يقول هذا الأستاذ في صفحة (363) و(364):
(الحكم يقوم حجة مانعة من تجديد النزاع بشرط اتحاد موضوع الخصومة في القضيتين واتحاد الخصوم، وقد استنتجوا من هذا أنه للبحث في هل للحكم الجنائي أثر
أمام المحكمة المدنية يجب الرجوع إلى هذه القاعدة.
وقد حاول Merlin إثبات أنه يرى في كل من الخصومتين اتحادًا في الموضوع، وفي الأخصام وفي السبب، أما في الخصوم فلأن المدعي المدني تمثله النيابة، وأما في الموضوع فلأن الدعويين
المدنية والجنائية وإن اختلفتا في الطلب الفعلي لأن الموضوع في الأولى مطالبة بتعويض الضرر وفي الثانية طلب توقيع العقوبة، إلا أن أساس الطلبين واحد وهو ارتكاب الجنحة. وأما اتحاد السبب فلأن الطلبين ناتجان من واقعة واحدة ولكن توليه (Toullier) يطعن على رأي مرلين ويرى أنه لا اتفاق بين الموضوع ولا بين الخصوم، أما بين الخصوم فلأن المجني عليه لا تمثله النيابة، وأما في الموضوع فلأنه فرق بين توقيع العقوبة وبين طلب التعويض).
ثم قال في صفحة (365) فقرة (1062):
(وإننا نخالف مرلين ومانجين في رأيهما ونرى أن الدعويين
المدنية والجنائية تختلفان باختلاف الخصوم).
وبناءً على ذلك فإذا كان هذا الخلاف يجب حله بمقتضى مبادئ قوة الشيء المحكوم فيه على ما تقرر في المادة (1351) من القانون المدني بدون الاستعانة بمواد أخرى فمن الواجب التقرير أن القاضي المدني لا يرتبط بحكم القاضي الجنائي بحال من الأحوال.
هذا ما يجب أن يقف عنده من يريد البحث في القانون المصري، فإنه خلو من أي نص آخر غير المادة (232) مدني (1351 فرنسوي) فلا شك حينئذٍ في أن المبدأ الصحيح عندنا إنما هو القائل بأن
المحاكم المدنية لا تتقيد بالأحكام الجنائية، لأن عدم وجود النص الوارد في قانون تحقيق الجنايات الفرنسوي في القانون المصري قاطع في هذا الموضوع وذلك بتقرير نفس أصحاب الرأي القائل بخضوع المحاكم المدنية للأحكام الجنائية في فرنسا.
يظهر من هذا مقدار خطأ الذين أرادوا الأخذ بالمبادئ المقررة في كتب المفسرين والأحكام الأفرنسية واعتبارها مبدأ يجب تطبيقه عندنا على وهم أن القانون واحد هنا وهناك إن لم يكن في النص ففي المبادئ، والواقع أن مبدأ أولئك العلماء مستفاد من نص استثنائي لم يرد في قانوننا، ويقول المفسرون إنه لولا وجود هذا النص لكان حكمهم على غير ما قرروا.
وجدنا في المجموعة حكمًا أغفلناه عند تحديد فقه
المحاكم المصرية في هذا الموضوع لأنه صادر من محكمة دسوق الجزئية فليس من شأنه أن يكون له أثر في تقرير المبادئ على وجه العموم لكنا نشير إليه الآن مثالاً للخطأ الذي ينتج من نقل النصوص الأجنبية وتطبيقها كما هي بدون مراعاة الفارق بين القانونين. وفي الواقع فإن الحكم مسند إلى ما ورد في داللوز في باب قوة الشيء المحكوم فيه، وهذا سنده الوحيد ولا يمكن أن يكون لمثله من الأحكام أي سند آخر، ويقول داللوز صراحةً كما قال lacoste الذي نقلنا رأيه حرفيًا إنه لولا وجود النص في القانون الأفرنسي لكان حكم النصوص والمبادئ أن حكم القضاء الجنائي لا قيمة له أمام القضاء المدني أصلاً.
من المهم في هذا المقام ملاحظة أن الخلاف قائم بين مفسري القانون الأفرنسي في حالة الدعوى
المدنية الناشئة عن الجناية مباشرةً، أي ما نسميه في قانوننا (الادعاء بحق مدني) وموضوع الدعوى في هذا المقام طلب تعويض الضرر الناشئ من ارتكاب الجناية، وكل الأحكام التي نقرأها في كتاب lacoste إنما موضوعها الخلاف بين هاتين الدعويين العمومية والمدنية الناشئتين عن واقعة واحدة، ورغمًا عن هذا كان تقرير المفسرين أن هاتين الدعويين مستقلتان طبقًا لقواعد القانون المدني وعلى مقتضى مبادئ قوة الشيء المحكوم فيه.
وما وجدوا سندًا للاحتجاج بالحكم الجنائي
أمام المحكمة المدنية إلا في النصين اللذين ذكرناهما وهما غير موجودين عندنا وإذا كان هذا الخلاف واقعًا حتى فيما يختص بدعوى التعويض الناشئة عن ارتكاب الجناية فما بالك بالدعاوى المدنية الأصلية المستقلة في موضوعها وفي الحق المدني المتنازع عليه، كنزاع في ملك أو في دين فإن الخصومة المدنية المنظورة أمام المحكمة المدنية المختصة لا يمكن لأحد أن يتصورها تابعة للواقعة الجنائية أو ناشئة عنها، فسريان الحكم الجنائي عليها لا نفهم له سببًا، لا من جهة القانون، ولا من جهة الواقع، ولا من جهة العقل.
قلنا إن الشارع المصري أغفل النصين الواردين في قانون تحقيق الجنايات الفرنسوي قصدًا وإنهما في الواقع نصان استثنائيان متناقضان مع جميع أحكام ونصوص مبادئ القانون الأخرى فحكمهما لا يتفق مع أحكام القانون المصري بل يناقضها.
ونريد أن نبين هنا وجوه ذلك التناقض فتظهر الأدلة التشريعية الصريحة قاضية على مبدأ الاحتجاج بالأحكام
الجنائية أمام القضاء المدني:
أولاً: يحول دون هذا المبدأ قواعد الاختصاص، وهي قواعد أصلية قررها الشارع محافظةً على المصلحة العامة ولا يمكنه تقريرها من جهة ثم العمل على هدمها من جهة أخرى.
المحكمة الجزئية لا تختص في المسائل
المدنية بالحكم في أكثر من ماية وخمسين جنيهًا لكنها تختص بالحكم في عقوبة التزوير ولو كانت الأوراق المدعى بتزويرها تشمل آلافًا.
أمام تقرير الاختصاص بهذه الحدود فإن مبدأ اتخاذ الحكم الجنائي حجة
أمام المحكمة المدنية يقضي بالتسليم بأن حكم القاضي الجزئي في دعوى التزوير قد فصل نهائيًا في عقد خارج عن اختصاصه مدنيًا فعطل سلطة المحكمة المدنية المنظورة أمامها الدعوى وهي المختصة وحدها بالفصل فيها، فزال اختصاصها وأصبحت خاضعة لحكم قاضٍ يقول القانون صراحةً إنه غير مختص بالفصل في النزاع المطروح لديه، وإذا تعرض للفصل فيه فعمله باطل لا قيمة له.
أيمكن لأحد أن يوفق بين هذا التناقض توفيقًا فيه مسحة الرشد والتعقل؟
إنه لا سبيل إلى تطبيق القانون بنصوصه الصريحة وبأحكامه المعقولة إلا إذا وضع صراحةً مبدأ الاستقلال بين القضائين استقلالاً تامًا كاملاً، كل يعمل في دائرة اختصاصه المحدودة فالجنائي اختصاصه محدود بتوقيع العقوبة ليس إلا، والمدني اختصاصه الحقوق المتنازع عليها، فلا يجوز لإحدى السلطتين أن تتعدى على الأخرى، ولا تؤخذ أحكامها حجة
أمام الأخرى إلى حد إعدام سلطتها وتحويل وظيفة القاضي إلى مجرد تدوين حكم غيره في سجله حتى في دعوى تقررت أنها من اختصاصه وحده وأن قاضي الجناية لا يختص بالفصل فيها بحال من الأحوال.
ثانيًا: كذلك وضع القانون نصًا صريحًا بيّن فيه شروط الاحتجاج بقوة الشيء المحكوم فيه وهي المانعة وحدها للقاضي من إعادة البحث في الدعوى فقرر في مادة (232) مدني أن القاضي لا يمنعه حكم سابق سواء كان صادرًا منه نفسه أو من غيره إلا إذا اتحدت الخصومة في الموضوع وفي السبب وفي شخصية الأخصام وفي صفاتهم، ولا يقول أحد إن المرافعة
أمام المحاكم الجنائية يمكن أن يكون موضوعها الحكم بملكية ماية فدان أو خمسمائة فدان، فإن هذا محفوظ طبعًا لاختصاص المحاكم المدنية. ولا يقول أحد إن طلب توقيع العقوبة هو بذاته طلب الحكم بملكية أطيان أو بدين معين، ولا يقول أحد إن طلب التعويض الناشئ عن ارتكاب جنحة هو بنفسه طلب الحكم بالملكية أو بالدين. ولا يقول أحد إن سبب الحكم الجنائي وهو ارتكاب الجنحة هو بذاته سبب الدعوى المدنية وهي الملكية أو العقد المدعى بتزويره.
هذا الخلاف العظيم في جميع أركان الخصومتين من شأنه استقلال القضائين - كل في أحكامه - فكل قاضٍ مقيد باختصاصه، وهو مسؤول عن القيام بواجباته طبقًا للقانون وضميره، لا يهمه في ذلك رأى قاضٍ آخر في مثل ما يعرض عليه.
هذان أمران كليان من أصول التشريع ومن دعائم النظام، فالمصلحة العامة في المحافظة على قواعدهما ظاهرة واضحة، وسنجد فيما يجيء من صريح النصوص التي تفرعت عن هذين الأصلين ما يدل على خطأ الرأي القائل بارتباط أحد القضائين بأحكام الآخر.
ثالثًا: نصت المادة (372) مرافعات أن الحكم المدني الانتهائي تعدل عنه المحكمة إذا حكم بتزوير ورقة أسند إليها الحكم.
وفي هذا النص تصريح بأنه رغمًا عن الحكم المدني بصحة ورقة وبتمليك الحق المقرر بها فإنه يجوز لمحكمة الجنح أن تضرب صفحًا عن هذا الحكم وأن تحكم بتزويرها إذا رأت لذلك وجهًا، وما كان خوف التناقض بين الحكمين سببًا لغل يد القاضي الجنائي حتى لا تظهر تلك الفضيحة الاجتماعية، فضيحة وجود حكم ثبت أنه على غير حق.
ولا يمكن القول هنا إن دعوى التزوير العمومية هي وحدها التي يجوز قبولها دون الدعوى
المدنية كما جاء في حكم النقض والإبرام الصادر في سنة 1909 والذي نقلناه في صدر هذا البحث، وذلك لأن قانون تحقيق الجنايات ينص على أن كل جنحة تنظر أمام المحكمة تتبعها حتمًا دعواها المدنية المتفرعة عنها ولا يمكن تصور جنحة بلا مجني عليه من حقه أن يطلب تعويضًا كما قلنا فيما مضى.
وفضلاً عن هذا فإن في حكم المادة (372) قضاء على مذهب عدم قبول الدعوى
المدنية أمام محكمة الجنح لأنه ما دام أن الحكم بالتزوير ينتفع به من حكم ضده مدنيًا بنص القانون فله بطبيعة الحال أن يشترك في الخصومة التي تؤدي إليه، وإلا إذا كان ممنوعًا من المرافعة فيها لأنه قد حكم في حقه نهائيًا وليس له حق الخصومة من جديد، فمن البديهي أن الحكم الذي يصدر في الدعوى الجنائية يبقى بالنسبة إليه كان لم يصدر، ولا يجوز له التمسك به أصلاً فتقرير الشارع أن هذا الحكم يجوز للمحكوم ضده أن يتمسك به معناه الصريح أن للمحكوم ضده مدنيًا حق المرافعة من جديد أمام محكمة الجنح ليتوصل إلى استصدار حكم من حقوقه أن يسعى إليه وأن يتخذه لمصلحته لبطلان ذلك القضاء المدني الذي يراه ضارًا بحقوقه.
رابعًا: كذلك تقضي المادة (234) تحقيق جنايات أن الحكم الجنائي الصادر بالعقوبة يجب بطلانه إذا حكم بتزوير شهادة الشهود الذين قام الحكم على شهادتهم.
في هذا المقام لا يخلو الحال من أمرين فإما أن يصدر الحكم ضد الشهود من محكمة الجنح ومعنى هذا أن محكمة الجنح المختصة بالحكم في الشهادة المزورة ليست مرتبطة بالقضاء الجنائي الصادر بالعقوبة وأن احتمال ظهور بطلان تلك العقوبة القديمة لم يكن مانعًا من إجراء سلطة القاضي على أصلها ما دام أنه مختص بموضوع الدعوى المعلقة أمامه وما دام أن هذا الموضوع يختلف عن موضوع الحكم السابق وصيغته ووصفه، فإذا كان نفس القاضي الجنائي غير مرتبط بحكم جنائي سابق فمن باب أولى يكون القاضي المدني غير مرتبط بهذا الحكم ما دام أن الموضوع المطروح أمامه هو من اختصاصه.