[align=justify]المبحث الأول
مضمون المعرفة الفنية وطبيعتها القانونية في القانون الأمريكي
تمهيد:
بدأ استخدام اصطلاح المعرفة الفنية في الولايات المتحدة الأمريكية كما يذكر الأستاذ Eckstrom في عام 1916 ولقد أحدث استعمال هذا الاصطلاح نوعاً من البلبلة في المحاكم الأمريكية إذ تضاربت الأحكام في تعريفه وتحديد مضمونه.
ولقد ارتبط مفهوم المعرفة الفنية في بادئ الأمر بمجموع المهارات التي يحوزها شخص ما في مجال معين وتمكنه من إتقان عمله فهي من هذا المفهوم كلن يخلط بين ماقد يمتلكه الفرد من مهارات شخصية Personal skills وبين تلك المعارف الموضوعية Objective Knoledge، هذه الأخيرة قد تشمل المعرفة التقنية على حد رأي بعضهم، وقد تشمل أيضاً في رأي البعض الآخرين إلى أن اصطلاح المعرفة الفنية يغطي كل الطرق الصناعية سواء كانت مشمولة ببراءة اختراع أو قابلة للبراءة أو من غير الممكن الحصول على براءة اختراع عليها وإن كانت الأغلبية ترى أن المعرفة الفنية لايمكن أن تشمل الابتكارات المغطاة ببراءة اختراع بالنظر إلى فقدانها شرط السرية.
وعلى أية حال فإن الفقه الأمريكي في أغلبه يذهب إلى المماثلة بين مفهوم المعرفة الفنية وبين مفهوم الأسرار التجارية والصناعية كما حدد كل من الفقه والقضاء خصائص معينة يتعين توافرها في محتوى المعرفة الفنية حتى يمكن حمايتها فلا بد أن تكون لهذه المعرفة قيمة معينة ونوع من الجدة وأخيراً وفوق كل اهتمام لابد أن تحاط هذه المعرفة بالسرية، بل إن الفقه وكذلك القضاء الأمريكي يذهبان إلى أن المعرفة الفنية بعدها شكلاً من أشكال الأسرار التجارية والصناعية تشكل في الوقت نفسه محلاً لحق الملكية والمراد بملكية المعرفة الفنية أن لمالكها ممارسة كل الصلاحيات عليها كما لو كان يمارس حقاً عينياً، وهو مايمكن من استغلالها واستعمالها ومنع الآخرين من ذلك.
وفيما يلي نقوم بدراسة مضمون المعرفة الفنية في الفقه والقضاء الأمريكي، وذلك في مطلب أول والطبيعة القانونية للحق على المعرفة الفنية وذلك في مطلب ثان.
المطلب الأول:
مضمون المعرفة الفنية في القانون الأمريكي
1. ارتباط تعريف المعرفة الفنية بفكرة الأسرار التجارية
يذهب الفقه الغالب في الولايات المتحدة إلى المماثلة بين المعرفة الفنية ومايعرف هناك بالسر التجاري.
والواقع أنه لايوجد تعريف محدد للسر التجاري إذ أن حماية الأسرار التجارية بعدها أحد عناصر المشروع الرأسمالي تخضع لمحاكم العدالة حيث أنه لايوجد قانون فيدرالي يحكم هذا الموضوع ومع ذلك فقد جاءت مدونة المسؤولية بتعريف للسر التجاري وذلك بقولها إن السر التجاري يجوز أن يتكون من أية تركيبة، نموذج، آلة أو مجموعة من المعلومات التي تستخدم في أعمال شخص ما وتمكنه من الحصول على ميزات معينة في مواجهة منافسيه الذين لايعلمون بها وأول ما نلاحظه أن المدونة قد قامت بتعريف الأسرار التجارية بطريق التعداد المحدد، ومن ثم فلا يصلح كسر تجاري إلا التركيبات الكيميائية والنماذج والآلات صحيح أن المدونة تتكلم عن المعلومات التجارية ومن أمثلتها قوائم العملاء، ومايشابهها من معلومات وأسرار متعلقة بالتجارة إلا أنها أغفلت نوعاً هاماً وبارزاً من المعلومات ألا وهي المعلومات التقنية أو الفنية التي تدخل بلا جدل في عداد المعرفة الفنية.
والواقع إن هذا التعريف للأسرار التجارية الذي جاءت به المدونة قد أصبح تعريفاً بالياً بالنظر لقصوره الشديد عن ملاحقة الأفكار الحديثة في مجال الملكية الصناعية في القانون الأمريكي إذ أن تعريف المدونة قد تم وضعه في عام 1939 ولقد تلافت الأحكام القضائية وكذلك الفقه هذا القصور، حيث حصل توسع كبير في تعريف الأسرار التجارية لكي تستوعب الظواهر الحديثة التي لم تكن معروفة وقت وضع المدونة مثل حماية البرامج الخاصة بالحاسب الآلي والمعارف التكنولوجية الإدارية والتنظيمية التي يتم تطويرها من خلال البحث المنظم في إطار مشروع ما.
ومع ذلك فلقد اعتنقت الكثير من الأحكام الأمريكية سواء تلك التي صدرت على المستوى الفيدرالي أو على مستوى محاكم الولايات التعريف نفسه الذي جاءت به المدونة أو على الأقل تبنت تعريفات قريبة منه، ومن ذلك الحكم الشهير الصادر في قضية Colgate الذي أصدرته الدائرة الرابعة للمحاكم الفيدرالية في عام 1956 وجاء فيه أن السر التجاري يجوز أن يكون في شكل تركيبة، آلة، أو مجموعة من المعلومات التي يستخدمها شخص ما في أعماله، وتكفل له الحصول على ميزة معينة في مواجهة منافسيه، الذي قد لايعلمون بها أو على الأقل لايقومون باستخدامها فهو (أي السر التجاري) يجوز أن يكون في شكل مركب كيميائي معين، أو طريقة تصنيع كمعالجة أو حفظ المواد، أو نموذج لآلة أو قائمة للعملاء، ومن ثم فإن الأسرار التجارية هي التي ترتبط أساساً بكيفية إنتاج السلع سواء تعلق الأمر بالآلات والطرق التي تستخدم في صناعتها أو الأمور غير التقنية مثل قوائم العملاء في تحديد الأسعار، طرق حفظ الدفاتر التجارية والمعلومات الموجودة فيها ..إلخ، ولعل أوضح حكم أخذ بالتفسير الواسع لمعنى السر التجاري هو الحكم الصادر في قضية Smith V.Dravo حيث قررت المحكمة أن أي نوع من المعرفة أو المعلومات تستخدم في تسيير الأعمال يمكن عدها سراً تجارياً، كما حددت المحكمة العليا الأمريكية تعريفاً للسر التجاري لا يخرج عن التعريف الذي ورد في المدونة.
وأخيراً فلقد أثمرت الجهود التي قامت بها جمعية توحيد قوانين الولايات عن إصدار قانون موحد للأسرار التجارية Uniform Trade Secret Law وذلك في عام 1979 وتم تعديله في عام 1985 ولقد كان الهدف من هذا القانون هو محاولة توحيد بعض المسائل المتعلقة بالأسرار التجارية في الولايات المختلفة على أن هذا القانون ليس قانوناً فيدرالياً وإنما هو تجميع لمبادئ الشريعة العامة ومن ثم فسريانه أمر اختياري لكل ولاية على حدة.
ولقد ذكرت المادة الرابعة من الفصل الأول من القانون الموحد تعريفاً محدداً للسر التجاري فالسر التجاري يعني المعلومات بما تشمله من تركيبات ونماذج، توليفة، معلومات، برامج، آلة، أسلوب، تقنية، وسيلة، وتتكون من مايلي:
1. تكون لها قيم اقتصادية حالة أو ممكنة، وذلك طالما لم تكن معروفة إلا لدى هؤلاء الأشخاص الذين يحصلون على قيمتها الاقتصادية من خلال عملهم واستخدامهم لها وطالما لم يكن من الممكن للآخرين اكتشافها أو الحصول عليها بوسائل مشروعة.
2. أن تحاط هذه المعلومات بوسائل معقولة طبقاً للظروف للحفاظ على سريتها.
ويتضح أن تعريف الأسرار التجارية أصبح تعريفاً واسعاً في ظل القانون الموحد فلقد أضاف التعريف الجديد بعض الأمور التي لم تكن موجودة في تعريف مدونة المسؤولية، ومن تلك الإضافات الأسلوب method والبرنامج program والتقنية technique وهي إضافات جاءت خاصة لتشمل فكرة المعرفة التقنية.
كما يلاحظ أن هذا التعريف يستوجب أن تكون للأسرار التجارية قيمة اقتصادية معينة حتى تعطى لصاحبها ميزة خاصة في مواجهة المنافسين، وهذا يقتضي ألا يكون السر التجاري معروفاً أو مستخدماً من الجميع، ولا يقصد بالجميع في مجال محدد ومثال ذلك أن وسيلة معينة تستخدم لإعادة تشكيل معدن ما قد تكون مجهولة أو غير شائعة بين الجمهور، ومع ذلك فهي مألوفة لرجال الصناعة ومن ثم لاتصلح هذه الوسيلة كموضوع لسر تجاري يمكن شموله بالحماية.
وأخيراً فإن تعريف السر التجاري في القانون الموحد لا يقتصر فقط على المعارف التي تتضمن عنصراً إيجابياً، بل يتسع ليشمل أيضاً المعارف السلبية، ومثال الأخيرة تلك المعلومات التي تعد خلاصة بحث طويل وجاد وتثبت أن وسيلة أو طريقة معينة لايمكن أن تحقق النتائج المنشودة. فهذه المعلومات تعد من الأسرار التجارية لأن لها قيمة تجارية أو اقتصادية معينة يمكن من خلالها فيما بعد توفير الوقت والجهد وذلك باستبعاد هذه الوسيلة من النطاق البحثي لعدم جدواها، ويعد هذا حكماً جديداً يخالف ماكان مستقراً في القضاء الأمريكي من أن السر التجاري الذي يمكن حمايته يتعين أن يكون إيجابياً لا سلبياً بمعنى أن العدالة لا تحمي المعلومات المتعلقة بالأخطاء التي يمكن تجنبها.
وتذهب الأغلبية الساحقة في فقه الملكية الصناعية في الولايات المتحدة إلى المماثلة التامة بين مفهوم ومضمون الأسرار التجارية والمعرفة الفنية، فالمعرفة الفنية ماهي إلا سر تجاري، بل إن هذين الاصطلاحين يستخدمان في الكثير من الأحكام القضائية الأمريكية للدلالة على المضمون الواحد نفسه، ويترتب على ذلك تماثل النظام القانوني لكل من المعرفة الفنية والأسرار التجارية، فالمعرفة الفنية وإن كانت اصطلاحاً حديثاً نسبياً إلا أنها لا تخرج عن السر التجاري الذي عرفته محاكم العدالة من زمن بعيد، سواء من ناحية المضمون أو النظام القانوني.
ومع ذلك، فإنه حتى في إطار هذه الأغلبية الفقهية فإن هناك من يرى أنه على الرغم من وجود تشابه بين الأسرار التجارية والمعرفة الفنية، إلا أن هذا التشابه يتعين أخذه بعين الحذر فثمة اختلاف بين الاصطلاحين من حيث المضمون، وذلك انطلاقاً من الدور الوظيفي لكل منهما في الحياة الاقتصادية، فالمعرفة الفنية يمكن تصورها من خلال حركتها، وبصفة خاصة عند الترخيص باستعمالها أو استغلالها من مشروع ما إلى مشروع آخر، أو من شخص إلى آخر، وعليه فإن الوسائل والطرق الصناعية مثلاً التي يتم الترخيص بها من المشروع المبتكر لها إلى مشروع آخر، يطلق عليها المعرفة الفنية، إما إذا احتفظ الشخص بهذه الطرق والوسائل الصناعية واستخدامها في إطار المشروع بطريقة استئثارية، ومن دون حصول أي ترخيص للآخرين باستعمالها ففي هذه الحالة الأخيرة، يمكن أن يطلق على المعارف نفسها اصطلاح السر التجاري، وبعبارة أخرى فإن المعرفة الفنية في نظر هذا الفقه ماهي إلا سر تجاري يمكن انتقاله إلى الغير بطرق العقد (عقد الترخيص) أما إذا حصل الاحتفاظ به في دائرة الوحدة الإنتاجية الأصلية، ودون علم المنافسين به فهي سر تجاري.
والحقيقة إن التفرقة بين المعرفة الفنية والسر التجاري من حيث الأداء الوظيفي والمتمثل في الدور الاقتصادي الذي يؤديه كل منهما، وإن كان واقعاً مقبولاً إلا أنه تبقى مع ذلك حقيقة أخرى وهي أن مضمون ومحتوى المعارف لا يختلفان في الحالتين، وإذا كان هناك اختلاف فهو ينحصر في أسلوب الحماية فإذا حصل ترخيص إلى الغير باستعمال المعلومات الفنية فإن هذا العقد يكون هو أداة الحماية الأساسية أما إذا احتفظ المشروع المالك لهذه المعلومات الفنية باستعمالها واستغلالها بطريق استئثارية داخل أسواره فإن فكرة الملكية تؤدي الدور الأساسي في الحماية لأن الاستيلاء عليها دون ترخيص بعد استيلاء غير مشروع على حق من حقوق الملكية.
[/align]