المبحث الثاني
الاساس القانوني لفكرة الفاعل المعنوي للجريمة

ظهرت فكرة الفاعل المعنوي على يد الفقهاء الالمان، وذلك من اجل مواجهة موقف كان يمكن للمحرض من خلاله أن ينجو من العقاب إذا اثبت أن منفذ الجريمة لم يكن لديه قصد جرمي عند إرتكابه لها، أو كان غير ذي اهلية جزائية كالصغير غير المميز والمجنون (29) .

وعلى ذلك، فإن نظرية الفاعل المعنوي قد قامت اساسا من اجل ايجاد مبرر لاعتبار المحرض فاعلا اصليا للجريمة، حين يدفع شخصا غير مسؤول جزائيا إلى إرتكابها (30). وقد اطلق على الفاعل المعنوي اصطلاح الفاعل غير المباشر أو الفاعل بالواسطة وهكذا نجد أن فكرة الفاعل المعنوي قد نشأت من اجل سد النقص الذي ظهر نتيجة تبني الفقه لاتجاه يأخذ بمذهب التبعية المطلقة للاشتراك الجرمي، فإذا كانت معاقبة الشريك تتوقف على وقوع جريمة من الفاعل الاصلي، بحيث تقوم مسؤوليته عنها بتوافر الركن المادي والركن المعنوي والمسؤولية الجزائية لديه، فإن تخلف الركن المعنوي لدى الفاعل أو عدم مسؤوليته جزائيا، سوف يترتب عليه عدم معاقبة الشريك في إرتكاب هذه الجريمة (31). ومن هنا، فقد لجأ الفقه إلى فكرة الفاعل المعنوي حتى يمكن معاقبة من دفع انسانا عديم المسؤولية أو حسن النية على إرتكاب الجريمة، واعتباره فاعلا اصليا فيها .

وقد كان القانون الالماني يأخذ بمذهب التبعية المطلقة التي تشترط لمساءلة الشريك عن فعل الفاعل أن يكون هذا الاخير مسؤولا جزائيا، مما دفع الفقه في المانيا إلى المنأداة بنظرية الفاعل بالواسطة – وهو الفاعل المعنوي – و أثرّ ذلك عدل المشرع الالماني عن نظرية التبعية المطلقة في مايو 1942 وأخذ بنظرية التبعية النسبية والتي من مقتضاها أن يسأل الشريك عن الجريمة ولو كان الفاعل المادي لها غير مسؤول عنها لسبب يتعلق به (32) .

ومما يؤيد فكرة الأخذ بنظرية الفاعل المعنوي هو أن القانون يسوي بين الوسائل التي يستخدمها الجاني في إرتكاب جريمته، فقد يستخدم يديه أو أحد اعضاء جسمة لتحقيق ماديات الجريمة، كما قد يستخدم أداة منفصلة عن جسمه ليتمكن من تنفيذ جريمته، كمن يدفع بعربة ثقيلة باتجاه المجني عليه لتصطدم به وتقضي عليه، أو من يحرش كلما مدربا ليهجم على شخص فيؤذيه .كمن يدفع بعربة ثقيلة باتجاه المجني عليه لتصطدم به وتقضي عليه، أو من يحرش كلبا مدربا ليهجم على شخص فيؤذيه، ومعنى هذا أن القانون لا يفرق بين الادوات التي يستخدمها الجاني في إرتكاب جريمته، فقد تكون الأداة جمادا أو حيوانا مدربا، كما قد تكون انسان حسن النية أو انسانا غير اهل لتحمل المسؤولية الجزائية، وعلى ذلك، فإن من المتصور قانونا قيام الجريمة إذا ما استعان الجاني بأي أداة لتنفيذها، ولا فرق بين الادوات المستعملة في هذه الجريمة، بل يمكن اعتبار الانسان الذي لا إرادة له مجرد أداة في يد فاعل الجريمة حين يوجه مثل هذا الانسان إلى تنفيذ جريمته. (33)

كذلك، فإن مما يدعم فكرة الأخذ بفكرة الفاعل المعنوي للجرمية هو أن هذا الفاعل لا يمكن اعتباره مجرد محرض على إرتكاب الجريمة، بل هو فاعل اصلي لها، لان الشخص الذي سخره لتنفيذ الجريمة هو مجر الة في يده، وهو غير مسؤول جزائيا، والتحريض لا يوجه إلا إلى شخص اهل للمسؤولية الجزائية، وعلى علم بما يطلب إليه من عمل، وعلى علم ايضا بالنتيجة الجرمية التي ستترتب على هذا العمل (34). وبناء على ذلك فإن التحريض الذي يوجه إلى الفاعل المادي الحسن النية أو عديم الاهلية لن يكون ذا جدوى في خلق التصميم الاجرامي لديه أو في زرع فكرة الجريمة في وجدانه لأنه لا يمكنه ادراك ما يطلب منه(35) .

وقد ساعد على ظهور فكرة الفاعل المعنوي للجريمة ما ذهبت إليه النظرية الشخصية في المساهمة الجنائية من أن معيار التمييز بين الفاعل والشريك يقوم على اساس توافر نية الفاعل التي يفترض أن تنصرف ارادته للسيطرة على المشروع الاجرامي (36)، فمن توافرت لديه هذه النية يكون هو فاعل الجريمة ايا كان نوع الفعل الذي صدر عنه، وعليه، فإن الشخص كامل الاهلية الذي يتوافر لديه القصد الجرمي، تكون إرادة السيطرة على المشرع الاجرامي متحققة لدية حين يدفع شخصا عديم الاهلية أو حسن النية إلى إرتكاب الجريمة، ومثل هذه الإرادة لا يمكن القول لا يمكن القول بتوافرها لدى هذا الاخير (37) .

المبحث الثالث
مجال تطبيق فكرة الفاعل المعنوي للجريمة

تطبق فكرة الفاعل المعنوي على من يحمل شخصا عديم التمييز على إرتكاب الجريمة، كما هو الحال حين يدفع شخص طفلا غير مميز أو مجنونا إلى اشغال حريق، إذ في مثل هذه الحالة يكون الفاعل المادي بمثابة أداة في يد الفاعل المعنوي الذي يلعب دورا ايجابيا واضحا في تحقيق الجريمة، مما يجعله مستحقا لان تنسب إليه الجريمة، ولأن يعاقب كما لو كان قد باشر ركنها المادي بنفسه (38) ،كما تطبق فكرة الفاعل المعنوي – وعلى نفس الاساس – حين يكون منفذ الجريمة حسن النية (39)، أي لا قصد جرمي لديه كمن يسلم شخصا حقيبة تحتوي على مواد مخدرة على أنها حقيبة ملابس لينقلها معه ويوصلها إلى أحد اقاربه، فيأخذها منه دون أن يدري حقيقة ما تحوية هذه الحقيبة، وحالة من يعطي آخر سُماً زعافا ليقدمه إلى شخص ثالث على انه دواء، وكذلك حالة من يضع السم في حلوى ويوصلها إلى المجني عليه بواسطة شخص حسن النية فيعتبر واضع السم فاعلا لجريمة القتل بالسم (40).

وقد توسع الفقه الحديث في مجال تطبيق فكرة الفاعل المعنوي ليشمل كل الحالات التي تنعدم فيها إرادة منفذ الجريمة، كحالة من يكره غيره على إرتكاب الجريمة، ومثال على ذلك الرئيس الذي يأمر مرؤسه بالقيام بعمل يعتبر جريمة دون أن يكون هذا المرؤوس عالما بعدم مشروعية ما يقوم به، وكذلك حالة من يستعمل الاكراه المادي على شخص آخر لتنفيذ جريمته، كمن يمسك بيد هذا الشخص ويقوم بوضع بصمة اصبع جبرا أو اكراها على محرر مزور، ففي مثل هذه الاحوال يكون المنفذ المادي للجريمة قد ارتكب الفعل المكون لها تحت ضغط أو اكراه مادي، ويعتبر الشخص الذي صدر عنه مثل هذه الاكراه هو الفاعل للجريمة، اما الشخص المكره فإن ارادته كانت منعدمة، مما لا يمكن معه مساءلته لان الفعل الذي اتاه لا يعتبر عملا بالمعنى القانوني لهذه الكلمة، بل يعد الفعل قد صدر عمن مارس هذا الاكراه .

كما يمكن تطبيق فكرة الفاعل المعنوي في حالة الجرائم التي تستلزم صفة خاصة في الفاعل، وهذه الجرائم هي التي لا يمكن أن يرتكبها سوى أشخاص لديهم المقدرة على اتيان الافعال المكونة للركن المادي لها بشكل مباشر، فيصيبون بأفعالهم المصلحة محل الحماية القانونية (41)، فإذا كان هناك شخص لا يتمتع بالصفة الخاصة التي يتطلبها القانون فاستعاض عن عدم قدرته هذه باستخدام منفذ لديه هذه الصفة، فإنه يعتبر فاعلا معنويا للجريمة أن كان المنفذ المادي لها حسن النية (42). ومن الأمثلة على الجرائم التي تستلزم صفة خاصة في الفاعل، كصفة الجندية في الجرائم العسكرية، وصفة الموظف في الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة وصفة الذكورة في جريمة الاغتصاب، وعليه فإنه يمكن اعتبار المرأة فاعلا معنويا في جريمة الاغتصاب، وذلك من منطلق أن صفة الذكورة ليست قرينة غير قابلة لاثبات العكس، فقد يكون الشخص الذكر غير قادر على إرتكاب الاغتصاب لكونه عنينا مثلا، إلا أن مثل هذا الشخص يصلح لأن يكون فاعلا معنويا لهذه الجريمة أن قام هو بدفع مجنون على إرتكابها، إذ يكفي أن تتوافر الصفة الخاصة في شخص منفذ الجريمة، فيكفي أن يكون المنفذ ذكرا وان يكون من دفع هذا الشخص إلى إرتكاب الاغتصاب هو انثى، لأن دور الفاعل المعنوي ينحصر في نطاق التفكير والتدبير والتشجيع والدفع إلى إرتكاب هذه الجريمة (43). وتكون مثل هذه المرأة قد جعلت من منفذ الاغتصاب أداة بشرية في يديها Instrument humain interntionl فتعتبر بذلك فاعلا بالواسطة اي فاعلا معنويا لهذه الجريمة (44) .
ويرى جانب من الفقه في الاردن أن المراة التي تسخر مجنونا لاغتصاب أمرأة آخرى تكون مرتكبة لجناية هتك العرض. إذ لا يمكن مساءلة هذه المرأة عن جريمة الاغتصاب، لأن جريمة الاغتصاب تستلزم أن يكون الفاعل فيها ذكرا، اما هتك العرض فيمكن أن يكون فاعلها ذكرا كما يمكن أن يكون انثى (45). ونحن لا نؤيد هذا الرأي على اطلاقه، فإذا كان ما قامت به المرأة يشكل جزءا من الافعال المكونة لجريمة الاغتصاب فإنه يمكن مساءلتها عن هذه الجريمة بصفتها شريكا اصليا اي بصفتها فاعلا اصليا للجريمة، أن كان ما قامت به من افعال مقصودة أدى إلى أن يتمكن الشخص المجنون من اتيان فعل الاغتصاب، كأن تقوم بإمساك المجني عليها وشل مقاومتها حتى يتمكن عديم المسؤولية من اغتصاب هذه الانثى .

ولا شك أن الصفة الخاصة التي يستلزمها إرتكاب بعض الجرائم، مثل صفة العسكرية أو الجندية، تثير صعوبة عند تطبيق فكرة الفاعل المعنوي للجريمة، ومثال ذلك أن يقوم شخص مدني لا يحمل الصفة العسكرية بتسخير شخص عسكري حسن النية، كمنفذ مادي لجريمته، بأن يضع في امتعته لدى خروجه من المعسكر مالا أو متاعا يخص المؤسسة العسكرية، مما يشكل جريمة السرقة المنصوص عليها في المادة /26 من قانون العقوبات العسكري الأردني، وبعد الخروج من المعسكر، يأخذ الفاعل المعنوي(وهو شخص مدني) هذا المال أو المتاع من المنفذ المادي للجريمة الذي لا يدري عن الأمر شيئا، حسن النية (83). ومع تقديرنا لهذا الرأي، فإننا نرى أن فكرة الفاعل المعنوي لا يجب أن ينظر إليها من زاوية التحريض على إرتكاب الجريمة، بل من منطلق تعريف فاعل ففي هذه الحالة يسال الفاعل المعنوي عن الجريمة، إذ لا يوجد ما يمنع من معاقبته عنها (46)، وفي هذه الحالة، فإنه سوف يحاكم أمام المحاكم المدنية وليس امام المحكمة العسكرية، لان هذه المحاكم انما انشئت لمحاكمة أفراد الجيش، وهم المستخدمون في المؤسسة العسكرية وفق شروط الاستخدام القانونية، دون غيرهم من افراد الناس، ويلجأ في تحديد الافعال الجرمية التي ارتكبها الفاعل المعنوي ووضع التكييف القانوني لها إلى قواعد قانون العقوبات رقم 16 لسِنّه 1960، فإن كانت تشكل فعل السرقة سئل عنها، على اساس انها القدر المتيقن من الافعال الجرمية التي اتاها الفاعل المعنوي بتسخيره لمنفذ حسن النية .

ونحن نذهب إلى ما يذهب إليه الفقه بأنه ليس هناك ما يمنع من توافر صفة الفاعل المعنوي للجريمة في الحالات التي تمتنع فيها مسؤولية الفاعل المادي لوجود سبب من اسباب التبرير أو لتوافر حالة من حالات الضرورة شريطة أن يكون للفاعل المعنوي دورا حاسما في تنفيذ الجريمة، كما لو حرش احدهم مجنونا لقتل شخص آخر رغبة منه في التخلص من هذا المجنون، فيهجم المجنون على هذا الشخص بسكين، فيضطر المعتدى عليه إلى قتل المجنون دفاعا عن نفسه ولكي يتفادى الخطر الذي أحاط به، ويجب حتى يعتبر الشخص فاعلا معنويا، أن لا يكون الفاعل المادي للجريمة قد تصرف بإرادته المستقلة (47)، وإنما كان أداة في يد من حرضه .

وإذا وقف فعل المنفذ المادي عند حد الشروع، فإن الفاعل المعنوي للجريمة يسأل عن الشروع بإرتكابها، وهذا أمر يقتضيه المنطق القانوني، لان المنفذ المادي كان أداة في يد الفاعل المعنوي اذ طالما بقي نشاط هذا المنفذ بعيدا عن اتمام وانجاز الجريمة اي وقف عند حد الشروع، فيسأل الفاعل المعنوي عن الشروع فقط (48) .

أما إذا لم يصل ما قام به منفذ الجريمة إلى درجة الشروع، فإن الفاعل المعنوي لا يعاقب، لان الجريمة لم تدخل بعد في نطاق البدء بالتنفيذ، ولا شك أن تقدير قيام الشروع يتم بالنظر لما أتاه المنفذ المادي من أفعال، وليس بالنظر لما قام به الفاعل المعنوي (49) .

ويثور تساؤل حول مدى قيام مسؤولية الفاعل المعنوي في الحالة التي يكون فيها المنفذ المادي للجريمة لا يستطيع إدراك حقيقة الصفة الإجرامية للفعل في الوقت الذي لم تتجه فيه إرادة المحرض إلى تحقيق النتجية الجرمية، وان اتجهت ارادته إلى تحقيق الفعل فقط وهو ما يسمى بالجرائم غير المقصودة، كمن يحرض شخصا غير ذي اهلية على القيام بفعل ينجم عنه اصابة أو قتل شخص ثالث، ومثال على ذلك من يعطي لطفل بندقية ويدفعه لإطلاق عيار ناري منها ليدربه على الرماية، فينطلق المقذوف ويصيب أحد المارة بالقرب من المكان، ففي هذا المثال تكون إرادة المحرض قد اتجهت إلى تحقيق الفعل دون تحقيق النتيجة، فهل يمكن اعتباره فاعلا معنويا في هذه الجريمة غير المقصودة، والجواب على هذا التساؤل، هو انه لا يمكن التسليم بقيام نظرية الفاعل المعنوي في الجرائم غير المقصودة، لان جميع صور الاشتراك في هذا النوع من الجرائم تعتبر من قبيل الاشتراك الاصلي، ويعتبر فاعلا للجريمة، وهذا يجعل من المحرض لغير ذي اهلية جزائية أو لحسن النية فاعلا اصليا في الجريمة غير المقصودة، ولا يكون هناك داع للجوء لفكرة الفاعل المعنوي (50)، وان كان جانب من الفقه يرى انه لا فرق بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية في مجال تطبيق نظرية الفاعل المعنوي، اذ من المتصور إلا يتوافر القصد لدى الفاعل المعنوي، وانما ينسب إليه خطأ غير عمدي (51) .


ولا يمكن تطبيق فكرة الفاعل المعنوي على الجرائم التي ترتكب بالامتناع، لان مثل هذه الجرائم تقوم بسلوك سلبي يتمثل بالامتناع عن القيام بالالتزام الذي فرضه القانون على المنفذ حسن النية، وهذا مما لا يمكن الركون إليه أو تعليله بأن المنفذ كان خاضعا لاستغلال الفاعل المعنوي أو كان واقعا تحت تأثيره، فامتنع عن القيام بما كان يتوجب عليه القيام به نتيجة تحريض من شخص آخر، لذا، فإن من حرضه على الامتناع لا يعد فاعلا معنويا للجريمة، بل انه ليس هناك اي جريمة اصلا، لان المنفذ الذي امتنع بحسن نية عن القيام بما يتوجب عليه القيام به، لا يعد مرتكبا لجريمة، اذ لا يمكن أن تكون هناك جريمة امتناع يكون المنفذ المادي لها غير مسؤول جزائيا (52) .

كما قد يتخذ نشاط الفاعل المعنوي صورة المساعدة التي يقدمها للمنفذ المادي للجريمة، ومثال على ذلك أن يقوم شخص بإعاقة شخص آخر عن الهرب من امام مجنون خطر ليتمكن هذا المجنون من قتله، فإن مثل هذا الشخص يعتبر فاعلا معنويا للجريمة، لانه لولا ما قام به، لما امكن أن تقع هذه الجريمة (53) .

المبحث الرابع
الفاعل المعنوي للجريمة في التشريع والفقه المقارن

مع أن فكرة الفاعل المعنوي قد نشأت عن طريق الفقه، وبالذات الفقه الالماني، إلا أن هذه النظرية قد طبقت في الكثير من التشريعات العربية والأجنبية، كما أن لها تطبيقات متعددة في الفقه والقضاء العربي والأجنبي .

المطلب الأول
نظرية الفاعل المعنوي للجريمة في القانون المقارن

أخذت بعض التشريعات العربية بفكرة الفاعل المعنوي ونصت على ذلك في قوانينها ومن هذه التشريعات، قانون العقوبات الجزائري، حيث نصت المادة /45 منه على أن من يحمل شخصا لا يخضع للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على إرتكاب جريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها (54). كما نصت المادة /47/3 من قانون الجزاء الكويتي على أن من يقوم بتحريض غيره على إرتكاب الجريمة، يعتبر فاعلا لها إذا كان من وجه إليه هذا التحريض على غير اهل للمسؤولية الجنائية أو كان شخصا حسن النية، على أن تقع الجريمة بناء على هذا التحريض (55)، ونصت المادة /47/3 من قانون العقوبات العراقي على انه يعد فاعلا للجريمة من دفع بأية وسيلة شخصا على تنفيذ الفعل المكون للجريمة، إذا كان هذا الشخص غير مسؤول جزائيا عنها لاي سبب (56). كما تعرض قانون العقوبات المغربي في المادة 131 منه لمسؤولية الفاعل المعنوي بالنص على انه من حمل شخصا غير معاقب بسبب ظروفه أو صفته الشخصية على إرتكاب جرمية فإنه يعاقب بعقوبة الجريمة التي ارتكبها هذا الشخص (57). ونصت المادة /44/ ثالثا من قانون العقوبات لدولة الامارات العربية المتحدة على أن يكون الشريك مباشرا في الجريمة، إذا سخر غيره بأية وسيلة لتنفيذ الفعل المكون للجريمة وكان هذا الشخص الأخير غير مسؤول عنها جنائيا لأي سبب. أ/ا قانون العقوبات البحريني، فقد نصت المادة /43 منه على أنه يعد فاعلا بالواسطة من يحمل على إرتكاب الجريمة منفذا غير مسؤول(58) .

وهناك من التشريعات العربية من لم ينص على فكرة الفاعل المعنوي، مثل قانون العقوبات المصري والسوري واللبناني، وازاء هذا الوضع فإنه يتعين الرجوع إلى المبادئ العامة في القانون لاستظهار ما إذا كان من الممكن تطبيق فكرة الفاعل المعنوي بالنسبة لهذه القوانين، وإذا ما نظرنا إلى نصوص هذه القوانين نظرة فاحصة نجد أن المادة /40 من قانون العقوبات المصري قد اعتبرت التحريض وسيلة من وسائل المساهمة الجنائية، ولم تقيد هذا التحريض بشرط أن يكون منفذ الجريمة أهلا لتحمل المسؤولية الجنائية أو أن يتوافر لديه القصد الجنائي، وحيث أن نشاط الفاعل المعنوي هو في حد ذاته تحريض على إرتكاب جريمة، فإنه يعتبر والحالة هذه شريك في هذه الجريمة، هذا بالإضافة إلى أن نص المادة /42 من قانون العقوبات المصري قد نصت على انه إذا كان فاعل الجريمة غير معاقب لسبب من اسباب الاباحة أو لعدم وجود القصد الجنائي أو لأحوال آخرى خاصة به، وجبت مع ذلك معاقبة الشريك بالعقوبة المنصوص عليها قانونا (59) .

أما في التشريع السوري وكذلك اللبناني، فيلاحظ أن المادة /211 من قانون العقوبات السوري والمادة/212 من قانون العقوبات اللبناني قد عرفتا فاعل الجريمة بأنه من ابرز إلى حيز الوجود العناصر التي تؤلف الجريمة، وهذا التعريف قد تضمنته المادة /75 من قانون العقوبات الأردني، ولا شك أن هذا التعريف يتسع لمن يرتكب الجرمية مستعينا بأعضاء جسمه، وكذلك فإنه يتسع لمن يقوم بإرتكابها عن طريق أداة، سواء كانت هذه الأداة جمادا أو حيوانا أو انسانا غير اهل لتحمل المسؤولية الجزائية أو حسن النية فالمشرع في كل من سوريا ولبنان والاردن لم يحدد الوسيلة التي يمكن أن يلجأ اليها الفاعل في تنفيذ جريمته .
وفيما يتعلق بالتشريعات الأجنبية، فنحن نجد أن بعض هذه التشريعات قد تضمنت اقرارا صريحا لنظرية الفاعل المعنوي مثل قانون العقوبات الألماني، حيث نصت المادة /25/2 منه على أن يعاقب كفاعل كل من ارتكب الفعل الإجرامي بنفسه أو عن طريق شخص آخر، وتعني حالة إرتكاب الفعل الاجرامي عن شخص آخر إرتكاب مثل هذا الفعل بطريقة غير مباشرة، فيكون فاعل الجريمة هو الفاعل غير المباشر لها حيث سخر شخصا آخر لإرتكابها، وهو ما يعرف بالفاعل المعنوي للجريمة(60) .

ومن بين التشريعات الأجنبية التي تقر بوجود فكرة الفاعل المعنوي التشريع الانجليزي، الذي يقضي بأن الجريمة يمكن أن ترتكب مباشرة، كما يمكن أن تنفذ عن طريق شخص حسن النية وهو ما يطلق عليه تعبير " وكيل برئ Innocent Agent " ويعتبر كل من يحرض شخصا غير ذي اهلية جزائية أو حسن النية على إرتكاب جريمة فاعلا من الدرجة الأولى لهذه الجريمة، ويعامل على اساس انه " فاعل رئيس Principal Offender" وليس مجرد شريك، لأنه ليس هناك فاعل آخر يعاونه على إرتكابها حتى نعتبره فاعلا من الدرجة الثانية (61) .

أما قانون العقوبات الايطالي، فإنه لا يفرق بين الفاعلين والشركاء في الجريمة، وإنما يصفهم بأنهم مساهمين فيها وتطبق على كل منهم عقوبة الجريمة التي ساهموا في إرتكابها، وقد نصت المادة /111 من قانون العقوبات الايطالي على الوضع الذي تقوم به حالة الفاعل المعنوي للجريمة، واعتبرت هذه الحالة سببا لتشديد العقاب، إذ ورد في منطوق هذه المادة أن من دفع إلى إرتكاب الجريمة شخصا غير مسؤول أو غير معاقب بسبب شرط أو صفة شخصية، يسأل عن الجريمة المرتكبة وتشدد عقوبته ويتضح من هذا النص أن عدم مسؤولية أو عدم العقاب بالنسبة للمنفذ المادي للجريمة، لا ينفي عدم مشروعية الفعل المكون لهذه الجريمة (26) .

وبالنسبة للمشرع الفرنسي، فإنه وبالرجوع لنص المادة (6 – 121) والمادة (7 -121) من قانون العقوبات الجديد (63)، نجد أن هاتين المادتين تحددان وسائل الاشتراك وعقوبة الشريك في إرتكاب الجريمة، ولا فرق عند تطبيق المادتين المشار اليها بين حالة ما إذا كان من نفذ الجريمة اهلا للمسؤولية الجنائية أو غير اهل لها، كما انه لا فرق بين ما إذا كان القصد الجنائي متوافرا لديه ام كان غير متوافر، فمن يحرض شخصا عديم الاهلية أو حسن النية على إرتكاب جريمة أو يساعده في ذلك، فهو شريك في هذه الجريمة، كما أن هناك بعض النصوص الآخرى في قانون العقوبات الفرنسي التي تقرر مبدأ المساواة بين من يرتكب الجريمة بنفسه ومن يرتكبها بواسطة يغره، ويطلق بعض الفقهاء على من يرتكب الجريمة بواسطة غير تعبير الفاعل المعنوي Auteur intellectual وهو يسأل كالفاعل المباشر تماما على الرغم من أن دوره لا يتعدى مجرد التحريض على إرتكاب الجريمة (64). ومثال على ذلك، فإن المادة (6 -441) من قانون العقوبات الفرنسي الجديد تعاقب من يحمل موظفا عموميا على تسليمه وثيقة رسمية بإستعماله لاساليب احتيالية بالحبس لمدة سنتين وبغرامة 200 ألف فرنك (65) .