ثانيا: دور القاضي في تحديد وقائع النزاع:
مبدئيا فإن الاستناد إلى الوقائع هو من اختصاص المتقاضين دون سواهم، وبالتالي ليس للمحكمة أن تعتمد في قضائها على واقعة لم تعرض عليها ولم تتعهد بها في نطاق إطار
النزاع الذي حدده الأطراف. إلا أنه يوجد استثناء لهذا المبدأ يتعلق بالوقائع الموجودة ضمن عناصر القضية المطروحة على المحكمة، فمثل هذه الوقائع يمكن للمحكمة إثارتها واعتمادها رغم أن الأطراف لم يتمسكوا بها صراحة ولقد أقر المشرع الفرنسي هذه القاعدة في الفصل 7 م م م الذي جاء فيه "لا يمكن للقاضي أن يؤسس حكمه على وقائع لم تعرض عليه أثناء التقاضي إلا أنه يمكنه أن يأخذ بعين الاعتبار من بين عناصر المناقشة الوقائع التي لم يستند إليها الأطراف بصفة خاصة لتدعيم طلباتهم". إلا أن محكمة التعقيب التونسية لها رأي مخالف فهي تلح على ضرورة الاقتصار على التحري فيما يدلي به المتقاضين من أدلة ولا يمكن إجراء أبحاث في غير ما تمسك به المتقاضون إذا انبنى القرار الاستئنافي على حجة لم يستند إليها المعقب عليه ولم تكن حينئذ موضوع مناقشة لدى المحكمة فإنه يستوجب النقض . بينما يرى الفقه الفرنسي أنه يمكن للقاضي الإذن بأبحاث تشمل كل الوقائع سواء وقع التمسك بها أم لا والتي من شأنها أن تؤثر في حل النزاع .
لكن مثل هذا التوجه نحو الإذن بإجراء أبحاث حول وقائع لم يستند إليها المتقاضين يمثل إفراطا في السلطة وتغييرا لسبب الدعوى وتجاوزا لإطار
النزاع وبالتالي خرقا لمبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين. وفعلا فإن هذا التوجه أدى بفقه القضاء الفرنسي إلى تبني فكرة الطلبات الضمنية أو المفترضة التي تسمح بتخفيف حدة قيود قاعدة إمكانية القاضي تغيير موضوع الدعوى . والطلب الضمني أو المفترض كما يعرفه الأستاذ J.Normand بأنه الطلب الذي لم يطلبه المتقاضين صراحة، ولكنه يفهم ضمنا من مجموع الوقائع التي أوردوها في عرائض دعواهم، بحيث يمكن افتراض اتجاه نيتهم إلى طلبه.
لكن مثل هذا التوجه لا يمكن تأييده إلا في صورة احترام المحكمة لحقوق الدفاع ومبدأ المواجهة بين المتقاضين فلا تعتمد دليل لم يناقشه الأطراف. ثالثا: إمكانية توسيع نطاق
النزاع من حيث الأطراف: مبدئيا فإن المدعي هو الذي يحدد أطراف النزاع من خلال تحديده للمدعي عليه في عرضية الدعوى، إلا أن اعتبار الحكم القضائي عنوان للحقيقة يفرض في بعض الأحيان السماح للمحكمة بتعديل نطاق النزاع من حيث الأطراف وذلك من خلال السماح لأطراف أخرى بالدخول في القضية.
ولقد نظم المشرع التونسي في الفصول 224 و 225 م م م ت التداخل في الدعوى كما أنه ضبط في الفصل 251 تداخل النيابة العمومية في النزاعات. فالفصل 224 يسمح للغير أي الذي لم يكن طرفا في
النزاع والذي له مصلحة في القضية أن يتداخل فيها في أي مرحلة من مراحلها، أما الفصل 225 فإنه ذهب أبعد من ذلك واعطى للمحكمة سلطة في تحديد نطاق النزاع من حيث الاطرف إذا جاء بالفقرة الأخيرة من هذا الفصل "للمحكمة أصالة منها وفي كل حيث أن تأمر بإدخال الغير في الدعوى إذا رأت حضوره ضروريا لتقدير النزاع". ويمكن القول أن أحكام التداخل والإدخال ترجع أساسا إلى تقهقر مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين الذي يفرض على المحكمة التقيد بإطار النزاع الذي حدده المتخاصمون، وذلك نظرا لإيجابياتها المتمثلة خاصة في تفادي تعارض الأحكام والاقتصاد في الإجراءات وحماية الغير من الغش والتواطؤ الذي قد يقوم به أطراف النزاع وكذلك لاستكمال عناصر الدعوى بغاية استجلاء الحقيقة وتحقيق العدالة. ولعل هذه المبررات هي نفسها التي سمحت بإعطاء النيابة العمومية حق التداخل في الدعاوي طبق أحكام الفصل 251 م م م ت وذلك بصبغة وجوبية بطلب من المحكمة أو بصفة تلقائية . فالحكم القضائي هو عنوان الحقيقة، ولكي يكون كذلك فعلا فلا بد من تمكين المحكمة من كل الوسائل التي تسمح لها بأن تكشف الحقيقة الموضوعية دون أن تبقى حبيسة لإرادة من كل أطراف النزاع الهادفة أساسا لتحقيق مصالح ذاتية ولعل أهم واجب يتحمله القاضي المدني هو توجيه النزاع الوجهة القانونية السليمة. الفقرة الثانية: دور الايجابي للقاضي في تحديد الجانب القانوني للنزاع. يتفق الفقهاء على أن القانون هو من امتياز القاضي فلسان حال القاضي يقول
"أعطني وقائع أعطيك قانونا" .
وهذا يندرج في نطاق الوظيفة الأصلية
للقاضي لأسباب ثلاثة: - لأن القاضي يعتبر حامي الشرعية القانونية والمسؤول عن تطبيق القانون، فالقانون من مشمولات المحكمة والوقائع من مشمولات الأطراف. - يقتضي مبدأ المساواة أمام القضاء باعتباره مرفق عام أن يعهد للقاضي وليس للأطراف امتياز اختيار النص القانوني الملائم وتطبيقه. - من المسلم به من قديم أن حجة القانون على القاضي لأنه محمول على العلم به والإلمام بجزئياته أكثر من المتقاضين، ذلك أن المحكمة تعرف القانون وهذا المبدأ الأصولي مرتبط بالوظيفة القضائية إذ المفروض أن المحكمة لا فقط تعرف القانون بل تتقنه . فهل يعني هذا أن القاضي هو السيد المطلق في تحديد التكييف القانوني للنزاع وأن الأطراف ليست لهم أي سلطة في تحديد العناصر القانونية للنزاع؟ بالرجوع إلى أحكام الفصل 70 م م م ت نجد أن من بين العناصر التي يجب أن يبينها المدعي في عريضة الدعوى هي الأسانيد القانونية لطلباته أي أن الأطراف يساعدون أيضا في تحديد العناصر القانونية للنزاع.
لكن الأستاذ الغزواني يرى أن ذلك لا يعدو أن يكون إلا من قبيل الواجب الأدبي بالنظر إلى أن الفصل 71 م م م ت الذي تضمن ذكر حالات بطلان عريضة الدعوى لم يذكر من بين تلك الحالات إهمال المدعي ذكر النص القانوني المنطبق لا لشيء إلا لأن البحث عن السند القانوني الواجب التطبيق هو من مهام القاضي دون سواه الذي له الاختيار المطلق للنص القانوني وتكليف المدعي بيان أسانيده القانونية في عريضة الدعوى هو فقط لمساعدة القاضي .
إلا أن ما ذهب إليه الأستاذ الغزواني من تبسيط المسألة يجب أن لا يحجب عنا الصعوبات التي تطرحها ذلك على الأقل فيما يتعلق بتحديد حقيقة دور كل من القاضي والأطراف في ضبط الجانب القانوني للدعوى. فعلى الرغم من الميل الواضح لدى فقه القضاء نحو اعتبار أن تطبيق القانون من اختصاص المحكمة إلا أنه توجد قرارات أخرى تسير في الاتجاه المعاكس وتجعل تحديد السند القانوني من قبل الأطراف ملزما للمحكمة لا تملك حق تبديله. فبالنسبة للاتجاه الأول: أقر فقه القضاء التونسي هذا الاتجاه في عدد كبير من القرارات التعقيبية التي يمكن وصفها بفقه القضاء الغالب.
إذ جاء في قرار تعقيبي صادر بتاريخ 11 فيفري 1985 "... ان قاضي الموضوع لا يخضع في تكييفه للدعوى إلى مشيئة الخصوم وإنما يأخذ التكييف من القانون أخذا صحيحا" و يمكن كذلك الإشارة إلى عدة قرارات تعقيبية تبنت هذا الاتجاه مثل القرار التعقيبي عدد 5876 الصادر في 4 مارس 1996 والذي ورد فيه: "ان النصوص القانونية التي تعتمدها المحكمة هي من اختصاصها وحدها دون توقف على ما تمسك المتقاضين به ما دامت منطبقة على الدعوى" . وحسب اجتهاد محكمة التعقيب فإنه لا لزوم لبيان النصوص القانونية التي أستند إليها المدعي عند تحرير العريضة لأن المحكمة هي التي تكيف الوصف القانوني للوقائع وتتخير النص الملائم . كما ذهبت محكمة التعقيب إلى أن اعتماد محكمة الموضوع في فصل
النزاع على فصل قانوني لم يسبق التمسك به من قبل الأطراف خلال نشر الدعوى لا يعد من قبل تكوين حجج المتقاضين لأن تكييف الدعوى وإخضاعها للنص القانوني الواجب التطبيق من متعلقات المحكمة. لتؤكد في قرار آخر على أن لمحكمة الموضوع الاستناد للنصوص القانونية التي تنطبق على وقائع القضية دون أن يتمسك بها المتقاضين إذ أن ذلك يعد من جوهر أعمال القاضي ولا يعتبر خرقا لأحكام الفصل 12 م م م ت طالما أن النتيجة التي انتهت إليها المحكمة مأخوذة من الوقائع المعروضة عليها دون تحريف . وهذا التوجه لمحكمة التعقيب والمجسم لسيطرة القاضي على القانون أقرته أيضا بدوائرها المجتمعية في قرارها الصادر في 30 جانفي 1970 حيث اعتبرت أن "وصف العقود من المتقاضين لا يقيد المحكمة وعليها إعطاء تلك العقود الوصف الواجب قانونا". وبالرجوع إلى العديد من القرارات نتبين أن فقه القضاء التونسي شبه مستقر على اعتبار أن التكييف القانوني السليم واجب محمول على كاهل القاضي، فلا يمكنه التمسك مطلقا بمبدأ الحياد والتقيد بالوصف القانوني الذي يعطيه الأطراف رغم علمه بأن هذا التكييف غير صحيح. أما بالنسبة للاتجاه الثاني: ومع ذلك فإن بعض دوائر محكمة التعقيب تذهب في اتجاه ثان وتبتعد أحيان عن التوجه السابق وتذهب نحو اعتبار أن المحكمة ملزمة باتباع السند القانوني الذي أسس عليه الطالب دعواه فليس لها أن تغير من تلقاء نفسها ذلك السند . فمثل هذا القرار وغيره يدخل تذبذبا على موقف محكمة التعقيب من مسألة تحديد دور كل من القاضي والأطراف في ضبط السند القانوني للدعوى ويمكن القول أن محكمة التعقيب اتخذت في قرارها الصادر في 20 فيفري 1969 موقفا وسطا حين أكدت على أنه "لا تكون المحكمة ملزمة في كل الصور باعتماد النص القانوني الذي استند إليه القائم بالدعوى وإنما يجب أن تركز حكمها على النص القانوني الذي ينطبق على الدعوى". ومن هنا يمكن القول بأن إعطاء النزاع التكييف القانوني الصحيح يعد واجبا محمولا على كاهل المحكمة، فلا يمكنها أن تتقيد بما يعطيه الأطراف من أوصاف للوقائع، إضافة إلى ذلك فهي غير ملزمة بتطبيق القاعدة القانونية التي تمسك بها الأطراف إذ عليها أن تستخلص بنفسها القاعدة القانونية الواجبة التطبيق من وقائع الدعوى، ولا يمكن القول بأن إتيان القاضي لمثل هذه الأعمال فيه خرق لمبدأ الحياد وتجاوز القاضي لحدود سلطته باعتبار أن النظر في الجوانب القانونية للنزاع يبقى من أهم وظائف القاضي باعتباره الأقدر على حسن تطبيقها ولذلك فإن القاضي كثيرا ما يجد نفسه ملزما بإعادة التكييف القانوني لوقائع النزاع مما يدعوه إلى إثارة دفوعات قانونية.
ويرى الأستاذ"هنري موتولسكي" أنه ليس هنالك فرق بين إعادة التكييف القانوني وإثارة دفوعات قانونية بما أن إعادة التكييف تؤدي حتما إلى إثارة دفوعات قانونية. كن هل أن حياد القاضي لا يمنعه فعلا من إثارة دفوعات قانونية بحتة من تلقاء نفسه؟ و هل له أن يلازم
الحياد أو أن يتدخل إيجابيا في تحقيق الدعوى ويكون الحد الوحيد الذي يمكن أن يقلص من سلطته في إثارة دفوعات قانونية هو احترامه لمبدأ المواجهة بين الخصوم؟ أي أن يعرض ذلك الدفع على المتقاضين لإبداء ما لديهم من ملحوظات حول تلك المستندات القانونية احتراما لمبدأ المواجهة وضمانا لحقوق الدفاع. أجابت محكمة التعقيب بجواب شبه مستقر عن ذلك بأنه فيما يخص تحديد من له سلطة ضبط الطلبات في الدعوى أن السلطة المطلقة في ذلك تعود للأطراف وحدهم دون المحكمة وهذا أمر منطقي خاصة وأن الفصل 175 م م م ت المتعلق بحالات الطعن بالتعقيب ينص في الفقرة سادسا منه على حالة الحكم بما لم يطلب المتقاضين أو بأكثر مما طلبوه ومن الأمثلة على مثل هذه القرارات التعقيبية:
فمن المسلم به فقها وقضاء أن المحاكم مقيدة في قضائها بطلبات المتقاضين أي بالدعوى الأصلية وبدعوى المعارضة ولا حق لها في تجاوز ذلك وإلا أصبح حكمها مستهدفا للنقض .
المحكمة مقيدة في قضائها بطلبات المتقاضين ولا حق لها في تجاوزها وإلا كان حكمها خارقا لأحكام الفقــرة 6 من الفصــل 175 م م م ت.