المطلب الأول : ماهية الحق، ونطاقه، ووظيفته، وغايته، في الفلسفة الوضعية
البحث في معلوم – وهو ما يمكن تصوره وإدراكه – إنما يراد لجمع صورته في الذهن، وذلك يستلزم الكشف عن حقيقيته (ماهيته)، وقد تتنوع حقيقته بتنوع الاعتبارات. ويستلزم أيضاً بيان مصدره وتحديد غايته. وببيان مصدريته يتبين مدى نطاقه، وبتحديد غايته تتعين وظيفته.

وقد تصدرت المناهج الوضعية فلسفتان لبيان : ماهية الحق، مصدره، نطاقه، وظيفته، غايته، وهما: الفلسفة الفردية والفلسفة الاجتماعية. وتفرع عنهما مذهبان آخران على وجه التفصيل، منهجيتهما محاولة الجمع بين هذين المنهجين الرئيسيين .

أحدهما اعتد بالفلسفة الفردية مع محاولته التخفيف من غلوائها أو إفراطها في الاعتداد بحقوق الفرد وإطلاق حرياته، فأمكن تسمية هذا الاتجاه بـ الفردية المعدّلة. والثاني اعتد بالفلسفة الاجتماعية مع محاولته التخفيف من تفريطها بحقوق الفرد وحرياته، فأمكن تسمية هذا الاتجاه بـ: المذهب الاجتماعي المخفف أو المعدل .

ويمكن الجمع بين هذين الاتجاهين تحت اسم المذهب المختلط. ويمكن ضمهما إلى المذهبين الرئيسيين فيصبح لكل مذهب اتجاهان اللاحق منهما أخف وطأة وأكثر اعتدالاً من سابقه. وعلى الطريقة الأولى سار شراح القانون(1)

وماهية الحق تتنوع بتنوع الاعتبارات، فمن حيث تعلق الحق بشخص دون غيره هو استئثار. ومن حيث النظر إلى مصدره هو منحة ممن صدر عنه إلى غيره من غير إيجاب موجب، أو بإيجاب لاستحقاق، أو تكليف منه لمصلحة له.

ومن حيث النظر إلى الخطاب المعبر عنه بالحكم فهو حكم وضعي أو تكليفي(2)أو هو الاثنان معاً مع اختلاف النسبة.

([1]) وطريقة هؤلاء ظهرت في تعريفهم الحق، فالذي ناصر الفلسفة الفردية عرفه بأنه : قدرة إرادية لشخص يبذلها في سبيل تحقيق مصلحة. فقدم الإرادة على المصلحة. وعرفه أنصار الاتجاه الثاني بأنه: مصلحة محمية تسهر على تحقيقها والذود عنها قدرة إرادية. فقدم هؤلاء المصلحة على الإرادة، وجعلوا الإرادة مكلفة بالذود عن المصالح وحمايتها، كيرة، حسن، النظرية العامة للحق، ص 436، والدريني، الحق ومدى سلطان الدولة، ص 57.

([2]) الحكم التكليفي والوضعي مصطلحان مستعملان في أصول الفقه الإسلامي، وتمت استعارتهما في هذا الموضع مراعاة لمعناهما.