الدول على مبادئ وأسس يعمل على إرسائها دولياً. وبالتالي إيجاد لغة مشتركة بين شعوب العالم والحكومات والمنظمات الدولية، وهذا كله باعتبار النظر إلى ظاهر هذه الدعوى المعلن. وأما وجهها السلبي، أو خطورتها: فتكمن في كونها بنفسها مناهضة لحقوق الإنسان ومصادرة لها، وذلك يظهر من خلال أمور منها :
1. أن هذه الفلسفة هي التي تحدد، دون مشاركة فعلية من غيرها، مفردات هذه الحقوق ومضمونها. وبالتالي فهي قد حددت ما يُعدّ حقاً بعرفها وما لا يُعّد حقاً، ونطاقه ومداه وغايته، وأثبتت نفسها مرجعية وحيدة فيما يتعلق بهذا الأمر، مع إضفاء مرونة كبيرة على ذلك من خلال إبعاد المعايير الموضوعية، ليتسنى لأنصارها تغيير المضامين بتغير مسار مصالحهم. وبذلك يكون مكمن الخطر في نسبية الحق ونطاقه وغايته. فالحق لا قيمة له في نفسه خارج فهمهم، فلا حق إلاّ ما أقروا أنه حق. ولما كانت هذه الفلسفة مادية فقد تحددت الحقوق ومضامينها وأبعادها في إطار ذلك. وابتعدت بذلك كثيراً إن لم تكن فُصلت عن القيم الخلقية(1)
2. إن هذا التحكم بتحديد الحقوق ومضامينها، بل ومناهج تطبيقها أو تنفيذها فيه تغليب لفلسفة على غيرها، وحضارة على باقي الحضارات، بل هي محاولة لدحر الحضارات وإزالتها ما أمكن، ليصفو لأصحاب هذه الفلسفة حكم العالم بأسره، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر بظنهم أنهم جمعوا مقومات العالمية في حضارتهم ودوامها من حيث استحواذهم على المنهج الفكري في فلسفتهم، والقوة المفرطة لنشره ودعمه وحمايته.
3. لما كان الحق والخطاب القانوني في المناهج الوضعية في خدمة الأقوى، كما تقدم، كان المراد من هذه الدعوة خدمة الأقوى بتحقيق مصالحه، ودليل ذلك أن الداعين لهذه الحقوق لا يتدخلون لحمايتها عند انتهاكها في دول العالم، إلا إذا وجدت لهم مصالح استراتيجية في الدول التي وقع فيها الانتهاك، وهم ينتهكونها بأنفسهم في شعوب ودول متى تعرضت مصالحهم للخطر فيها. فدل ذلك على عدم مصداقية دعواهم، وأنها فارغة من المضامين الحقة والضوابط الموضوعية.
لما تجردت هذه الفلسفة من البعد الديني والأخلاقي، وعملت جاهدة على جمع العالم على أرضية الغرائز، فلا يستغرب من أنصارها أن يتخذوها وسيلة لهم للضغط على حكومات دول، وإكراهها على تنفيذ مخططاتهم بشتى الوسائل، ومنها إثقالها بديون تصرف في مشاريع لا تحقق النمو الاقتصادي ولا الرقي الحضاري. وهي في الوقت ذاته تعمل على إفراغ الشعوب، بأفرادها، من

([1]) يقول روجيه غارودي في كتابه : حفار القبور بحسب ما نشرته جريدة المحرر ص 7 العدد 236 الصادر في 1994، 1 ، 17: "الولايات المتحدة منظمة إنتاجية تخضع لعلاقة تكنولوجية وتجارية تسيطر عليها علاقة المنتج بالمستهلك، بهدف الارتفاع الكمي بمستوى الحياة. أما الهوية الشخصية، الحضارية، الروحية، الدينية فهي شأن خاص، فردي لا يجوز أن يكون لها ارتسام أو تأثير على حسن سير هذا النظام. وانطلاقاً من هذا الواقع الاجتماعي، لا يمكن أن يعيش الإيمان أو الاعتقاد بأن للحياة معنى، إلا عند بعض الجماعات التي ما تزال متمسكة بحضارتها القديمة، أو عند بعض الأفراد الأبطال، أما عند الأكثرية المطلقة من سكان الولايات المتحدة فإن الله قد مات بعد أن جُرد الإنسان من بعده المقدس، أي التفتيش عن معنى للحياة. وهذا الفراغ قد أفسح المجال أمام تفريخ الملل والنحل، والخرافات، والهروب إلى المخدرات والشاشة الصغيرة. وهذه كلها محمية مغطاة بتطهرية رسمية، تتستر على كل أشكال اللامساواة والقهر والمذابح بل وتبررها" ثم ذكر أن ذلك ساد في أوروبا أيضاً.