ومما تقدم وجدت من الضروري التعرض إليها بدراستها على وفق الأحكام القانونية النافذة بعدة مطالب وعلى وفق ما يلي : ـ

المطلب الأول

تعريف
جريمة التوسط أو التوصية أو الرجاء

جريمة
التوسط او التوصية او الرجاء ورد ذكرها في نص المادة (330) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل وبالنص التالي (يعاقب بالحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة امتنع بغير حق عن أداء عمل من أعمال وظيفته او اخل عمدا بواجب من واجباتها نتيجة لرجاء او توصية او وساطة او لأي سبب آخر غير مشروع.) وفي الفقرة (2) من المادة (297) من قانون العقوبات العراقي (إذا كان لطبيب او القابلة قد طلب او قبل او اخذ عطية او وعدا لإعطاء الشهادة او كان قد أعطاها نتيجة لتوصية او وساطة يعاقب هو ومن قدم او أعطى او وعد او تقدم بالتوصية او تدخل بالوساطة بالحبس او بإحدى هاتين العقوبتين.) وفي المادة (234) من قانون العقوبات العرااقي (يعاقب بالحبس وبالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين كل حاكم او قاض أصدر حكما ثبت انه غير حق وكان ذلك نتيجة التوسط لديه) والمادة (233) من قانون العقوبات (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة وبغرامة لا تزيد على مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف او شخص مكلف بخدمة عامة توسط لدى حاكم او قاض او محكمة لصالح احد الخصوم أو الإضرار به.) . ومن خلال النصوص المشار إليها أعلاه نرى ان تعريف هذه الجريمة يتفرع الى ثلاثة فروع لتعلقها بمفردات التوسط والرجاء والتوصية لذلك سأعرض لها على وفق ما يلي : ـ

1. تعريف الرجاء

يقصد بالرجاء هو الفعل الذي يصدر من صاحب الحاجة مباشرة ويدعو بها الموظف او يستعطفه من اجل قضاء حاجته . أما في اللغة فان الرجاء مصدره اصل الفعل الثلاثي رجو
والرجاء ، ممدود : نقيض اليأس . . رجا يرجو رجاء . ورجى يرجي . وارتجى يرتجي . وترجى يترجى . ترجيا ، ومن قال : رجاه أن يكون كذا فقد أخطأ ، إنما هو رجاء . والرجا ، مقصور : ناحية كل شئ . والاثنان : رجوان ، والجميع : أرجاء . والرجو : المبالاة[5]

2. تعريف التوصية

يقصد بالتوصية كل ما يصدر من شخص ذو نفوذ أو ذو سلطة أو مقام يطلب من الموظف قضاء الأمر المطلوب لصاحب الحاجة . إما التعريف اللغوي فان التوصية مشتقة من الفعل وصى ، والوصاية مصدر الوصي ، والفعل : أوصيت . ووصيته توصية في المبالغة والكثرة، وأما الوصية بعد الموت فالغالب من كلام العرب أوصى ويجوز وصى . والوصية : ما أوصيت به . والوصاية : فعل الوصي ، وقد قيل : الوصي الوصاية . وإذا أطاع المرعى للسائمة فإصابته رغدا قيل : وصى لها المرتع يصي وصيا ووصيا[6]

3. تعريف التوسط

التوسط أو الوساطة كلمة يقصد بها الفعل الصادر من الغير لمصلحة صاحب الحاجة للتوسط لدى الموظف العام[7] أما عن التعريف اللغوي لمفردة الوساطة او الواسطة فان مصدرها الفعل وسط وعندما يكون مخففا يكون موضعا للشئ ، تقول : زيد وسط الدار ، فإذا نصبت السين صار اسما لما بين طرفي كل شئ . ووسط فلان جماعة من الناس ، وهو يسطهم ، إذا صار في وسطهم . وسمي واسط الرحل ( واسطا ) ، لانه وسط بين الآخرة والقادمة ، وجمعه : أواسط . . وواسطة القلادة : جوهرة تكون في وسط الكرس المنظوم . وفلان وسيط الحسب في قومه ، وقد وسط وساطة وسطة ووسطه توسيطا[8]











المطلب الثاني

أركان الجريمة

إن الأفعال الجرمية تتكون من عدة عناصر إذا ما توفرت توفر معها الوصف بالتجريم وجريمة
التوسط او التوصية كسائر الجرائم لابد من توفرها عن جملة من العناصر التي تسمى الأركان لذلك سأعرض لها على وفق ما يلي : ـ

الفرع الأول

ركن المشروعية

إن وصف أي فعل بأنه
جريمة لابد من النص على تجريمه بموجب قانون أو قرار له قوة القانون وهذا ما يسمى بمبدأ المشروعية أو قاعدة ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص أو بناء على نص) ويعني هذا المبدأ أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، أي أن مصدر الصفة غير المشروعة للفعل هو نص القانون ويقال لهذا النص " نص التجريم " وهو في نظر القانون الجزائي يشمل قانون العقوبات والقوانين المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة . وبالتالي يحدد في كل نص الشروط التي يتطلبها في الفعل كي يخضع لهذا النص ويستمد منه الصفة غير المشروعة ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل، لذلك فان القاضي لا يستطيع أن يعدٌُ فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم هذا الفعل، فإذا لم يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى عد الفعل جريمة، ولو اقتنع بأنه مناقض للعدالة أو الأخلاق أو الدين وفي تطبيقات القضاء ما قضت به محكمة تمييز إمارة دبي ( بان عدم توفر أركان الجريمة وخروجها عن نطاق التأثيم . كاف للقضاء بالبراءة طالما أقام الحكم قضاءه على أسباب تتفق وصحيح القانون)[9] . و أساس هذا المبدأ هو حماية الفرد و ضمان حقوقه و حريته و ذلك بمنع السلطات العامة من اتخاذ أي إجراء بحقه ما لم يكن قد ارتكب فعلا ينص القانون عليه و فرض على مرتكبيه عقوبة جزائية[10] ، ففي العصور القديمة لم تكن هذه القاعدة معروفة حيث كانت العقوبات تحكمية وكان في وسع القضاة أن يجرم أفعال لم ينص القانون عليها ويفرضوا العقوبة التي يرونها كما كانوا يرجعون إلى العرف لتجريم بعض الأفعال وتقرير العقوبة لها .وإن كان هناك بعض مؤرخي القانون الجزائي يقولون بأن مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات عرفت لأول مرة في القانون الروماني في العهد الجمهوري بدليل وجوده عند فقيهي الرومان (أولبيانوس ) و ( بولس ) أما العهد الإمبراطوري فلم تكن هذه القاعدة معروفة لأن القانون الروماني في هذا العهد كان يعطي للقاضي سلطة تقديرية واسعة في التجريم و العقاب[11] . ويرى بعض الكتاب[12] إن هذه القاعدة ترجع بذورها الأولى إلى الشريعة الإسلامية أي ترجع إلى مدة تزيد على أربعة عشر قرناً فمن القواعد الأصولية في الشريعة الإسلامية أنه " لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص " أي أن أفعال المكلف المسؤول لا يمكن وصفها بأنها محرمة مادام لم يرد نص بتحريمها ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها ونفهم من ذلك بأنه لا يمكن اعتبار فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك فإذا لم يرد نص يحرم الفعل أو الترك فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك . والمعنى الذي يستخلص من هذا الكلام هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهذه القاعدة في الشريعة لا تتنافى مع العقل والمنطق و تستند مباشرة على نصوص صريحة في هذا المعنى ومنها قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )[13] وقوله تعالى : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوى عليهم آياته)[14] وقوله تعالى : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )[15]. وغيرها من النصوص القاطعة بأنه لا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد إنذار ، وطبقوا هذه القاعدة على الجرائم ولكنهم لم يطبقونه تطبيقا واحدا في كل الجرائم حيث طبقوه تطبيقا دقيقا في جرائم الحدود و القصاص بخلاف جرائم التعزير فلم يطبقونه بتلك الصورة والسبب في ذلك أن المصلحة العامة وطبيعة التعزير تقتضي ذلك، ومن الناحية الدستورية نجد إن هذا المبدأ قد احتل صدارة الاهتمام ففي الدستور الدائم اعتبر هذا المبدأ من المبادئ الدستورية الداخلة ضمن الحقوق الأساسية للفرد عندما نص عليه في باب الحقوق المدنية والسياسية في نص الفقرة (ثانيا) من المادة (19) ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة)، لذلك فان أي فعل جرمه القانون العراقي يكون محلا لجريمة، ولابد من الإشارة إلى أن بعض الأفعال أصبحت جرائم بموجب قرارات لها قوة القانون مثلما كان معمول به في فترة النظام السابق، إذ كان لمجلس قيادة الثورة المنحل ورئيس الجمهورية في ظل النظام المذكور سلطة إصدار القرارات التي لها قوة القانون على وفق أحكام المادة الثانية والأربعون من الدستور المؤقت الصادر عام 1970 التي نصها ( يمارس مجلس قيادة الثورة الصلاحيات التالية:أ ـ إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون.)، لكن مما يلاحظ عليه إن قانون العقوبات العراقي لم يحدد تعريف معين وواضح للجريمة[16]وإنما اكتفى بتقسيمها إلى عدة أقسام من حيث طبيعتها[17] وكذلك من ناحية جسامتها[18]، وهذا ما عملت به مجموعة من القوانين منها قانون العقوبات المصري والقانون الفرنسي[19]وفي المنظومة القانونية توجد العديد من القرارات التي لها قوة القانون قد أنشئت جرائم وحددت لها العقوبات[20]، وفي جريمة التوسط والتوصية والرجاء نجد عدم مشروعيتها في أي أكثر من نص في قانون العقوبات منها المواد (233، 234، 260، 290، 297، 330، 331) وتوجد بعض الإشارات إلى تلك الجريمة في عدد آخر من القوانين والقرارات التي لها قوة القانون في المنظومة القانونية العراقية.