وبعد فشل جميع هذه المحاولات في تحقيق الغاية لتبين زيفها من جانب، ولإصرار الشعوب على التمسك بهويتها من جانب آخر، وأمام إصرار الأقوى على تحقيقها كون إخضاع الأضعف لإرادة الأقوى سنة كونية، يظهر حكمها عند غياب العدل(1)

فقد كشر الأقوى هذه المرة عن أنيابه أكثر من ذي قبل، وكاد يرفع القناع ويسفر عن حقيقة وجهه لولا أنه تريث ليرى ثمرة المحاولة الجديدة، وقد تولى بنفسه وبشكل مباشر زمام أمورها وتسييرها على أكثر من طريق؛ تمثلت إحداها بإبعد القوى المنافسة بعد إضعافها، ونجح في ذلك إلى مدى ليس ببعيد، وتمثلت الثانية بالتدخل العسكري المباشر في أكثر من مكان في العالم، كلما دعت المصالح الاستراتيجية للقوى إلى ذلك، دون أن يأبه بالعالم ممثلاً بمنظمة دولية أو مشاعر ورأي عام دوليين. وتمثلت الثالثة بهجمة العولمة (السلاح الجديد) في غزوها الثقافي والاقتصادي لشعوب العالم وحضاراتها .

كما تمثلت الطريق الرابعة بإيجاد قاعدة عامة في تشريع القوانين وبناء مؤسسات، تتصف بالعالمية أيضاً تسمح للقوى بالتدخل في دول العالم كلما دعت مصالحه الاستراتيجية إلى ذلك، وسيكون تدخلهم هذه المرة مبرراً وشرعياً لدفاعه عن حقوق الإنسان، مرحباً به من قبل شعوب تلك الدول؛ لأن ظاهرة حماية حقوقهم ضد بطش حكامهم. وقد يعملون على ديمومة بطش الحاكم في أهم بقاع العالم ولو إلى حين، لإنهاك الشعوب وإضعاف الدول، ولديمومة تدخلهم في تلك البقاع.

فإذا ما انتهى الحاكم، اتجهت أنظار الشعوب إلى هؤلاء الفاتحين المحررين بالشكر والامتنان وظاهر مما تقدم أن فكرة الحق هي الأخطر في هذه المعادلة الشائكة المعقدة. لأنها الأساس في بناء التشريعات القانونية، والمعيار في تحديد أبرز المفاهيم الإنسانية، كالعدل والظلم والخير والشر والمشروعية واللامشروعية والمصالح – مقاصد التشريع – ونحو ذلك. وما كان سوى ذلك فهو فرع منه أو ثمرة له .

والعالم محكوم بمنهجين على وجه الإجمال: منهج سماوي، ومنهج وضعي. تمثل الأول الشريعة الإسلامية الخالية من التحريف والتبديل. وتمثل الثاني بما سوى ذلك. وكلا المنهجين يعتمد العقل في التشريع. أما العقل في المنهج الإسلامي فلفهم التنزيل وأسراره ومقاصده، ومن ثم العمل على كشف أحكام كل ما لم يرد به نص في ضوء ذلك وبما يُصلح الواقع. وأما المنهج الوضعي فلإبعاد نفسه عن الشرائع المنزلة أعتمد العقل في الأمر كله، وان تجاذبه تضارب المصالح وشح النفوس.

([1]) لقد شهد العالم قريباً آثار هذه السنة الكونية بفشل مؤتمر دوربان ضد التمييز العنصري الذي انعقد في جنوب أفريقيا في التوصل إلى إدانة إسرائيل وتأكيد سياستها العنصرية. وذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت ذلك وإن أراد العالم هذه الإدانة. فليس للأضعف إلا أن يقبل أو يرضخ لإرادة الأقوى سواء بالإرادة أو بالقوة.