمرين في توصيل شيء ما لهم ... أنا أؤمن أن اللغة الإنجليزية – وأي لغة أخرى – لا تأتي بالتعلم ... بل تأتي بالاكتساب ... كأن تعيش في أمريكا أو لندن ... أو تتحول لعاشق للأفلام والأغاني الأجنبية فجأة ... أو أي شيء آخر ... كنا ننظر إلى ساعة الفصل متسائلين عن هذا العقرب السخيف الذي لا يتحرك أبدا ... بقى نصف ساعة كاملة .... وأخذنا ندعو على المدرسة بالخراب وعلى وزارة التعليم بأكملها .... ولقد استجاب الله دعواتنا هذه في اللحظة التالية مباشرة ...

    إن الفصل فيه مجموعة من الخزانات المثبتة على الحائط ... وكل خزانة فيها مفتاح يتدلى من قفلها ... كل خزانة تخص أحد الطلاب في هذا الفصل ..... رأيت هذه المفاتيح تتحرك يمينا وشمالا بعصبية غريبة .... هل هذه المفاتيح قد جنت ؟ ..... فجأة سمعنا صرخة من مكان ما وصوت جلبة طلاب .... توقفت المعلمة عن الشرح لتصغي إلى ما هنالك ... لكن القدر لم يمهلها لحظة أخرى ..... اهتزت الأرض من تحتنا فجأة بعنف .... لم نكن نعرف كيف يمكن أن تهتز هذه الأرض الوديعة التي نمشي علها ..... ولم يكن هناك وقت لنتساءل عن كيف اهتزت .... رأينا طاولاتنا تقع علينا في لحظة ... ثم نرتد نحن ونقع عليها في اللحظة التالية .... المعلمة تتعثر على الأرض ولا تستطيع الهرب ..... وهنا حدثت المهزلة ...

    إنه زلزال .... ضربنا زلزال ..... الطلاب أصبحوا يجرون خارج الفصل بلا هدف ... وقد كنت من أول الطلاب الذين جروا .... مدرستنا فيها أكثر من ألفي طالب .... كلهم وجدتهم بالخارج يجرون في كل الاتجاهات .... ذلك المرمى الخاص بكرة القدم وقع وأحدث دويا هائلا ... الفتيات – كعادتهن الأزلية – يصرخن في هيستيريا ..... إن الفتيات يصرخن إذا رأين فأرا مسكينا ... فما بالك بالزلزال ...... لقد صمت آذاننا بصراخهن .... الأولاد فقط يجرون كالبلهاء في رعب .... أرى واحدا يمسك بحقيبته ويجري بها .... ياله من مهذب .... لم يكن هناك مهرب .....
    الزلزال في المدرسة وخارج المدرسة ... إلى أين ستهرب إذن ؟.... لكننا هربنا إلى الشارع الذي كان حاله أسوأ بكثير ... الناس خرجت من سياراتها ومن بيوتها هاربة إلى مكان ما ..... لقد كان يوما رهيبا ..

    أرى الآن ذلك الإعلان الكبير الذي طالما كرهته يسقط من حالق ..... ولحسن الحظ لم يجد من يقع عليه كما نرى في الأفلام دائما ..... ترى أين نهرب ... أنت تجري خطوتين وتقع في الثالثة ... إن الأرض تهتز ياصديقي ... تهتز ... أين شقيقتي ؟ .... إنها معي في نفس المدرسة .... لابد أنها أكثر واحدة صرخت ... فأنا أحفظها وأحفظ صراخها الدائم ..... ولدهشتي وجدتها تأتي إلي ولا تصرخ .... لم تقل شيئا... فقط تبادلنا النظرات... وجدت نورهان ابنة خالتي وراءها تبدو في أسوأ حالاتها .... ثم لمحت بتول – تلك الساحرة – تبكي ... يالمنظرها وهي تبكي ... قررنا الذهاب جريا إلى البيت فهو في نهاية هذا الشارع .... لكنه بدا لنا وكأنه في أقصى الأرض .... عليك أن تدور حول ألف سيارة وتتجاوز عشرة آلاف جسد قد احتشدوا في الشارع ... لا بأس من المحاولة .... وجرينا كلنا باتجاه البيت .... ظنا منا أننا سنجده أكثر أمنا ....

    فجأة هدأت الأرض .... لم تعد تهتز .... توقف المشهد كله كأنك ضغطت على زر Pause في الريموت كنترول ..... لم تعد تسمع صوتا .... فقط أصوات نظرات الدهشة – لو كانت لها أصوات - .... ترى أين نذهب الآن ؟ ... هل هي النهاية ؟ .... أم أن هناك هزة أخرى قريبا ؟ .... هل نصعد لبيوتنا ؟ ماذا إذا صعدنا إلى وأتت تلك الهزة ؟ ... عندها سيكون النزول صعبا ... الحل أن نبقى هنا إذن .... ولكن هل نبقى هنا طوال حياتنا ؟ .... هذا هو الحل الوحيد إذا أردت أن تبقى حيا ...... إن
    الزلزال الذي مر بنا – حسبما درسنا – هو خفيف .... لا يتعدى كونه هزة خجول .... ماذا إذا تبعه ما هو أعظم منه ؟ ..... إن الموت مرعب جدا عندما يأتي على غفلة .... عندما تشعر أنك ستموت قريبا .... ربما لو مرضت مرضا شديدا لكان الأمر أهون ... أما أن تموت هكذا فجأة .... فهو شيء رهيب حقا ..

    الناس كلهم قد احتشدوا في الشارع أمام بيوتهم .... ولحسن الحظ فإن هناك ساحة ترابية واسعة جدا أمام بيتنا .... جلس في هذه الساحة كل من يسكن في مبنانا والمباني المجاورة له .... الكل فقط يجلس ... ولا أحد يجرؤ على دخول بيته .... أتى والدي ووالدتي وخالتي وجميع جيراننا .... إنه مشهد مخيف .... كل هؤلاء قد جمعهم الخوف .... وجلسنا معهم أنا وشلتي التي تعرفونها من قراءتكم للقصص السابقة في حلقة الرعب ... لن تصدقوا إذا قلت لكم أننا جلسنا في هذه الساحة حتى منتصف الليل .... تسع ساعات كاملة لا يأمن أحدنا الذهاب إلى بيته .... يا لضعف وهوان الناس وسخافتهم .... إنهم حقا لا يحتاجون لأكثر من هزة عنيفة مدتها أقل من ربع دقيقية .. بعدها ينتهي كل شيء ... تتحطم مبانيهم وأحلامهم ويموتون بحسرتهم أو تدق عنوقهم ... يالغرورهم .... أسمع منهم من كان حلمه أن يصير أغنى الناس وأكثرهم أناقة .... وهاهو الآن يجلس امامي ينظر بين لحظة وأخرى في أسى إلى بيته الذي لا يجرؤ على دخوله ..... الأطفال يتسلون بالبكاء ..... من لديه وقت ليهتم بهؤلاء الأغبياء .... أحدهم جائع ... وإحداهن لا تحب الجلوس على التراب ..... وأحدهم يريد النوم .... إن الأمهات يتعبن حقا .... وهاهو منتصف الليل قد أتى وأخذ الناس ينظرون بعضهم إلى بعض .... ترى هل يجرؤون ؟

    إن الليل بدأ يزحف ... الجلوس على هذا لتراب متعب نوعا ما ... لقد كنت في ذلك الوقت في السادسة عشر من عمري .... إني أرى الآن أكثر من مائة إنسان احتشدوا في هذه الساحة الترابية التعيسة .... بعض الشباب العابث كان لايزال يجد في نفسه القدرة على الضحك وقول النكات البذيئة ... بعض الأطفال أخذو يجرون وراء بعضهم وهم يظنون أننا في نزهة جماعية لزيارة الساحة التي أمام بيتنا .... النساء كففن – أخيرا – عن الثرثرة وأصبحن ينظرن إلى أطفالهن في صمت ... مجموعة من الرجال وجدوها فرصة مناسبة للحديث عن الحكومة التركية وكيف أنها لا تعطي المواطن حقوقه الكاملة إلى آخر هذا السخف .... أما نحن فكنا نتحدث - ياله من شيء جديد - ... ما كان يعجبنا حقا أننا سنأخذ إجازة من المدرسة لمدة طويلة .... هذا ممتع ... ربما لن نعود لها أبدا .... لأن هذا
    الزلزال سيكون قد قضى علينا ...

    كنا نشتري الأكلات الجاهزة من المطعم القريب المتحمس .... ونشرب عصائر حتى امتلأت بطوننا منها وأوشكت أن تفور منا – العصائر وليست بطوننا طبعا - ... ماهذا الذي أراه ؟ ... إنهم يجتمعون للصلاة ... شر البلية مايضحك .... إن أغلبهم لم يكن يحضر أساسا لصلاة الجمعة .... مهلا .... هذا الرجل السكير الأصلع الذي يسكن في الشقة التي تحتنا .... إنه سيصلي ..... لقد ظننته مسيحيا ..... لم يكن يجيد سوى شرب الخمر ليل نهار ...... إن هزة صغيرة قد فعلت بالناس كل هذا ..... فهل ستكون الأخيرة .......

    أتت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل .... إن البعض يسقط نائما ولا يقدر على المواصلة ..... وهنا ارتفع صوت الجدال في شيء ما ..... فريق يرى أن يقضي ليليته هنا .... والفريق الآخر يرى أن يذهب للبيت .... وكنا نحن مع الفريق الثاني ..... كان بعض الناس مذبذبين .... لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .... لكن النوم سلطان كما يقولون .... إذا متنا سنموت ونحن نيام ....ولن نستيقظ لنرى يوما جديدا أبدا .... هذا أفضل من إذا متنا هنا كالفئران ..... ثم إن البرد قد بدأ يزحف إلى عظامنا .... لا شيء أفضل من سرير دافيء بعد قدح من الشاي الساخن الآن ..... وهكذا حسم الكثير أمرهم وتوجهوا لبيوتهم أخيرا .... كانت ليلة رهيبة ....

    إن الهزة التي وقعت كانت قوتها 4 على مقياس ريختر .... للأسف لم نكن نعلم أننا لازلنا في البداية ..... وما أتى بعد ذلك لهو مما يشيب له الولدان حقا ....

    مالذي ستشعر به عندما تضم إليك لحافك في ذات فراشك الدافيء وتحاول أن تنام .... شاعرا أن هذه الليلة قد لاتصحو منها أبدا ؟..... قد تكون الأخيرة .... إن مبدأ – يحدث لللآخرين فقط – قد اختفى تماما ... وأصبحنا نتوقع الأسوأ دائما ..... لكننا كما قلت لم نزل في البداية ..... إن أرض اسطنبول كانت تدخر لنا العديد من المفاجآت ....

    مرت هذه الليلة بهدوء شديد .... لم يحدث فيها شيء .... لم نسمع صوت حيوان أو إنسان حتى .... الحيوانات غادرت منذ مدة طويلة ... فهي تشعر بالزلازل بفطرتها قبل حدوثها .... الناس صامتون في رعب لا يدرون أينامون أم يقاومون ..... هناك مجموعة منهم في الأسفل في تلك الساحة الترابية فضلوا الجانب الآمن .... لكن حالهم كان مزريا .... يكادون يقعون من فرط السهر .... بعضهم ارتمى على التراب وقد غلبه النوم تماما و لم يستطع التحمل ... فليحدث ما يحدث .... لكنه شعر أنه سيموت حقا إن لم ينم الآن ..... حال تعيسة .... إن من استمعوا لأخبار زلزال اسطنبول قالوا .. أن زلزالا شديدا أصاب اسطنبول كاد يفتك بها .... ثم تلته خمس زلازل متتالية مفاجأة ...... قلت لكم أن أياما حافلة كانت تنتظرنا ....

    ما أرعبنا أكثر هو الأخبار ... التي أخذت تتناقل في حرارة أن هناك مصيبة قادمة علينا وأننا يجب أن نحتاط لكل شيء .... كيف نحتاط ؟ .... أخذوا يعرضون برامجا كثيرة عن كيف يكون التصرف إذا واجهك زلزال ...... حاول تقضية أغلب الوقت خارج بيتكم .... تخل عن بخلك - ولو للحظة - ولا تفكر في إنقاذ أي شيء ثمين ... إلى آخر هذه الدروس الي أصابتنا بالغثيان .... أصبح التلفزيون التركي يعرض فقط قرآن ..... ألغيت قناة Cine 5 الإباحية تماما بعد أن كانت في كل تلفزيون تقريبا .... ثم بعد كل هذا .... أتتنا الضربة الأولى فجأة ...

    كان الوقت ليلا .... كنت أشتري بعض الشطائر من ذلك المطعم الذي يشكر
    الزلزال ألف مرة .... ويتمنى حدوثه مرة كل شهر .... فالزبائن أصبحوا بالمئات ..... أنتظر بملل أن يتم إعداد تلك الشطائر اللعينة .... ألقي بنظرة على تلك الساحة الترابية .... الناس أصبحت أكثر تحررا ...... يتحدثون بصخب ... بعضهم يضحك .... بعضهم أتي ( بمرتبة ) ولحاف وتدثر بهما ونام ..... ثم خيل إلي أنني أسمع صوتا ما .... صوت لا تدري كنهه ولكنك تعلم أنه صوت كارثة ..... وفجأة مالت الأرض التي كنت أقف عليها بعنف .... ثم مالت للناحية الأخرى في أقل من ثانية .... ثم أصبحت تهتز ..... لم أعرف ماذا أفعل .... صوت صرخات رهيبة يصم أذني .... هرج ومرج وركض وقفز ....... حاولت الخروج خارج المحل لكن العاملين كانوا قد داسوا علي في طريق خروجهم .... زجاجات (الكاتشاب) و (المايونيز) تتطاير كأنها قذائف .... كانت هذا زلزالا حقيقيا ... كان ما حصل في السابق لعبة بالنسبة لهذا الذي أراه الآن ..... جريت بأقصى سرعتي نحو الساحة ... انضممت لعائلتي .... الكل يحاول التوازن وينظر بحذر إلى المباني متوقعا سقوطها على رأسه ..... لكننا نسينا شيئا مهما جدا .... عمود الإنارة الذي قد وجدها فرصة لإثبات وجوده ...... عمود الإنارة قد سقط .... سقط في منتصف الساحة ... ورغم أنه سقط ببطء نوعا ما وابتعد الكثيرين عن طريقه ... إلا أنه قابل رأسا واحدة أعجبته فهشمها عن آخرها ...

    - أحمد انظر لعبتي ... إنها جديدة وليست كلعبة إرهان المغرور .... ماما أحضرتها لي في العيد ...
    - هذه جميلة .... هل هي من متجر (جوزيل أويونلار) ؟
    - لا ... إنها من كابيتول
    - حسنا أرني إياها يا شايدا ...

    لعبة فيها خمس أزرار .... كل زر يسمعك أغنية جميلة .... مثل أغنية Happy Birthday To You وأغاني أخرى رقيقة ..... تصنعت الاهتمام حتى لا أغضب شايدا .....
    - بكم هي هذه التحفة يا عزيزتي ؟ ...
    - هيء .... لن أقول لك ؟ ....
    وجرت رافعة باللعبة إلى الأعلى وكأنها تحمل كأس العالم وهي تغني أحد الأغاني التي في اللعبة .... نظرت لها .... ياإلهي ... لقد كنا هكذا قبل سبع سنين .... إن الإنسان يتغير حقا ..... لكن القدر لم يمهل شايدا حتى تتغير مثلنا ..... كانت هي الأولى ..... أول ضحية رأيناها لزلزال اسطنبول المرعب ...

    شايدا لم تجد الوقت لتهرب .... لم تكن تملك حذرنا وسرعة استجابتنا ..... لم تكن تملك أي شيء ... ووالديها كانا بعيدين نوع ما عنها ..... من الخطأ أن تترك فتاة تلهو هكذا وأنت تعرف أن زلزالا سيضربك في أي لحظة .... لكن
    الزلزال لم يمنح والديها حتى حق البكاء عليها .... لقد اشتد علينا فجأة وبدأت أشياء أخرى تقع .....

    أرى الآن بعض ( الشماسات ) التي نضعها فوق المدخل لاتقاء الشمس قد تهشمت على الأرض ... علما بأنها مبنية من الطوب ..... أرى كذلك بعض الحمقى الذين كانوا بداخل بيوتهم يخرجون منها وكأن شياطين العالم كلها تطاردهم .... .لسنا وحدنا الذين نصرخ .... هناك صرخات في كل مكان تقريبا ..... وفجأة هدأت الأرض ...

    لازلت أشعر يرجة ما تحت قدمي ... لكنها خفيفة نوعا ما .... وهنا بدأت المناحة ..... ورغما عني بكيت كمن فقد كل شيء .... إن شايدا كانت تلعب أمام عيني منذ دقائق محاولة لفت الأنظار كعادة الأطفال دائما .....كيف ماتت هكذا فجأة ..... إنها لم تمت .... إنها تهشمت .... المسكينة .... لم أجرؤ على النظر إلى ما حل بها ....... وسمعت عبارات كفر كثيرة مثل ( يا رب ألم تجد سوى هذه الطفلة لتقتلها ) ... .. كانت هذه من أمها التي لن أصف لك حالها لأنه لا يخفى عليك .... ( يا رب ماذا فعلنا لك حتى تقتل شايدا ) .... إنها تصرخ وكأنها تؤنب شخصا ما .... هذه المجنونة .... ( يارب مالذي ...... ) وهنا حدثت الهزة الثانية لتريحنا من كل هذا الصراخ ....

    ذات مرة قرأت لنا لنا شايدا سورة الفاتحة – غيبا - بفخر وهي تتمايل يمينا وشمالا في خجل .... إن دموعي عليها لم تجف بعد ... ولم أجد الوقت لأجففها ..... ها أنا أنظر لكارثة أخرى ........ في الأفق تقريبا رأينا ذلك المبنى العالي ..... كنت دائما أنظر إلى ذلك المبنى وأنا صغير وأحاول عد طوابقه ..... كل مرة أصل للخمسين وأتعثر ثم أعيد العد منذ البداية ..... عرفت بعدها أن المبنى كان سبعين طابقا .... أراه الآن يتمايل ..... ثم حولت نظري ناحية صوت آخر قادم من مكان ما .... وعندما نظرت إلى المبنى الطويل ثانية لم أجده ...... نزلت بنظري لأسفل قليلا فوجدته ينهار ...... ياللهول ..... إن المشهد لو رآه أعظم أديب لحار في كيفية وصفه ...... المبنى يقصر شيئا فشيئا ويتكسر ...... ثم تهوي القطعة العلوية كالكارثة وتقرر القطعة السفلية أن هذا يكفي قتبقى في مكانها ...... لم يعره أحد اهتماما كبيرا .... كل أصبح له ما يشغله .... كلفني أبي بحماية شقيقتي التي كنت لأموت دونها ..... لقد كان الله غاضبا ...... نعم شعرت بهذا .... ويالتعاستنا نحن البشر الذين جلبنا كل هذا لأنفسنا .....

    في نفس الأسبوع الذي توفي فيه الشيخ العلامة عثمان بكتاش الفقيه التركي الشهير .... مر رجل تظهر عليه إمارات الوقار والتدين أمام أحد كافيهات اسطنبول ... وجد الشباب يضحكون ... الفتيات يتمايلن في ميوعة و لا تدري هل هذا الجينز هو ملابس أم تراه لون بشرتهن الأصلي .... (الدي جي ) يصرخ بأعلى صوته ولا أيبدو أن هناك من يعرف أن هناك رمزا دينيا من العلماء قد اختفى ورحل اليوم..... نظر الرجل لكل هذا ثم أغمض عينيه في غيظ قائلا .... إن الله لابد سيغضب في هذه الليلة ...... وقد كان كما قال ...

    أعود بكم إلى المشهد الممل الذي عشناه و ظللنا نعيشه فترات طويلة .... مشهد الساحة الترابية التي أصبحنا نحفظ كل شبر فيها ..... لقد هدأ كل شيء بعد
    الزلزال الأخير .... لم يذهب أحد ضحية أي شيء .... لا أحد سوى طفلة صغيرة تدعى شايدا ..... شايدا الجميلة .... إن الليل في اسطنبول الآن وجميع الجيران محتشدين في الساحة .... ينتظرون هزة أخرى قد تحدث في أية لحظة .... الهزة الأخيرة مر عليها أكثر من ثلاث ساعات الآن .... نحن جاوزنا منتصف الليل بكثير .... لكن في هذه المرة لم يجرؤ أحد على النوم فعلا .....

    ثلاث ساعات أخرى مرت كدهور .... إنه الفجر يتنفس ..... الناس تحسبهم سكارى ..... لكن الكل يعلم أن النوم هو المنتصر دائما .... في هذه المرة لم يذهب أحد إلى بيته لينام .... الكل سينام هنا اليوم .... كلنا سننام في الساحة اليوم .... تبرع بعض الشباب الشجعان بإحضار بعض الفرش من المنازل ..... فرشنا على الأرض كلنا .... وجلسنا .... بعضنا نام ...... لو رأيتنا لوقعت على الأرض من الضحك .... تخيل يا عزيزي .... أكثر من سبعين شخصا بين رجل وامرأة وطفل وعجوز ينامون معا على التراب ..... ليس من فقر أو مجاعة ... ليست نزهة جماعية .... إنه الخوف .... الخوف من الموت .... الخوف من الموت مهشما إذا انهار سقفك فوقك فجأة .... ورغم أننا – أنا وشلتي الصغيرة - ... معدومي الإحساس .... إلا أننا صدقا كنا نشعر بالرعب .... مالذي كان سيحدث لو لم تكن هذه الساحة موجودة .... إن الله رحيم بنا ... رحيم بنا في غضبه علينا ..

    رقدت على ظهري .... وجهي إلى السماء التي كانت – وياللعجب – جميلة جدا في تلك اللحظة .... هل سأعد النجوم حتى أنام ..... هل جرب أحدكم أن يعد النجوم حتى ينام ؟ .... إنه عمل مسل جدا .... ليس أمتع من أن تنظر للنجوم في ليلة صافية ... في مكان مظلم كالذي نحن فيه الآن ... مظلم بعد سقوط أعمدة الإنارة كلها .... بعض النجوم يتلألأ .... بعضها يتحرك .... شيء ما يلمع في الأفق ثم يختفي قبل أن تدري كنهه .... كيف تكون السماء سعيدة هكذا والأرض غاضبة .... إن النعاس بدأ يتسرب إلي كالأفعي تلتف حول قدميك .... ثم لا تلبث أن تحيط بجسدك كله ...... من ذكر سيرة الأفاعي الآن ؟ ... تذكرت الآن أنه ربما توجد عقارب في هذه الأرض الي ننام عليها .... لكن لا أظن .... إن العقارب أخافها
    الزلزال منذ مدة ..... شيئا فشيئا أخذت أغفو ثم أصحو لأجد النجوم بنفس ترتيبها .... أسمع بعض الناس يتكلمون في شيء ما بالجوار .... ثم أخيرا استسلمت ونمت ....

    - أحمد هلا ضربت لي هذا العمود هناك ؟
    - لماذا يا شايدا ؟ ... إن العمود واقف في حاله يا حبيبتي ..
    - لا ... لقد قتلني ... سقط على رأسي وقتلني ...
    - وهل تأذيت ؟
    - نعم قليلا .... انظر ...
    نظرت إلى مكان الجرح في رأسها ..... فوجدت مالا يمكن وصفه مراعاة لشعور البعض... رأس مهشم كأن مطرقة أسطورية قد هوت عليه .... بعض أحشاء الدماغ تبرز للخارج ..
    - أحمد اضرب لي العمود ...
    - اضرب لي العمود
    - العمود يا أحمد
    - سقط على رأسي وقتلني ..
    - انظر ..
    وهنا استيقظت في فزع ...... كنت نادرا ما أعرق .... لكني فعلتها الآن ... وفي هذا البرد .... منظر أشد غرابة واجهني .... أكثر من سبعين جسدا نائما على الأرض .... كأنها جثث في مذبحة جماعية ....أين والدة شايدا ؟ ... هاهي هناك ..... إنها لازالت ساهمة تنظر إلى الأرض كأنها ستخترقها ببصرها .... يالهول مارأيت في حلمي ... لكني برغم كل شيء ... كنت سعيدا .... سعيدا لأنني رأيت وكلمت شايدا الجميلة مرة أخرى ...
    الصباح بكل نوره وصخبه قد وصل .... بدأنا نقوم واحدا تلو الآخر كالسكارى .... الكل عيونهم منتفخة من آثار الليلة الرهيبة .... هنا لن تغسل وجهك ولن تمشط شعرك .... هنا أنت على حقيقتك المريعة ... منظر البعض كان مرعبا أكثر من
    الزلزال نفسه .... أصبحت أعرف الآن من أين يقتبسون مسوخ أفلام الرعب ... ثم من هذه هناك ؟ يا إلهي ... إنها مدام هيلال ... إنها تبدو مخلوقا فضائيا بدون مكياجها ..... دائما ما كانت تعذب نفسها وتعذبنا معها بلبس الكعب العالي .....يبدو أن هذا الزلزال مفيد نوعا ما ...

    خمسة أيام كاملة مرت علينا في هذا العذاب المقيم .... الكثير من الجماعات والأحزاب تكونت فيما بيننا .... الكثير من الأصدقاء صاروا أعداء والعديد من الأعداء صاروا أصدقاء فجأة ..... هل هي النهاية ؟ ... أم أن هناك هزة أخرى وأخرى قريبا .... إن التليفزيون لا يقدم شيئا مفيدا عن الأمر .... إن الدراسات تعجز تماما عن التنبؤ بأي شيء .... لكنها لم تكن عاجزة عن معرفة إذا ماكان زلزال ما قد انتهى أم أنه سيكون له توابع ... وهذا كان أملنا .... كل يوم نتابع التلفزيون وجميع الأخبار العاجلة التي يقدمها .... يا إلهي إننا أقل منطقة حدث فيها الخراب ... إن المنطقة الأوروبية من اسطنبول كادت أن تدمر ...... ياللهول ما كل هؤلاء الموتى ... ونحن الذين ظننا أننا نتعذب .... ماذا حصل لقصر توبكابي ... لم يمس .... لا أستغرب هذا وفيه آثار من آثار حبيبنا وسيدنا محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام ....

    كانت ليلة مملة أخرى .... الناس أصبحت الآن مستعدة للنوم بسهولة أكثر عن ذي قبل .... وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل .... فزع الجميع مرة أخرى .... سمعنا صوت هدير مفاجيء اخترق الصمت مقتربا في قسوة ..... أصغينا السمع .... هذا صوت مألوف ..... إنه ليس زلزال .... هو صوت هليكوبتر .... رأيناها تحلق فوقنا كأنها تستطلع المكان بكشافاتها التي أعمت عيوننا تماما ..... وفجأة دوى صوت آخر .... صوت مايكروفون ....

    "إلى جميع سكان منطقة أوسكودار الأعزاء .... نعلن أن هيئة الأرصاد قد درست الأمر جيدا ونفيدكم بأنه يمكنكم العودة إلى بيوتكم آمنين .... فأقوى مرحلة من
    الزلزال قد مرت عليكم بخير .... وجميع توابع الزلزال – لو حدثت – ستكون أضعف من أن تؤثر فيكم تأثيرا مؤذيا ..... أكرر ..... "

    همهمات عمت في أرجاء الساحة ... من كان نائما جلس ... ومن كان جالسا وقف ... الناس يتحدثون في حماس عن هذا الخبر الجديد ..... مادامت هيئة الأرصاد قد أذاعت هذا فقد درست الأمر جيدا من جميع الزوايا ..... إذن فقد انتهى الكابوس بالنسبة لنا ..... إننا بعيدون عن مركز
    الزلزال إذن لحسن الحظ ..... ورأيت بعيني الناس تلملم فرشها في حماس وتنظفها من الغبار ... رأيتهم يتجهون إلى بيوتهم في سعادة وقلق .... هذان لا يجتمعان إلا في حالتنا هذه .... أنا أساعد عائلتي في جمع فرشنا بدورنا ..... اتجهت إلى المنزل ...... وألقيت نظرة أخيرة على الساحة ..... ساحة الرعب ...

    لحسن حظنا لم يؤذنا زلزال اسطنبول الرهيب ... لكنه ذكرنا أن الأمور لا تبقى على حالها دائما ... وأن ربنا إذا أمهل وأمهل .... فإنه لايهمل أبدا .... عشت أياما رهيبة في تلك الساحة الترابية المخيفة ...... إنني أنظر الآن إليها وأتذكر .... ليست ترابية الآن ... إنها ثلجية ... فالثلوج تتساقط عليها الآن من السماء في مشهد جميل يستحق النظر إليه عبر نافذتك ..... نظرت إلى العمود إياه فوجدته قد أعيد تثبيته ...... شايدا ماتت هنا ذات يوم ..... ورغما عني .... انحدرت دمعة ساخنة أدفأت وجهي المرتعش من البرد ...... نعم ... ماتت شايدا هنا ذات يوم أمام عيني ..... ولم تجد أحدا لينقذها ....


    يقول المغني بحزن ...

    أحدهم قتل شايدا الصغيرة
    الفتاة ذات اللحن العذب
    والتي كانت تغني دائما بالجوار
    لقد كانت هناك تصرخ
    تقرع بصوتها أبواب نهايتها
    لكن أحدا لم ينجدها مبكرا
    ويالمنظر الدماء على شعرها

    الكل أتى ليري
    الفتاة التي قد ماتت الآن
    ويالها من نظرة تلك التي في عينيها
    يالرقتها وهي راقدة هناك
    ويالرشاقتها و أناقتها
    اللهم ارتق بروحها بعنايتك
    و يالمنظر الدماء التي على شعرها

    لقد كان هناك تحاول
    أن تغني ذلك اللحن
    لشخص ما ربما شعر بيأسها
    وقد صرخت بقوة
    وما من أحد هناك

    شايدا الصغيرة حاربت بصعوبة حتى تعيش
    يالرقتها وهي راقدة هناك
    ويالرشاقتها و أناقتها
    اللهم ارتق بروحها بعنايتك
    كم هي صغيرة و كم هي جميلة

    مع الاعتذار لصاحب الأغنية العبقري مايكل جاكسون حيث كان يغني عن ( سوزي الصغيرة ) .. بينما أحب أنا أن أغنيها دائما عن عزيزتي شايدا ... شايدا الصغيرة ..

    النهاية

  9. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكاية ذات العنق الطويل


    "أن تطيل امرأة من قبائل الزامبيزي عنقها فهو أمر عادي .. أما أن تفعل ذلك فتاة مصرية في العاشرة من عمرها فهو أمر مخيف "


    إن المصايف المصرية لها مزية هامة جدا .. أنك لا يمكن أن تشعر فيها بالسأم أبدا.. الشوارع صاخبة من الفجر إلى الفجر .. باعة الترمس والفيشار في كل مكان يذكرونك دائما أنك حتما جائع .. صوت الأمواج الرتيب يصلح أن يكون خلفية موسيقية لو كان هذا مشهد ما في أحد الأفلام .. طفل يمشي بالآيس كريم على الكورنيش وكأنه لايعبأ لأي شيء في هذا العالم .. وكنت أنا هذا الطفل - في الثانية عشر من عمري - أمشي في شوارع ( رأس البر ).. مدينة ساحلية تستخدم كمصيف في مصر.. كنت سعيدا جدا اليوم .. فبعد قليل سيأخذنا أبي إلى الملاهي .. هذا رائع .. سيكون هناك بيت الرعب و السيارات التي ماصنعت إلا لتتصادم والكثير من الآيس الكريم المنعش .. يالي من شخص محظوظ حقا .

    إن أبي شخصية أكاديمية جدا فيما يتعلق بالملاهي ... ( هيا .. إن لكل واحد منكم أن يركب ثلاثة ألعاب فقط .. هيا انطلقوا الآن ) ... كل الآباء لا يسمحون سوى بثلاثة ألعاب فقط .. هل هو قانون ما ؟ .. لقد كنا ونحن أطفال نلتزم حرفيا به ونشعر أنه ليس من حقنا أبدا لعبة رابعة .. لكن والد مراد يسمح لهم بخمسة ألعاب .. لابد أن مراد شخص سعيد جدا.. يالي من شخص تعيس في هذه الحياة .

    لم تكن الملاهي التي ذهبنا إليها كالملاهي الحديثة التي نراها الآن .. كانت أشبه ببعض الخردوات التي جاؤوا بها من مكان ما وصنعوا بها ألعابا .. هناك ضوء يتسلل من مكان ما في بيت الرعب يسمح لك برؤية كل التماثيل السخيفة قبل أن تصل إليها .. المفترض أن يكون مظلما .. سيارتي المتصادمة هي الوحيدة التي لا تتجه نحو اليسار أبدا .... فأنا مجبر دائما على الانعطاف يمينا في دائرة مملة .. من سمى هذا المكان ملاهي ؟ .. ظللت أمشي في هذا المكان باحثا عن شيء ما لا أعرفه حتى وجدت استوقفني شخص غريب .

    رجل يرتدي ثياب المهرجين ويضع طربوشا على رأسه وهو يشعر أنه ظريف جدا.. طوال حياتي وأنا لا أحب المهرجين .. ولا أجد فيهم ما يستدعي الضحك .. بل إنني أشعر بالرعب في بعض الأحيان إذا تخيلت أن أحدهم ظهر لي في ليلة مظلمة .. كان الرجل يبتسم بلزوجة ناظرا إلي وهو يقول بلهجته المصرية :
    - إيه يا حبيبي .. زعلان ليه ؟ .. خد دي .

    وأعطاني بعض الحلوى .. نظرت إليها فعرفتها فورا – فقد كنا نحفظ جميع أنواع الحلوى ونحن صغار - .. كانت من النوع الذي لا أفضله .. شكرته واستدرت متأهبا للانصراف .. وهنا دوى صوت ما من مايكروفون ما في مكان ما يقول بلهجة تقريرية :
    - السادة الزوار .. إن عرض (حنكوشة ) سيبدأ بعد دقائق قيلة .. نرجو منكم التوجه إلى مسرح الملاهي الآن .. الدخول مجاني .. وستشاهدون فقرة الساحر مختار المثيرة من ضمن البرنامج .. نرجو منكم الإسراع لأن العرض على وشك أن يبدأ .. وشكرا لكم .

    رأيت المهرج يستدير متعجلا إلى مكان ما .. لقد كنت قد أنهيت ألعابي الثلاثة .. لكني أريد بقاء أطول وقت ممكن في هذه الملاهي الخربة لأنني لا أريد الذهاب إلى الشاليه – الفندق – الضيق الآن .. فلأحاول إقناع أبي بحضور هذا العرض .. بحثت عن أبي هنا وهناك .. وأخيرا وجدته يوبخ أخي الصغير على فعل ما من أفعاله الشقية التي يمارسها كهواية .. ذهبت له ... تحدث معي كثيرا على أنه مرهق ويريد النوم .. لكنني كنت مصرا كمستعمرة من الذباب .. لم يجد أمامه مع كل هذا الإلحاح إلا ان يوافق .. يوافق على دخولنا عرض حنكوشة ... ولا أدري كيف يخترعون هذه الأسماء ...

    المهرج يحاول قفز الحبل ويتعثر ويقع مرات عديدة متظاهرا بالبلاهة .. ثم يقرر أن يجد شيئا جديدا يفعله بالحبل فيفرده على الأرض ويمشي عليه فاردا ذراعيه متظاهرا بأنه يحاول التوازن ... إنه يظن أنه طريف .. الناس السخفاء يضحكون بشدة وكلهم من ذوي الشوارب .. كيف يضحكون على هذا السخيف ولايضحكون على توم وجيري ؟ .. لن نفهم الكبار أبدا .. جاء بعد المهرج عرض القرد – الذي دائما مايكون اسمه ميمون - .. كان هذا لطيفا نوعا ما .. ثم جاء نافخ النار .. وبعده المهرج السخيف مرة أخرى .. ثم دوى الميكروفون مرة أخرى ليذكرنا أن أهم عرض سنراه في حياتنا سيبدأ بعد لحظات .. عرض الساحر مختار ..

    وهنا دخل الساحر مختار .. شاب مصري أسمر كالذي تراه في كل مكان هنا في مصر .. يلبس بنطلونا و قميصا و لاشيء فيه يختلف عن ذلك الرجل الذي يجلس بجانبي .. كنت أعلم أن هذه الملاهي مملة .. هنا وقف مختار هذا في وسط المسرح تماما و تكلم .. وهنا بدأت أشعر أنه مختلف .. كان يتكلم بثقة وبطء ورزانة .. قال أن لديه عرضا لنا لن نصدقه أبدا .. لا هو من ألاعيب الحواة .. ولا هو خدعة .. ولا هو أي شيء آخر يخطر على بالنا .. صمت الجميع في ترقب بانتظار ما سيقدمه .. جاء بعض الرجال بطاولة قصيرة وضعوها في منتصف المسرح تماما .. ثم أتوا بشيء غريب جدا جدا .. سأحاول أن أصفه لكم الآن .. تبا كيف يوصف هذا الشيء ؟

    كان أشبه بقمع .. نعم قمع ذا عنق طويل ... وقاعدة عادية ... كان طول عنق القمع مثل طول ذراعك .. وقاعدته عادية كأي قمع آخر ... وضعوا هذا القمع على الطاولة ... وضعوه مقلوبا على قاعدته ... أي أن عنقه هو الذي بالأعلى .. وأحضر الرجال ستارا داكنا ليحجب الطاولة والقمع .. ثم دخل الساحر مختار وراء الستار ببطء.. كنت أفكر فيما قد يفعله هذا الساحر بذلك القمع الطويل .. أخذت أحاول أن أستنتج شيئا ما مرارا لكني فشلت .. ثم قررت الاستسلام والانتظار لأرى بنفسي .. وهنا أزاحوا الستار فجأة ورأينا كل شيء .. رباه .. لقد كانت لحظات مروعة ..

    كل شيء كان كما هو .. الطاولة وعليها القمع .. لكن كان هناك شيء آخر .. رأس ... رأس فتاة صغيرة تبرز من فتحة عنق القمع ..... حاولت الاقتراب بعنقي لأتأكد أنني لست واهما ولا معتوها .... يا إلهي .. إنها رأس فتاة .. الفتاة تنظر إلينا وتحرك رأسها .. رأسها الذي يبرز من فتحة القمع ... أين عنق هذه الفتاة بالضبط ؟ .. هل هو بداخل عنق القمع الرفيع الذي لايزيد قطره عن قطر قلمك الجاف ... ثم أين جسدها ؟.. .إن الطاولة أسفلها خالية تماما ولا يوجد شيء ما محجوب منها .... وهنا دعانا الساحر مختار لأغرب شيء يمكنك أن تسمعه من ساحر ... دعانا للاقتراب من رأس الفتاة والدوران حولها وتفحص الطاولة وماتحتها وحولها جيدا للتأكد أنه لا يخدعنا ...

    هنا ترددت قليلا .. هل أذهب لهذا الشيء ؟ .. رأيت العديد من الرجال والنساء يقومون من مقاعدهم متجهين لهذا الشيء ... رأيت أبي لازال جالسا بهدوء يحاول اختراق أجسادهم بعينيه ليرى رأس الفتاة ... وهنا قمت من مقعدي ... يجب أن أرى هذا الأمر عن قرب ... لقد ظننت أن هذه الملاهي مملة ... لكنني كنت مخطئا تماما ..

    كنت قصيرا في ذلك الوقت لذا اخترقت أجساد الرجال أمامي بسهولة محاولا الوصول إلى الطاولة ... لقد كانوا متزاحمين تصدر منهم همهمات الاستنكار والاستغراب والتساؤل والغضب والقسوة و الرعب ..... نعم همهمات فيها كل هذه المعاني ... لكنني لم أهتم .... ظللت أخترق الصفوف حتى وجدت نفسي امامها فجأة ..... أمام رأس الفتاة .

    كانت رأسا كالتي تراها تزين عنق أي فتاة في العاشرة من عمرها .. لكن هذه كان شعرها بني قصير وبشرتها قمحية فاتحة ... ملامحها جميلة وعينيها لم تكن تنظر إلى أحد من الجموع المحتشدة حولها ... لقد كانت عيناها تنظران إلى اللامكان ..... سارحة في دنيا أخرى ... أحيانا تحرك رأسها .... وأحيانا تغمض عينيها في تعاسة .. وعندما برزت امامها فجأة كالقدر أدارت رأسها .... ونظرت إلي ..

    إن كل الفتيات اللواتي يستخدمهن السحرة في ألعابهم السحرية على المسارح يكن واثقات جدا ومبتسمات جدا ... إلا هذه الفتاة ... نظرت إلي في تعاسة .. نظرت إلي في ألم ... كنت أعرف أن بالموضوع شيء غير طبيعي .. فلم أكلف نفسي باكتشاف أسفل المائدة أو القمع لأنني لن أجد شيئا ... إن ما أراه أمامي الآن هو نوع من السحر ... السحر الأسود ..

    أغمضت عيناها مرة أخرى ثم ازدردت لعابها ... ثم فتحت عيناها ونظرت إلي ثانية .... كنت أنا مندهشا جدا فلم أبد أي حركة إيجابية .... ظللت أنظر إليها كالغبي ... ثم شعرت بحركة ما خلفي ... عرفت أن الرجال بدؤوا ينصرفون مبسملين ومحوقلين ولاعنين هذه الألاعيب الشيطانية ... وهنا ألقيت نظرة متوترة أخرى إلى الفتاة التي كانت تنظر إلى اللامكان من جديد ثم استدرت عائدا ... رأيت أمي تمسك بالكاميرا وتصور ... رائع ... إن هذا المشهد يستحق التصوير وإبقائه عندي إلى الأبد ... عدت إلى مكاني ورأيتهم يحركون الستار مرة أخرى ليحجب الطاولة ..

    وعندما فتحوا الستار مرة أخرى لم يكن هناك أثر لرأس الفتاة ... كانت الطاولة .. وعليها القمع .. نظرت هنا وهناك فقد أجد رأس الفتاة يتجول بالجوار لكني لم أجده ... سمعت أبي يقول في ثقة أن مختار هذا ساحر .. وأنه استعان بالجن فيما فعل ... وأخذ يستعيذ بالله من السحرة وشرورهم ... لكنني لن أنسى تلك النظرة التي نظرت إلى الفتاة بها ما حييت .... نظرة استنجاد ... نظرة ألم لم تحاول إخفاءه .. لقد كانت مسكينة ... ولست ادري مالذي فعله بها ذلك الساحر اللعين وهي بعد في العاشرة من عمرها .

    غادرنا الملاهي وأنا شارد في كل ما حدث ..... كنت أريد أن أرى تلك الصورة التي صورتها أمي للمشهد ... لم أحتمل الانتظار ... أخذت الكاميرا وصورت باقي الصور حتى أنهيت الفيلم ..... ثم أخذت الكاميرا في اليوم التالي إلى الاستوديو .... قالوا لي أن علي استلامها غدا في نفس الموعد ... يالهم من كسالى .

    شعرت بالتعاسة الشديدة بعد ذلك .... فعندما استلمت الصور وجدت صورا عديدة لأخي يبتسم في بلاهة أو لنا مجموعين في صور عائلية .... بحثت عن تلك الصورة فلم أجدها مطلقا .... عرفت من عاملة الاستوديو أن هناك صورة واحدة احترقت للأسف خلال التحميض ...

    هل هو حظ سيء؟ ... هل هو سحر أسود ؟ ... هل هو جان ؟ ... لن أعرف أبدا .... لكنني موقن تماما أنني في يوم ما كنت على بعد سنتيمترات قليلة من فتاة مسحورة ... يالها من تجربة .. حقا يالها من تجربة ...

  10. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    المنصورة
    المشاركات
    113

    افتراضي

    حكايتي مع الجن


    " لم أرهم بعيني . لكني لمستهم ، وشعرت بهم يلمسون جسدي . وأستطيع أن أقسم بالله على ذلك "



    بدأ كل شيء في عام 2000 . كنت أنا مراهقا ساذجا في ذلك الوقت . وذلك الشارب الأخضر السخيف فوق شفتي يثبت لي أنني لم أعد طفلا كالسابق . كنت في الصف الثاني الثانوي في مدرسة ما في المدينة المنورة . كان كل واحد من الشباب له هواية ما يحب ممارستها ، فالبعض كان يهوى كتابة رقم جواله في ورقة ويرميها عند قدمي أول فتاة منقبة – ككل الفتيات – في المدينة في ذلك الوقت . آخرون كانوا يجدون متعتهم في القفز من فوق سور المدرسة ليس للهروب بل لمجرد القفز ، فأراهم يفعلون ذلك خمس مرات في اليوم الدراسي .

    أما أنا فكانت لي هواية كريهة تختلف عن كل الشباب ، كنت أهوى كل ما يتعلق بالجان . قرأت كل كتاب رخيص نزل في الأسواق عنهم من طراز – الجن بين الحقيقة والخيال – أو – حوار مع جني مسلم – أو أي شيء من هذا القبيل . وقد اقتنيت سلسلة شرائط تسجيل مرعبة تدعى ( الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار ) . هذه الشرائط كانت مرعبة بحق . بعضها كان يتحدث عن السحر، وما هي الخطوات التي تتبعها لتصير ساحرا – كانت حجتهم الغريبة في هذا أن يتفادى المرء فعل هذه الأشياء – وبعض الشرائط كانت عن الجن ، تصف حياتهم وأشكالهم وقصصهم وأنهم موجودين في كل مكان . بعض الشرائط الأخرى كانت تتحدث عن العين والحسد وكيف أن العين الواحدة لها القدرة على هدم عمارة كاملة بما فيها ومن فيها .



    لقد قال أحد أطباء النفس ذات مرة أن المستغرق في مثل هذه الأمور معرض في النهاية للجنون أو الخبال العقلي وأنها خطرة جدا لأنها تشكل عنصر جذب للعديد من الحمقى أمثالي .

    ظللت أقرأ وأقرأ حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم ، عندما أغلقت على نفسي الغرفة وأصبحت أكلم نفسي - كعادتي – بصوت عال . تكلمت مع شخصي المتواضع في كل شيء وناقشنا أمورا خطيرة ، وبينما أنا أحدثني إذ أتيت على ذكر موضوع الجان هذا . وهنا أصبحت أتكلم موجها الكلام لهم – للجان – قلت لهم أنهم أضعف من أن يؤذوني لأنني أعرف كل الأذكار التي تمنعهم من حتى التفكير في مجرد فعل هذا . قلت لهم أن يظهروا لي الآن إذا كانوا حقا موجودين في هذه الدنيا . وظللت أنظر حولي كالأبله منتظرا أن يتفضل علي واحد منهم ويظهر لي نفسه . لكن شيئا من هذا لم يحصل طبعا . ظللت أواصل الحديث معهم ، ثم أخذت أضحك كالمعتوه ... وأضحك وأضحك .... هل جننت ؟ أنا أعرف نفسي جيدا . أنا لست من الطراز الذي يجن مهما قال أطباء النفس المتحذلقين . لكنني كنت مغرورا ... وكاد غروري هذا أن يقتلني رعبا في يوم ما .

    لم يحصل شيء في الأيام التالية . ولكني كنت أضبط نفسي خائفا عند دخولي الحمام بالذات . لأنني كنت أعرف أنه غرفة نومهم . ظللت على هذا الحال حتى جاء ذلك اليوم الذي خرج فيه كل أهلي لمكان ما وظللت وحدي في شقتنا الواسعة . لم يكن الوقت ليلا . فلسنا في فيلم رعب هنا . لقد كنا في وضح النهار كما يقولون . دخلت غرفتي وأغلقت الباب علي . تمددت على السرير وسرحت بعيدا في نقطة اللاشيء . لم أكن من الطراز الذي يستطيع النوم في النهار مهما بذلت في ذلك من جهد . لكنني في ذلك اليوم شعرت بوعيي ينسل مني داخلا بي إلى عالم الأحلام . جفناي يتثاقلان وينغلقان تدريجيا حتى يطبقان على بعضهما . لقد نمت ، لم أكن مرهقا ، بل لقد كنت نائما كفاية بالليلة الماضية . لكنني نمت لسبب غير مفهوم ...... إلا أنني عندما استيقظت فهمت كل شيء .

    لقد كانوا يقودونني إلى عالمهم ... عالم الأحلام حيث تفقد السيطرة على روحك .... إلى العالم الذي أصير فيه لعبة بين أيديهم يلهون بها كما يشاؤون ... إنها فرصتهم للانتقام مني – بسبب الحماقات التي كنت أثرثر بها بصوت عال - وهم لن يتركوها تفر منهم أبدا – الفرصة وليس الحماقات طبعا - لطالما كنت أحرص على قول الأذكار اليومية صباحا ومساء وقبل دخول أي مكان مريب كغرفتي أو كالحمام . أما هذه المرة فقد نسيت ، والأهم أنني نسيت أذكار النوم ..... أصبحت ملكهم تماما ... لم يكن أحد يمكن أن يوقظني حيث أنه لا أحد في الشقة . كان هذا يعني أنهم سينهون الاحتفال بي في الوقت الذي يحددونه بأنفسهم .

    فجأة استيقظت . لم أفتح عيني .... لكنني كنت قد استيقظت . لا أذكر شيئا مما حلمت به . بل إنني لم أحلم على الإطلاق . لكن مهلا .. أنا لا أتحرك ... أقسم أنني لا أتحرك . يداي وقدماي مثبتتان إلى السرير وكأن جبلا كبيرا يرقد على كل يد وكل قدم . لم أجرؤ على أن أفتح عيني .... كدت أموت رعبا . حاولت رفع يدي اليمنى بكل قوتي لكن عبثا ... وكذا اليسرى . حاولت تحريك قدمي أو أصابعي فلم أنجح . الجزء الوحيد الذي كنت أستطيع تحريكه هو رأسي .. لكنني كما قلت لم أجرؤ على فتح عيني . كنت أعرف أنني لابد سأرى وجوها مشوهة ذات عيون حمراء وقرون وابتسامات ساخرة تنظر إلي بتشف ... كنت خائفا جدا .

    ظللت خمس دقائق على هذا الحال ... فكرت أن أصرخ .. لكنني كنت أعرف أنه لا أحد في البيت ... لا صوت أواني في المطبخ يدل على أن أمي تطبخ شيئا ما ... أو حتى صوت Space Toon بأغانيها المملة والتي تدل أن أخي يشاهدها الآن .... كان واضحا أني لازلت وحدي في الشقة . ثم اهتديت أخيرا إلى الحل ...الأذكار .... فلأستخدم الجزء الوحيد الصالح للتحريك هنا وهو لساني .


    قرأت المعوذتين والإخلاص كل واحدة ثلاث مرات ... وبعد انتهائي من آخر كلمة (من الجنة والناس ) تحررت قيودي الأربع .... أخيرا . ولكن هل أفتح عيني الآن . أظن هذا .... فتحت عيني فلم أجد أي مسوخ ولا عيون حمراء ... فقط غرفتي المملة كما هي و صورة ( Jill Valantine ) على الجدار ترمقني باستفزاز . ما هذا الذي حصل لي ؟ لا بد أنني مقبل على مصيبة ... نعم لابد أنها مصيبة فعلا .


    هناك من الناس من يخاف من الرسوب . أو من يخاف من الفئران . وهناك من يخاف من عيون الناس .. وهناك من يخاف من الزومبي أو من دراكيولا .... لكنني أصبحت أخاف شيئا آخر .... أصبحت أخاف من النوم . لقد فهمت خطتهم ... ينسونني أذكاري وينوموني حتى ينفردون بي . لقد كانوا رحيمين بي في المرة الأولى فاكتفوا بتقييدي في فراشي ... لكن من يعرف ماالذي قد يفكر فيه هؤلاء .... إنك حتما يمكنك أن تتوقع تصرفات أستاذك أو أبوك أو صديقك أو ربما عدوك ... لكنك حتما لا تستطيع التنبؤ بما يفكر فيه جني .... خاصة إذا استفززته بغباء كما فعلت أنا .

    مرت الأيام التالية وأنا شديد الحذر ... أقول الأذكار كلها عشر مرات قبل النوم . ظللت هكذا حتى أتى اليوم الكريه الثاني . لابد من يوم ما ينسل إلي النوم بدون استئذان ... يوم أكون فيه مرهقا ، أو حزينا ، أو ربما أشاهد مباراة كرة قدم مملة ... وقد أتى اليوم الموعود . كنت أذاكر استعدادا للإختبارات النهائية . كنت غارقا حتى أذني في قوانين الطفو وأن مجموع القوى المحركة للمادة التي تغرق هي لابد مساوية لكتلة المادة المحترقة بفعل الكيروسين . ولكن ماذا تفعله هذه السمكة هنا ... ثم أن نيوتن يسبح بجانبها .... نعم إني أراه بوضوح و ......... هاااااااوم ....... لقد نمت .... ولعمري لقد كانت غلطة قاتلة .

    فجأة استيقظت .. كنت ممدا على الأريكة .... كالعادة لم تكن هناك أحلام .... لكنني مشلول .... مشلول كما حدث معي في السابق . هل أفتح عيني هذه المرة ؟ لا أحد يدري مالذي يمكن أن أراه إذا فعلت ... ربما أرى الشيطان ذاته ... لا أدري .. وهنا سمعت صوتا غريبا ... لا أدري كيف أصف هذا الصوت بالكلمات ... لم يكن يشبه أي صوت معروف آخر لكنه شيء ما يشبه ( فوووووووووووووووم ) ... نعم شيء كهذا .... هو يبدو بعيدا قليلا .... قلت لنفسي أنه لابد أن هناك أعمال حفر قد حدثت فجأة في الشارع وأن هذا صوت ماكينة ما من تلك الماكينات التي لاتنتهي ..... ولكن لا ... المشكلة أنني أسمع الشارع من مكاني ... ثمة شباب حمقى يتحدثون في أمر ما ... ويضحك أحدهم بصوت عال ..... لا ريب أن تلك الفتاة قد أخذت ورقته أخيرا ... ياله من محظوظ .

    مالذي يعرفه هذا الأحمق عن هذه الصوت المريع الذي أسمعه الآن .... لابد أنه سعيد الآن ..... لكنني كنت أعرف الحل ..... المعوذتين والإخلاص ..... قلتهم بسرعة ..... لم يحدث شيء ... لازلت مشلولا . كررتهم أربع مرات إضافية حتى شعرت بأنني تحررت ..... هنا فتحت عيني . التفت إلى النافذة ثم قمت وفتحتها ... لا أحد بالخارج ... لا ماكينات . ولا شباب حمقى ... يا إلهي هل كان هذا كله وهما . .... تبا لي ولما فعلته بنفسي .

    تكرر معي الموضوع في الشهور التالية كثيرا .... حتى نشأت بيننا نوع من الألفة .... فعندما أستيقظ وأجد نفسي مشلولا . أتأفف لاعنا في سري هؤلاء الجن الأشقياء .... لا وقت عندي لهذا الهراء .... أقول المعوذتين والإخلاص ثم يفك قيدي .... يالها من تجربة ممتعة .... أصبحت لا أخاف منها أبدا ..... حتى أتى ذلك اليوم الذي فتحت عيني فيه .... ويالهول مارأيت .

    استيقظت مرة في منتصف الليل شاعرا بالظمأ ... لا شيء أفضل من كوب من الماء البارد في هذا الوقت .... ولكن تبا إنني مشلول ... ياللسخافة سيكون علي الانتظار قليلا .... أخذت أقرأ المعوذتين وأقرأ ثم فتحت عيني فجأة ... كنت أريد أن أرى مالذي سيحصل لو فتحتهما ........ وهنا وأقسم بالله على هذا رأيت شيئا ما جاثما علي ، صدره على صدري ووجهه أمام وجهي مباشرة ... لن أصفه لك . .... لأنني لم أره جيدا لم أره سوى لثانية واحدة أو ثانيتين ... .....فقط كان كيانا له وجه وجسد وعينين بلون الدم .


    أغمضت عيني وصرخت بكل قوتي . تحررت قيودي مباشرة .... وهنا جريت كالمعتوه من الغرفة إلى الإفريز إلى الحمام الثاني بقرب غرفة والدي ، شعرت بواحد معتوه آخر يجري ورائي . كان هذا هو أخي الصغير ... لاريب أنني أفزعته بصرختي .... وجدت أبي مستيقظا يتوضأ في الحمام .... سألني أسئلة كثيرة لم أفهم منها شيئا .... أجبت عنها كلها بـ ( نعم نعم ) ( حسنا أنا آسف ) ( ربما ) ....لابد أنه ظن أنني مجنون .

    بعد هذا لم أستطع أن أنام في جميع الليالي التالية إلا والنور مضاء ... وكنت أتحمل نظرة أختي الساخرة لي وأنا أطلب منها أن تبقي النور مضاء ..... يالهذا الشارب الأخضر الذي يجعل الناس تنسى أنني لازلت ذلك الطفل السخيف ...... لكن هؤلاء الجان لم يكونوا قد انتهوا مني بعد .... كانوا يدخرون لي ما هو أفضل .

    فجأة استيقظت في أحد الأيام في منتصف الليل والنور مضاء ..... كنت مشلولا كالعادة .... إن هذا مرعب ... أغمضت عيني بكل قوتي وأخذت أقرأ المعوذتين بسرعة .... عشر مرات أو أكثر ولم يفك قيدي .... لابد أنها نهايتي الآن ... لقد نسيت أن أصلي العشاء قبل أن أنام .... فلأتلق عقابي إذن .... وهو عقاب مريع ..... أخذت أقرأ وأقرأ بلا جدوى . وفجأة انفجر المصباح بفرقعة سمعتها في أذني عالية جدا ...... كان مصباحا رخيصا ولا ريب أن تاريخ صلاحيته ينتهي الآن ..... ياله من مصباح يفتقر إلى التهذيب .... ألم يجد وقتا أفضل من هذا ( يفرقع ) فيه ؟


    فتحت عيني فور أن سمعت فرقعته كرد فعل بشري طبيعي ..... لم أر شيئا .... فك قيدي .... لكني عندما نظرت إلى الباب رأيت شيئا غريبا ..... رأيت أمي ..... كانت تلبس ثوبا أبيضا واسعا طويلا جدا ... رأيتها من ظهرها ..... أمعنت النظر ..... هذا الثوب ليس عند أمي أبدا ..... ياللهول .... ما هذا الذي أراه .... إن أمي تتلاشى .... كأنها الدخان . نعم .... تتلاشى ..... ظلت تتلاشى حتى امتزجت مع الهواء واختفت تماما . قمت من على سريري بحذر ومشيت إلى الحمام المجاور .... فتحت نور الحمام فسمعت فرقعة أقوى بكثير من الأولى ..... يالهذه المصابيح الرخيصة التي نشتريها دوما.. إنها ( تفرقع ) في أوقات غريبة ..... شعرت بالذعر .... بكيت ..... وهنا سمعت أذان الفجر .... فبكيت أكثر .... عرفت كم أنا مقصر ... وهؤلاء الجان يجيدون التسلية بأمثالي .... لابد أن أنزل الآن إلى المسجد وأصلي الفجر فيه وأدعو الله .... وأسأله أن يغفر لي ماكان مني من سهوات .... فهو الوحيد الذي يمكنه أن يطمئن قلبي ... ويحميني من هذه الكائنات التي تتسلى بي ..... توضأت .... ونزلت في الظلام إلى المسجد .

    وها أنا الآن قد كبرت ومرت حوالي عشرسنين على هذه الحوادث ولم تحدث لي حادثة ( الشلل ) هذه إلا بعض المرات التي تعد على إصبع اليد الواحدة ..... وأصبحت الآن زاهدا في كل ما يتعلق بالجن ..... وزاهدا في كل الكتب الرخيصة التي تتحدث عنهم .... فماذا يعرف هذا المؤلف أو ذاك عن الجن حتى يكتبوا عنهم .... أنا تعاملت معهم بنفسي .... والحقيقة أنهم أسوأ طبقة يمكنك التعامل معها ...... كانوا قساة جدا .... ولا يحتاجون سوى لقلب مؤمن مطمئن بالإيمان لمواجهتهم وإيقافهم عند حدهم .

    عرفت أن هذا الصديق الذي كان يشل حركتي إنما هو جني .. جني مشهور سماه العرب ( الجاثوم ) لأنه يجثم على صدر ضحيته من الإنس فيشلها شللا كاملا .. وسمته الحضارات القديمة Incubus .. بعض تلك الحضارات كانت تعتقد أنه لا يزور سوى النساء ولما كانوا يرسمونه عادة كنت ترى مخلوقا بشعا قصيرا جدا يجلس فوق صدر امرأة يبدو من ملامحها أنها تتعذب .. يمكنني فهم الرسمة و الشعور بعذابها لأنني شعرت به كثيرا .. و أوقن أن معظمكم شعر به هو الآخر .

صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الاتجار في البشر والاستغلال الجنسي للأطفال
    بواسطة ياسمين في المنتدى بحوث ومقالات في القانون الجنائي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-18-2010, 07:36 PM
  2. الاتجار في البشر والاستغلال ****** للأطفال "الظاهرة ودور الانترنت فيها"
    بواسطة هيثم الفقى في المنتدى مكتب أستاذ هيثم الفقي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-25-2010, 12:57 AM
  3. الانفصال يمنع الزوجة من السفرِ
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-04-2010, 03:00 PM
  4. ما الحكم في زوج يمنع زوجته من حضور المؤتمرات العلمية
    بواسطة فهد في المنتدى أحكام الأسرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-22-2009, 07:30 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •