بَعْدَ الأَرْبَعِينَ
بَعْدَ مُحَاوَلاتٍ مُتَكَرِّرَةٍ لِلْبَقَاءِ مَعَهُ حِفَاظًا عَلَى
بِنْتَيْهَا ـ أَقْسَمَتْ عَلَى أَنْ تَفْتَحَ نَوَافِذَهَا لِلْهَوَاءِ وَلا تَعُودُ إِلَيْهِ ثَانِيَةً 0
مُسْرِعَةً ـ سَلَّمَتْ بَقَايَا جَسَدِهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي
دَقَّ الْبَابَ أَوَّلاً ، خَوْفًا مِنْ مُطَارَدَةِ عُيُونِ
الآخَرِينَ الثَّاقِبَةِ الَّتِي تُعَرِّيهَا أَيْنَمَا ذَهَبَتْ ،
وَلَسْعِ سِيَاطِهِمْ عَلَى جَسَدِهَا النَّحِيلِ ، كَعَادَةِ
الشَّرْقِيِّ حِينَ تَلْقَاهُ ـ فِي الطَّرِيقِ صُدْفَةً ـ
امْرَأَةٌ مُطَلَّقَةٌ 000
000000
000000
000000
ـ أَلَمْ أَقُلْ لَكِ يَا ابْنَتِي إِنَّكِ تَتَسَرَّعِينَ !!
ـ كَفَى يَا أُمِّي !
ـ الْبُكَاءُ يَا ابْنَتِي لَنْ يُفِيدَ 000 اهْدَئِي لِنَرَى مَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْعَلَ !
تَزْدَادُ فِي بُكَائِهَا ، كَرَضِيعٍ فَقَدَ ثَدْيَ أُمِّهِ ـ لَيْلاً ـ فَظَلَّ يَحْبُو بَاحِثًا عَنْ أَحْضَانِهَا مُصْطَدِمًا بِالْكَرَاسِيِّ الْمُتَنَاثِرَةِ فِي أَرْجَاءِ الْحُجْرَةِ 000
ـ يَأْخُذُ مَا يُرِيدُ ، لَكِنِّي لا أَحْتَمِلُ أَنْ أَرَى مَلامِحَهُ الْمُخَادِعَةَ مَرَّةً ثَانِيَةً 000
ـ وَالنَّاسُ يَا ابْنَتِي 000
مَاذَا نَقُولُ لَهُمْ ؟ أَخُوكِ غَاضِبٌ ، وَأَخَوَاتُكِ
ثَائِرَاتٌ 000
ـ أَخِي 000 أَخَوَاتِي 000 أَيْنَ هُمْ ؟
كُلُّهُمْ يَشُقُّونَ الزِّحَامَ بَحْثًا عَنْ لُقْمَةِ الْعَيْشِ ، وَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَا أَنَا فِيهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً يَا أُمِّي 00
لا يَشْعُرُونَ بِوَحْدَتِي ، وَلا يُشَارِكُونَنِي أَوْجَاعِي
أَبَدًا ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَحْمِينِي مَا تَجَرَّأَ الآخَرُونَ عَلَى ذَبْحِي يَا أُمِّي 000
تَدْخُلُ فِي نَوْبَةٍ حَادَّةٍ ، فَاقِدَةً وَعْيَهَا ،
مُسْتِسْلِمَةً لِدُمُوعِهَا الرَّقِيقَةِ ، لَعَلَّهَا تُخَفِّفُ آلامَ
الرُّوحِ 000
يُنْصِتَانِ لِمُوَاءِ قِطَّةٍ يَتَعَالَى عَلَى نَاصِيَةِ الطَّرِيقِ ، تُطَارِدُهَا كِلابُ الْجِيرَانِ دُونَ رَحْمَةٍ ،
وَلا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُمْ بِأَظَافِرِهَا الضَّعِيفَةِ ،
فَيَزْدَادُ أَنِينُهَا مُسْتَغِيثَةً بِمَنْ يُلْقِي حَجَرًا فِي اتِّجَاهِهِمْ دُونَ جَدْوَى 0
000000
000000
000000
ـ لا بُدَّ يَا ابْنَتِي أَنْ تَعُودِي إِلَى زَوْجِكِ الأَوَّلِ فَمَا زَالَ رَاغِبًا لا يُفَرِّطُ فِيكِ 000
ـ أَعُودُ إِلَيْهِ ثَانِيَةً يَا أُمِّي 000 أَنْتِ تَقُولِينَ
ذَلِكَ ؟
ـ عَلَى الأَقَلِّ بَنَاتُكِ يَحْمِلْنَ اسْمَهُ 0
ـ وَعُمْرِي الَّذِي ضَاعَ مَعَهُ ، وَغَيْرَتُهُ الَّتِي أَحَالَتْ حَيَاتِي جَحِيمًا لا يُطَاقُ ؟ 000
أَلَيْسَ هُوَ مَنْ قَادَنِي إِلَى مَا أَنَا فِيهِ الآنَ ؟ كَلا يَا أُمِّي كَلا ، لَنْ أَعُودَ إِلَيْهِ ، وَأُفَضِّلُ الْبَقَاءَ
وَحْدِي 0
ـ ظَلُّ رَجُلٍ يَا ابْنَتِي 000
ـ كَلا 000 كَلا !!
ـ بَنَاتُكِ يَا ابْنَتِي 000
ـ ارْحَمِي ضَعْفِي !
ـ اسْتَعِيذِي بِاللهِ ، وَعُودِي إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أُمِّكِ الْمَرِيضَةِ الَّتِي لا تَحْتَمِلُ بُكَاءَكِ يَا ابْنَتِي 0
ـ يَا أُمِّي 000
ـ سَأَتَّصِلُ بِهِ 0
ـ وَهَلْ يَقْبَلُ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ كُلِّ مَا حَدَثَ ؟
ـ حَتْمًا سَيَعُودُ 0
ـ أُقْسِمُ لَوْ عَادَ لَضَاع مَا تَبَقَّى لَهُ مِنْ كَرَامَةٍ عِنْدِي يَا أُمِّي 000
ـ الْكَرَامَةُ 000 الْكَرَامَةُ 000 هَذِهِ كَلِمَةٌ سَئِمْتُهَا وَلا أَفْهَمُهَا 000
تَوَاضَعِي يَا ابْنَتِي كِي تَعِيشِي ، وَخَفِّفِي مِنْ هَذَا الْكِبْرِ وَالْغَطْرَسَةِ 000
ـ لَيْسَ كِبْرًا يَا أُمِّي بَلْ كِبْرِيَاءَ 000 وَمَاذَا يَتَبَقَّى لِلإِنْسَانِ إِنْ فَقَدَ كَرَامَتَهُ ؟
ـ تَبْقَى أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ أَقَلَّ أَهَمِّيَّةً يَا
ابْنَتِي 000
ـ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِكِ أَنْتِ يَا أُمِّي 000
000000
000000
000000
عَادَ إِلَيْهَا صَاغِرًا بَعْدَ ابْتِسَامَةٍ وَاحِدَةٍ أَلْقَتْهَا ـ فِي كِبْرِيَاءَ ـ تَحْتَ قَدَمَيْهِ 000
000000
000000
000000
فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ ـ أَعَدَّتْ قِطَعَ الْحَلْوَى الشَّهِيَّةَ الَّتِي يُحِبُّهَا ، وَزَيَّنَتْهَا ـ فِي عِنَايَةٍ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الْفَاكِهَةِ الطَّازَجَةِ 000
000000
000000
000000
فِي الْيَوْمِ التَّالِي ـ أَوْشَكَتِ الْحَلْوَى أَنْ تَفْسُدَ ، وَاسْتَسْلَمَ لِلنَّومِ مُتْعَبًا 000
000000
000000
000000
فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ـ أَلْقَتْهَا فِي سَلَّةِ الْمُهْمَلاتِ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ !!
مَرَّتِ الأَيَّامُ ثَقِيلَةً فَاقِدَةً بَهَاءَهَا تَتَرَقَّبُ لَحْظَةَ الْفِرَاقِ الأَخِيرِ ، كَسَجِينٍ مَلَّ الْقُضْبَانَ يَتَمَنَّى أَنْ تَأْتِيَ لَحْظَةُ تَنْفِيذِ الإِعْدَامِ 000
000000
000000
000000
فِي الطَّرِيقِ إِلَى بَيْتِهَا الْقَدِيمِ تَزَاحَمَتْ فِي رَأْسِهَا الذِّكْرَيَاتُ 000
أَدْرَكَتْ أَنَّ الْعَقْلَ وَحْدَهُ يَمُوتُ ، وَالْجَسَدَ وَحْدَهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى أَنْ يَحْيَا ، وَأَنَّهَا فَقَدَتْ فِي الْحَالَيْنِ رُوحَهَا الْجَمِيلَةَ 000
000000
000000
000000
فِي الطَّرِيقِ إِلَى عَمَلِهَا ـ تَوَقَّفَتْ أَمَامَ مَلامِحِهِ
الْبَرِيئَةِ 000
بَادَلَهَا نَظْرَةً بِنَظْرَةٍ ، لَكِنَّهَا تَلَفَّتَتْ إِلَى الأَمَامِ مُسْرِعَةً فِي ارْتِبَاكٍ 000
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ـ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ رَآهَا ، كَمَوْجَةِ بَحْرٍ فَائِرَةٍ تَرْتَطِمُ بِصُخُورِ الشَّاطِئِ ثُمَّ تَرْتَدُّ مُنْكَسِرَةً لِلأَعْمَاقِ 000
لَكِنَّهَا أَطْرَقَتْ رَأْسَهَا فِي تَرَدُّدٍ ، وَمَشَتْ 000
فِي لَحَظَاتٍ خَاطِفَةٍ كَشِهَابٍ يَسْقُطُ فَوْقَ الأَرْضِ ، أَدْرَكَ أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَهَا تَرْحَلُ بَعْدَ أَنْ دَقَّ قَلْبُهُ ، وَأَصْبَحَ بَيْنَ مِطْرَقَةِ الْحَدَّادِ وَسَنْدَانِهِ 000
لِلْمَرَّةِ الأُولَى تَعْرِفُ مَا كَانَ يَنْقُصُهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْنَحَهُ مِنْ قَبْلُ ، لَكِنَّ حَيَاءَهَا أَبَى أَنْ تَبُوحَ 0
صَمَتَتْ طَوِيلاً ، وَهُوَ يُرْسِلُ خَلْفَهَا نَظَرَاتِهِ الْحَانِيَةَ مُتَوَسِّلَةً فِي اسْتِرْحَامٍ ، لَكِنَّهَا تَأْبَى أَنْ تَمُدَّ يَدًا ، وَتَمُرُّ 000
ـ أَرْجُوكِ لَحْظَةً وَاحِدَةً !!
ـ مَاذَا ؟
ـ أُرِيدُكِ لِي 000
ـ لَكِنِّي 000
ـ أَعْرِفُ 000
ـ مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ؟
ـ مِنْ عَيْنَيْكِ تَأْتِي أَحْزَانٌ ، وَتَبُوحُ
الأَوْجَاعُ 000
ـ هَلْ أَنْتَ مَجْنُونٌ ؟
ـ مَجْنُونٌ سَاقَتْهُ الأَقْدَارُ إِلَيْكِ لِيُسْعِدَكِ ، وَيَمْنَحَكِ شَيْئًا لا يُشْتَرَى 000
ـ مَاذَا تَمْنَحُنِي ؟
ـ حُبًّا نَاضِرًا ، وَحَنَانًا لا يَمُوتُ 000
ـ لَكِنِّي امْرَأَةٌ أَتَجَاوَزُ الأَرْبَعِينَ 0
ـ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ تَعُودُ الْمَرْأَةُ إِلَى طُفُولَتِهَا وَصِبَاهَا ، فَتُعْطِي مَشَاعِرَهَا الأُولَى، وَهَذَا مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ 0
ـ مَاتَتْ عَوَاطِفِي مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ 000 لَسْتُ قَادِرَةً عَلَى الْعَطَاءِ 000
ـ بَلْ أَنْتِ تَمْنَحِينَ رُوحِي وَحَيَاتِي وُجُودًا يَتَحَقَّقُ حِينَ أَرَاكِ 0
ـ أَنْتَ تَبْحَثُ دَاخِلِي عَنْ سَرَابٍ 000
ـ الْحَقِيقَةُ تَتَخَفَّى دَائِمًا وَرَاءَ السَّرَابِ 000 فَقَطْ عَلَيْنَا أَنْ نَصْدُقَ فِي الرِّحْلَةِ 000 نَتَصَالَحَ مَعَ أَنْفُسِنَا الْمُتْعَبَةِ ، وَنَكْشِفَ أَوْجَاعَنَا لِلرِّيَاحِ 0
ـ جَسَدِي كَتِينَةٍ فِي الْخَرِيفِ ، أَسْقَطَتْ أَوْرَاقَهَا ، وَلا تَحْمِلُ بَيْنَ فُرُوعِهَا الثِّمَارَ 0
ـ لا أَبْحَثُ عَنْ جَسَدٍ ، ثُمَّ إِنَّ الشِّتَاءَ قَادِمٌ لا مَحَالَةَ ، وَفِي الصَّيْفِ يَنْضَجُ ـ عَلَى فُرُوعِهِ ـ التِّينُ 0
ـ اتْرُكْنِي أَرْجُوكَ ! مَاذَا تُرِيدُ مِنِّي بَعْدَ
الأَرْبَعِينَ ؟
ـ أُرِيدُ رُوحَ الأَمِيرَةِ النَّبِيلَةِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكِ ،
وَأَنْتِ لا تَزَالِينَ تَمْلِكِينَ فِتْنَةً صِيغَتْ مِنْ عَنْبَرٍ ، وَعَسَلٍ مُصَفَّىً 000
أَنْتِ عَجِينَةُ مِسْكٍ تَشَكَّلَتْ فَوْقَ غُصْنِ بَانٍ مُشْتَعِلٍ يَتَوَهَّجُ حَارِقًا مَنْ يُلامِسُهُ وَلا يَنْطَفِئُ 0
ـ كَفَى يَا مَجْنُونُ !!
ـ خِفَّةُ دَمِكِ كَلَسْعَةِ نَسِيمٍ بَارِدٍ فِي لَيْلَةِ صَيْفٍ
مُوقِدَةٍ 000
ذَكَاؤُكِ كَشَّفْرَةِ سَيْفٍ قَاطِعٍ دُونَمَا مُلامَسَةٍ 00
بَدِيهَتُكِ فِي تَوَهُّجٍ تُغَذِّيهَا رُوحٌ لا شَرْقِيَّةٌ وَلا
غَرْبِيَّةٌ 000
ـ أَنْتَ شَاعِرٌ جَرِئٌ 0
ـ يَكَادُ وَجْهُكِ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ 000 أَعْضَاؤُكِ تَتَوَقَّدُ فِي لَيْلٍ بَارِدٍ ، كَبُرْكَانٍ تَفَجَّرَ مُخَلِّفًا وَرَاءَهُ خُصُوبَةَ أَرْضٍ لَيِّنَةٍ تَنْبُتُ بِالصَّنْدَلِ
وَالْكَافُورِ 000
ـ لَنْ تَرَانِي ثَانِيَةً 000
ـ بُعْدُكِ لَيْسَ عِقَابًا بَلْ حُكْمًا بِالإِعْدَامِ ،
وَأَنَا رَاضٍ بِحُكْمِكِ ، لَكِنْ لا تَذْبَحِينِي مَرَّةً
وَاحِدَةً 000 رِفْقًا بِقَلْبِي الضَّعِيفِ 000
ـ أُقْسِمُ لَنْ تَرَانِي 000
ـ عِنْدَئِذٍ تَذْبَحِينَ الْعَصَافِيرَ دَاخِلِي ، وَتَقْتُلِينَ أَسْرَابَ الْيَمَامِ 000
ـ ضُمَّنِي إِلَيْكَ 000
000000
000000
000000
اسْتَسْلَمَتْ فِي ارْتِيَاحٍ لِجَسَدِهَا النَّابِضِ
بِالْحَيَاةِ 000
احْتَضَنَهَا فِي رِفْقٍ بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ 000
فَتَحَا ـ فِي انْتِشَاءٍ ـ نَوَافِذَ الْحُجْرَةِ لِلنَّسِيمِ النَّدِيِّ يُدَاعِبُ أَوْرَاقَ التِّينِ ، مُلاطِفًا ثِمَارَهَا الشَّهِيَّةَ فِي جُنُونٍ 0
المفضلات