فقد ذهب كروسيوس، نتيجة لنمو البرجوازية ومطالبة الفرد بحماية حقوقه وحرياته، إلا أن أساس القانون الطبيعي يكمن في الطبيعة البشرية – أم القانون الطبيعي على حد تعبيره – وهي التي تقتضي منه العيش وفقاً لغريزته الاجتماعية في مجتمع هادئ منظم، وكل ما يفرزه العقل في هذا الاتجاه فهو من القانون الطبيعي. ومن هذا الأساس يُستنتج أن مبادئ هذا القانون واحدة وعالمية.

وللتعرف على قواعد القانون الطبيعي بالعقل المحض، يتبع كروسيوس طريقتين إحداهما : الطريقة الاستنباطية؛ أي أنّ العقل يستنبط شرية قواعد القانون الطبيعي من الطبيعة البشرية. والثانية : الطريقة الاستقرائية أو طريقة الحكم اللاحق بمعنى تتبع تطبيقات الشعوب التي يمكن عدها طبيعية، لكونها تعبر عن مبدأ الغريزة الاجتماعية بشكل واضح (1)، ومن ثمّ التعرف من خلالها على قواعد القانون الطبيعي .

وبنا ءعلى ذلك قيل أن كروسيوس قد قطع الصلة بين القانون الطبيعي واللاهوت، وبين القانون الطبيعي والأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية الكاثوليكية(2). وهذا يعني أن العقل الذي زعم كروسيوس استنباطه من الطبيعة البشرية، قد فُرغ من مضمونه واصطبغ بالصبغة المادية البحتة؛ بسبب فصله عن العقيدة السماوية والأخلاق. وبذلك يلتقي هذا المذهب مع مذهب الوضعية القانونية في دعواه بفصل القانون عن الدين والأخلاق .

الفلسفة الاجتماعية (مذهب التضامن الاجتماعي) :
ينطلق هذا المذهب في رؤيته لطبيعة الحق ومصدره، من معتقده بأن القانون بوصفة ظاهرة اجتماعية، يجب أن يبنى على أساس واقعي معلوم بالمشاهدة أو التجربة. فخرجت بذلك الأسس المبنية على مثل عليا ميتافيزيكية، وهو ما يذهب إليه أنصار مذهب القانون الطبيعي، وكذلك ما كان محض افتراض وتخيل لا يشهد به الواقع، وهو ما عليه أنصار الفلسفة الفردية. فما يشهد به الواقع، وهو مشاهد معلوم، أن الإنسان كائن اجتماعي لا يسعه العيش إلا في جماعة يتضامن أفرادها لإشباع حاجاتهم وأن هذا التضامن يفضي

([1]) أرى أن هذا المذهب يمتد بجذوره إلى الرواقيين أنصار مذهب أرسطو (أبو القانون الطبيعي) ، وهم الذين طوروا مذهبه ودعوا إلى الوحدة الإنسانية بل الوحدة الكونية بأن يعيش الإنسان على وفاق مع الطبيعة، وأن يكون الفرد مواطناً في جمهورية عالمية تشمل الأرض كلها : الموسوعة الفلسفية، ص 163. ومصطفى عمر ممدوح، تاريخ أصول القانون، ص 108.

([2]) الشاوي، مذاهب القانون، ص 23-24. وقد ذكر أندريه كرسون في كتابه: المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، ص 35، أن السعادة أو الخير المطلق عند سقراط ما هي إلا حالة الانسجام بين ما يرغب به الإنسان وبين الظروف التي يوجد فيها. وأرى أن كروسيوس قد تأثر بهذا الاتجاه .