وحيث إن النصوص التى أوردها الدستور فى شأن حق الدفاع على النحو السالف بيانه تتضافر جميعها فى توكيد أن هذا الحق ضمانة أساسية يوفر الدستور من خلالها الفعالية لأحكامه التى تحول دون الإخلال بحقوق الفرد وحرياته بغير الوسائل القانونية التى يقرها الدستور سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية وهى بعد حماية تؤمن لكل مواطن حماية متكافئة أمام القانون وتعززها الأبعاد القانونية لحق التقاضى الذى قرر الدستور فى المادة 68 انصرافه إلى الناس كافة ، مسقطاً عوائقه وحواجزه على اختلافها ، وملقياً على الدولة بمقتضاه التزاماً أصيلاً بأن تكفل لكل متقاض نفاذاً ميسراً إلى محاكمها للحصول على الترضية القضائية التى يقتضيها رد العدوان على الحقوق التى يدعيها أو الإخلال بالحرية التى يمارسها ، وكان حق الدفاع – بالنظر إلى أبعاده وعلى ضوء الأهمية التى يمثلها فى بلورة الدور الاجتماعى للقضاء كحارس للحرية والحقوق على اختلافها انتقالاً بمبدأ الخضوع للقانون من مجالاته النظرية إلى تطبيقاته العملية – قد أضحى مستقراً كحقيقة مبدئية لا يمكن التفريط فيها ، مندرجاً فى إطار المبادئ الأساسية للحرية المنظمة ، واقعاً فى نطاق القيم التى غدا الإيمان بها راسخاً فى وجدان البشرية ، وكانت ضمانة الدفاع بالتالى لم تعد ترفاً يمكن التجاوز عنه ، فإن التعلق بأهدابها الشكلية دون تعمق لحقائقها الموضوعية يعتبر إنكاراً لمضمونها الحق مصادماً لمعنى العدالة منافياً لمتطلباتها ، ومن ثم لم يجز الدستور للسلطة التشريعية إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه بما يعطل فعاليته أو يحد منها ، كاشفاً بذلك عن أن إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها بما يخرجها عن الأغراض المقصودة منها ، إنما يؤول فى أغلب صوره إلى إسقاط الضمانة التى كفلها الدستور لكل مواطن فى مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى ، ويعرض حق الإنسان فى الحياة والحرية الشخصية والكرامة الواجبة لصون آدميته لمخاطر مترامية فى أبعادها عميقة فى آثارها ، وهو ما يعتبر هدماً للعدالة ذاتها بما يحول دون وقوفها سوية على قدميها ، سواء كان الإنكار أو التقييد منصرفاً إلى حق الدفاع بالأصالة – بما يقوم عليه من ضمان الحرية الكاملة لكل فرد فى أن يعرض وجهة نظره فى شأن الوقائع المنسوبة إليه وأن يبين حكم القانون بصددها – أم كان متعلقاً بالدفاع بالوكالة – حين يقيم الشخص باختياره محامياً يراه أقدر على تأمين المصالح التى يرمى إلى حمايتها ، على أساس من الخبرة والمعرفة القانونية والثقة .

وحيث إن ضمانة الدفاع وإن كانت لا ترتبط لزوماً بمرحلة المحاكمة وحدها كما سلف القول ، إلا أن الخصومة القضائية تمثل مجالها الأكثر أهمية من الناحية العملية ، وما ما يحتم انسحابها إلى كل دعوى سواء كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية أم كان الاتهام الجنائى موضوعها . ولقد كان تقدير هذه المحكمة لحق الدفاع وإقرارها لأهميته واضحاً فى مجال تحديدها للشروط التى يتعين استجماعها لاعتبار العمل قضائياً ، وذلك بما جرى قضاؤها من أن القرار الذى يصدر عن جهة خولها المشرع ولاية الفصل فى نزاع معين ، لا يكون قراراً قضائياً إذا كانت ضمانة الدفاع غائبة عن النصوص القانونية التى تنظم هذه الولاية وتبين حدودها .

وحيث إنه وإن صح القول بأن المعسرين لا حق لهم فى اختيار محاميهم ، وإن حقوقهم فى مجال ضمانة الدفاع لا تجاوز الحق فى تمثيل ملائم يرعى مصالحهم ويرد غائلة العدوان عنها عن طريق من يندبون من المحامين لهذا الغرض ، فإن من الصحيح كذلك أن اختيار الشخص لمحام يكون قادراً على تحمل أتعابه ، إنما يتم فى إطار علاقة قانونية قوامها الثقة المتبادلة بين طرفيها ، ويتعين بالتالى أن يظل الحق فى هذا الاختيار محاطاً بالحماية التى كفلها الدستور لحق الدفاع كى يحصل من يلوذ بهذا الحق على المعونة التى يطلبها معتصماً فى بلوغها بمن يختاره من المحامين متوسماً فيه انه الأقدر – لعلمه وخبرته وتخصصه – على ترجيح كفته ، ذلك أنه فى نطاق علاقة تقوم على الثقة المتبادلة بين الشخص ومحاميه ، فإنه يكون مهيأ أكثر للقبول بالنتائج التى يسفر عنها الحكم فى دعواه ، فضلاً عن أن حدود هذه العلاقة توفر لمن كان طرفاً فيها من المحامين حرية إدارة الدفاع وتوجيهه الوجهة التى يقدر أنها الأفضل لخدمة مصالح موكله فى إطار أصول المهنة ومقتضياتها . وعلى ضوء هذه الوكالة القائمة على الاختيار الحر والتى يودع من خلالها الموكل بيد محاميه أدق أسراره وأعمق دخائله اطمئناناً منه لجانبه ، يتخذ المحامى قرارته حتى ما كان منها مؤثراً فى مصير موكله ، بل أن حدود هذه العلاقة تحمله على ان يكون أكثر يقظة وتحفزاً فى متابعته للخصومة القضائية وتعقبه لمسارها ومواجهته بالمثابرة لما يطرح أثناء نظرها مما يضر بمركز موكله فيها أو يهدده ، وبوجه خاص كلما كان الحكم بالإدانة أكثر احتمالاً أو كانت النتائج المحتملة للحكم فى النزاع بعيدة فى أثارها العملية والقانونية .

وحيث إن ضمانة الدفاع قوامها تلك المعاونة الفعالة التى يقدمها المحامى لمن يقوم بتمثيله ، وهى ترتد على عقبيها إذا ما حمل الشخص على أن يختار محامياً أقل خبرة منحياً بذلك – وإعمالاً للنص التشريعى المطعون عليه – من يقدر أنه أكثر موهبة وأنفذ بصراً . متى كان ذلك ، فإن حق الشخص فى اختيار من يوليه ثقته من المحامين يغدو لازماً لفاعلية ضمانة الدفاع ، والانتقال بها إلى آفاق تعزز معاونة القضاء فى مجال النهوض بالرسالة التى يقوم عليها ، وتحقق لمهنة المحاماة ذاتها تقدماً لا ينتكس بأهدافها بل يثريها بدماء الخبرة والمعرفة وبغيرها قد يؤول أمر الدفاع – فى عديد من صوره – إلى النمطية العقيمة التى لا إبداع فيها، وإلى إفراغ متطلباته من محتواها .