وحيث إن الدستور هو القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ويحدد السلطات العامة ويرسم لها وظائفها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها ويقرر الحريات والحقوق العامة ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ومن ثم فقد تميز الدستور بطبيعة خاصة تضفى عليه صفة السيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها، وحق لقواعده أن تستوى على القمة من البناء القانونى للدولة وتتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد الآمرة التى يتعين على الدولة التزامها فى تشريعها وفى قضائها وفيما تمارسه من سلطات تنفيذية، ودون أى تفرقة أو تمييز- فى مجال الالتزام بها – بين السلطات العامة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ذلك أن هذه السلطات كلها سلطات مؤسسة أنشأها الدستور، تستمد منه وجودها وكيانها وهو المرجع فى تحديد وظائفها، ومن ثم تعتبر جميعها أمام الدستور على درجة سواء، وتقف كل منها مع الأخرى على قدم المساواة، قائمة بوظيفتها الدستورية متعاونة فيما بينها فى الحدود المقررة لذلك، خاضعة لأحكام الدستور الذى له وحده الكلمة العليا وعند أحكامه تنزل السلطات العامة جميعاً والدولة فى ذلك إنما تلتزم أصلاً من أصول الحكم الديمقراطي، هو الخضوع لمبدأ سيادة الدستور، وهو ما حرص الدستور القائم على تقريره بالنص فى المادة 64 منه على أن " سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة " وفى المادة 65 منه على أن " تخضع الدولة للقانون.... " ولا ريب فى أن المقصود بالقانون فى هذا الشأن هو القانون بمعناه الموضوعى الأعم الذى يشمل كل قاعدة عامة مجردة أيا كان مصدرها ويأتى على رأسها وفى الصدارة منها الدستور بوصفه أعلى القوانين وأسماها، وإذ كان خضوع الدولة بجميع سلطاتها لمبدأ سيادة الدستور أصلاً مقرراً وحكماً لازماً لكل نظام ديمقراطى سليم ، فإنه يكون لزاماً على كل سلطة عامة أيا كان شأنها وأيا كانت وظيفتها وطبيعة الاختصاصات المسندة إليها، النزول عند قواعد الدستور ومبادئه والتزام حدوده وقيوده، فإن هى خالفتها أو تجاوزتها شاب عملها عيب مخالفة الدستور، وخضع- متى انصبت المخالفة على قانون أو لائحة – للرقابة القضائية التى عهد بها الدستور إلى المحكمة الدستورية العليا بوصفها الهيئة القضائية العليا التى اختصها دون غيرها بالفصل فى دستورية القوانين واللوائح بغية الحفاظ على أحكام الدستور وصونها وحمايتها من الخروج عليها.
وحيث إن الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها منذ دستور سنة 1923 على تقرير الحريات والحقوق العامة فى صلبها قصداً من الشارع الدستورى أن يكون النص عليها فى الدستور قيداً على المشرع العادى فيما يسنه من قواعد وأحكام وفى حدود ما أراده الدستور لكل منها من حيث إطلاقها أو جواز تنظيمها تشريعياً فإذا خرج المشرع فيما يقرره من تشريعات على هذا الضمان الدستوري، بأن قيد حرية أو حقاً ورد فى الدستور مطلقاً أو أهدر أو انتقص من أيهما تحت ستار التنظيم الجائز دستورياً، وقع عمله التشريعى مشوباً بعيب مخالفة الدستور.
وحيث إن الدستور القائم قد أفرد الباب الثالث منه " للحريات والحقوق والواجبات العامة" وصدر هذا الباب بالنص فى المادة 40 منه على أن " المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة"، فكان الحق فى المساواة أمام القانون هو أول ما نص عليه الدستور فى الباب الخاص بالحريات والحقوق العامة، وجاء فى الصدارة منها باعتبار أن هذا الحق هو أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الغاية التى يستهدفها تتمثل أصلاً فى صون حقوق المواطنين وحرياتهم فى مواجهة صور التمييز التى تنال منها أو تقيد ممارستها، وأضحى هذا المبدأ فى جوهره وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التى لا يقتصر تطبيقها على الحريات والحقوق العامة المنصوص عليها فى الدستور، بل ينسحب مجال أعمالها إلى الحقوق التى يقررها القانون العادى ويكون مصدراً لها، ولئن نص الدستور فى المادة 40 منه على حظر التمييز بين المواطنين فى أحوال بينتها وهى التى يقوم التمييز فيها على أساس من الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بعينها يكون التمييز محظوراً فيها، مرده إلى أنها الأكثر شيوعاً فى الحياة العملية ولا يدل بالتالى على إنحصاره فيها دون غيرها، إذ لو قيل بأن التمييز المحظور دستورياً لا يقوم إلا فى الأحوال التى بينتها المادة 40 المشار إليها، لكان التمييز فيما عداها غير مناقض الدستور، وهو نظر لايستقيم مع المساواة التي كفلها ويتناقض مع الغاية المقصودة من إرسائها، يؤيد ذلك أن من صور التمييز التى لم تصرح المادة المذكورة بالإشارة إليها ما لا تقل فى أهميتها وخطورة الآثار المترتبة عليها عن تلك التى عنيت بإبرازها كالتمييز بين المواطنين فى مجال الحريات والحقوق العامة التى كفلها الدستور لاعتبار يتعلق بالمولد أو المركز الاجتماعى أو الانتماء الطبقى أو الانحياز لرأى بذاته سياسياً كان هذا الرأى أو غير سياسي، مما يؤكد أن ألوان التمييز على اختلافها التى تتناقض فى محتواها مع مبدأ المساواة وتهدر الأساس الذى يقوم عليه إنما يتحتم إخضاعها جميعاً لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة قضائية لضمان احترام مبدأ المساواة فى جميع مجالات تطبيقه، وبديهى أن المساواة المنصوص عليها فى المادة 40 من الدستور لا تعنى أنها مساواة فعلية يتساوى بها المواطنون فى الحريات والحقوق أيا كانت مراكزهم القانونية، بل هى مساواة قانونية رهينة بشروطها الموضوعية التى ترتد فى أساسها إلى طبيعة الحق الذى يكون محلاً لها وما تقتضيه ممارسته من متطلبات، ذلك أن المشرع يملك بسلطته التقديرية لمقتضيات الصالح العام وضع شروط موضوعية تتحدد بها المراكز القانونية التى يتساوى بها الأفراد أمام القانون، بحيث إذا توافرت هذه الشروط فى طائفة من الأفراد وجب أعمال المساواة بينهم لتماثل مراكزهم القانونية، وأن اختلفت هذه المراكز بأن توافرت فى البعض دون البعض الآخر إنتفى مناط التسوية بينهم.
وحيث إن الدستور نص فى المادة 62 منه – التى وردت أيضاً فى الباب الخاص بالحريات والحقوق العامة – على أن " للمواطن حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأى فى الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون، ومساهمته فى الحياة العامة واجب وطني". مما مفاده أن الحقوق السياسية المنصوص عليها فى هذه المادة- ومن بينها حق الترشيح الذى عنى الدستور بالنص عليه صراحة من حقى الانتخاب وإبداء الرأى فى الاستفتاء- اعتبرها الدستور من الحقوق العامة التى حرص على كفالتها وتمكين المواطنين من ممارستها لضمان إسهامهم فى اختيار قياداتهم وممثليهم فى إدارة دفة الحكم ورعاية مصلحة الجماعة وعلى أساس أن حقى الانتخاب والترشيح خاصة هما حقان متكاملان لا تقوم الحياة النيابية بدون أيهما ولا تتحقق للسيادة الشعبية أبعادها الكاملة إذا هما أفرغا من المضمون الذى يكفل ممارستهما ممارسة جدية وفعالة، ومن ثم كان هذان الحقان لازمين لزوماً حتمياً لإعمال الديمقراطية فى محتواها المقرر دستورياً ولضمان أن تكون المجالس النيابية كاشفة فى حقيقتها عن الإرادة الشعبية ومعبرة تعبيراً صادقا عنها، ولذلك لم يقف الدستور عند مجرد ضمان حق كل مواطن فى ممارسته تلك الحقوق السياسية، وإنما جاوز ذلك إلى اعتبار مساهمته فى الحياة العامة عن طريق ممارسته لها واجباً وطنياً يتعين القيام به فى أكثر مجالات الحياة أهمية لإتصالها بالسيادة الشعبية التى تعتبر قواماً لكل تنظيم يرتكز على إرادة هيئة الناخبين، ولئن كانت المادة 62 من الدستور قد أجازت للمشرع العادى تنظيم الحقوق السياسية الثلاثة بما نصت عليه من أن ممارسة هذه الحقوق تكون " وفقاً لأحكام القانون" فإنه يتعين عليه أن يراعى فى القواعد التى يتولى وضعها تنظيماً لتلك الحقوق ألا تؤدى إلى مصادرتها أو الانتقاض منها وألا تنطوى على التمييز المحظور دستورياً أو تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص الذى كفلته الدولة لجميع المواطنين ممن تتماثل مراكزهم القانونية وبوجه عام ألا يتعارض التنظيم التشريعى لتلك الحقوق مع أى نص فى الدستور بحيث يأتى التنظيم مطابقاً للدستور فى عموم قواعده وأحكامه.
وحيث إن المادة الخامسة من الدستور إذ تنص – بعد تعديلها بتاريخ 22 مايو سنة 1980 – على أن يقوم النظام السياسى فى جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب وذلك فى إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصرى المنصوص عليها فى الدستور...." إنما قصد بهذا التعديل الدستورى العدول عن التنظيم الشعبى الوحيد ممثلاً فى الاتحاد الاشتراكى العربى الذى كان مهيمناً وحده على العمل الوطنى ومسيطراً عليه فى مجالاته المختلفة سيطرة لا تتحقق بها للديمقراطية مفهومها المتجانس مع طبيعتها إلى تعدد الأحزاب ليقوم عليه النظام السياسى فى الدولة، باعتبار أن هذه التعددية الحزبية إنما تستهدف أساساً الإتجاه نحو تعميق الديمقراطية وإرساء دعائمها فى إطار حقى الانتخاب والترشيح اللذين يعتبران مدخلا وقاعدة أساسية لها، ومن ثم كفلهما الدستور للمواطنين كافة الذين تنعقد لهم السيادة الشعبية ويتولون ممارستها على الوجه المبين فى الدستور، وليس أدل على ذلك من أن التعددية الحزبية هى التى تحمل فى أعطافها تنظيماً تتناقض فيه الآراء أو تتوافق، تتعارض أو تتلاقى، ولكن المصلحة القومية تظل إطاراً لها ومعياراً لتقييمها وضابطاً لنشاطها، وهى مصلحة يقوم عليها الشعب فى مجموعه ويفرض من خلالها قياداته السياسية وانتماءاته الوطنية، ولم تكن التعددية الحزبية بالتالى وسيلة انتهجها الدستور لإبدال سيطرة بأخرى، وإنما نظر إليها الدستور باعتبارها طريقاً قويماً للعمل الوطنى من خلال ديمقراطية الحوار التى تتعدد معها الآراء وتتباين على أن يظل الدور الذى تلعبه الأحزاب السياسية مرتبطاً فى النهاية بإرادة هيئة الناخبين فى تجمعاتها المختلفة، وهى إرادة تبلورها عن طريق اختيارها الحر لممثليها فى المجالس النيابية وعن طريق الوزن الذى تعطيه بأصواتها للمتزاحمين على مقاعدها وهو ما حرص الدستور على توكيده والنص عليه فى صريح مواده حين كفل للمواطنين حقى الانتخاب والترشيح وجعلهم سواء فى ممارسة هذين الحقين ولم يجز التمييز بينهم فى أساس مباشرتهما ولا تقرير أفضلية لبعض المواطنين على بعض فى أى شأن يتعلق بهما، وإنما أطلق هذين الحقين للمواطنين – الذين تتوافر فيهم الشروط المقررة لذلك – على اختلاف انتماءاتهم وآرائهم السياسية لضمان أن يظل العمل الوطنى جماعياً لا امتياز فيه لبعض المواطنين على بعض ، ومن خلال هذه الجهود المتضافرة فى بناء العمل الوطنى تعمل الأحزاب السياسية متعاونة مع غير المنتمين إليها فى إرساء دعائمه وبذلك يتحدد المضمون الحق لنص المادة الثالثة من الدستور التى لا تعقد السيادة الشعبية لفئة دون أخرى ولا تفرض سيطرة لجماعة بذاتها على غيرها، وفى هذا الإطار تكمن قيمة التعددية الحزبية باعتبارها توجهاً دستورياً نحو تعميق مفهوم الديمقراطية التى لا تمنح الأحزاب السياسية دوراً فى العمل الوطنى يجاوز حدود الثقة التى توليها هيئة الناخبين لمرشحيها الذين يتنافسون مع غيرهم وفقاً لأسسا موضوعية لا تحدها عقيدة من أى نوع ولا يقيدها شكل من أشكال الانتماء، سياسياً كان أو غير سياسي، وعلى أن تتوافر للمواطنين جميعاً – الذين تتوافر فيهم الشروط المقررة لذلك – الفرص ذاتها التى يؤثرون من خلالها – وبقدر متساو فيما بينهم – فى تشكيل السياسية القومية وتحديد ملامحها النهائية ومما يؤكد ذلك أن المادة الخامسة من الدستور عندما نصت على نظام تعدد الأحزاب، لم تتضمن النص على إلزام المواطنين بالانضمام إلى الأحزاب السياسية أو تقييد مباشرة الحقوق السياسية المنصوص عليها فى المادة 62 من الدستور بضرورة الانتماء الحزبى مما يدل بحكم اللزوم على تقرير حرية المواطن فى الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو عدم الانضمام إليها وفى مباشرة حقوقه السياسية المشار إليها من خلال الأحزاب السياسية أو بعيداً عنها ما دام أن النص فى المادة 62 من الدستور على كفالة هذه الحقوق السياسية قد جاء رهيناً بصفة "المواطنة" فحسب طليقاً من قيد الحزبية، يقطع فى دلالة ذلك أن المادة الخامسة من الدستور عندما نصت على تعدد الأحزاب ليقوم على أساسه النظام السياسى فى الدولة قيدته بأن يكون النظام الحزبى دائراً فى إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري، ولا شك فى أن مبدأى تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون وهما – من المقومات والمبادئ الأساسية المعنية فى هذا الشأن – يوجبان معاملة المرشحين كافة معاملة قانونية واحدة وعلى أساس من تكافؤ الفرص للجميع دون أى تمييز يستند إلى الصفة الحزبية، إذ يعتبر التمييز فى هذه الحالة قائماً على أساس اختلاف الآراء السياسية الأمر المحظور دستورياً، وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن قيام النظام الحزبى وقد تقرر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 قبل التعديل الدستورى بالنص على تعدد الأحزاب السياسية، فكان لزاماً أن يكون لهذا القانون أساس دستورى فى ظل قيام الاتحاد الاشتراكى العربى وقد أرتكن واضعوا القانون المشار إليه فى ذلك- على ما يبين من مذكرته الإيضاحية وتقرير اللجنة التشريعية عنه – إلى بعض الحريات والحقوق العامة المقررة فى الدستور، ومنها حرية الرأى والعقيدة السياسية وحق الانتخاب وحق الترشيح على اعتبار أن حق تكوين الأحزاب السياسية يعد حقاً دستورياً منبثقاً منها ومترتباً عليها، فلا يصح أن ينقلب النظام الحزبى بعد تقريره قيداً على الحريات والحقوق العامة التى تفرع عنها ومنها حق الترشيح وهو من الحقوق العامة التى تحتمها طبيعة النظام الديمقراطية النيابية ويفرضها ركنها الأساسى الذى يقوم على التسليم بالسيادة للشعب.