على أن قبول الدعوى الجنائية بناءً على استقلال القضائين كان يترتب عليه حتمًا قبول الدعوى المدنية لأن كل واقعة جنائية إذا ثبتت تقتضي حتمًا وبمجرد إثباتها حق التعويض لمن وقعت عليه، وليس من الممكن أن يقرر القضاء أن جناية وقعت على زيد ثم يقضي في الوقت ذاته أن المجني عليه لا تعويض له فليس من الجنايات ما لا يجوز تعويض ضرره أو إزالة آثارها المدنية الظالمة.
الذي نفهمه أن لا جناية بغير مجني عليه وأن انعدام شخص المجني عليه يجعل الجناية مستحيلة فالدعوى العمومية مستحيلة الوجود بل مستحيلة التصور لأنه لا يمكن تعليق واقعتها في الهواء أو حصرها في حيز الفكر والوهم النظري.
لهذا قلنا إن الحكم مضطرب وما عنينا بشأن اضطرابه إلا بيانًا لخطورة المسألة وأهميتها، وتعلقها بمبادئ عديدة قد يغيب على ذهن الباحث بعضها ويحضره البعض، فيثبت رأيه على ما لا يوافق
الأحكام المقررة في القانون أو المستفادة من مبادئه، ويكفي مطالعة أسباب الحكم ليتبين كيف أن المسألة دقيقة وكيف أن هذه الأسباب تدل على عدم اتفاق الحكم مع المبدأ الذي تقرر في حكم سنة 1901.
يقول الحكم ما نصه:
(وحيث إن هذه الدعوى قد توفرت فيها كافة الشروط المطلوبة لتطبيق مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا على الدعوى المرفوعة من المدعين بالحق المدني لأن الخصوم هم أنفسهم في كل من الدعويين ويعتبر أن المطلوب في الدعويين واحد، والسبب فيهما واحد أيضًا متى كانت الدعويان مختصتين بشيء واحد ولو اختلف وصفهما والمسألة المطلوب الفصل فيها نهائيًا من المحكمة هي وذاتها مبنية على السبب ذاته. المجموعة الرسمية سنة 10 صحيفة 167).
الفرق واضح بين هذا وبين قوله في حكم سنة 1901 أن المدعي لا يطلب من المحكمة
المدنية الحكم بتعويض كما طلب أمام محكمة الجنح، بل هو يطلب الحكم بتزوير العقد نفسه مدللاً بذلك على اختلاف الخصومتين موضوعًا وسببًا، أما هنا فقد أصبحت الخصومتان المختلفتان خصومة واحدة لمجرد تعلقهما بواقعة واحدة وهي الواقعة الجنائية المطروحة أمام القضائين.
في 21 يناير 1913 حكمت محكمة الاستئناف (دائرة يحيى باشا) على خلاف حكم سنة 1901 وعلى خلاف حكم سنة 1909 من حيث المبدأ والنتيجة فقررت أن الحكم بالبراءة ترتبط به المحكمة
المدنية فيمنع من الرجوع إلى دعوى التزوير مدنيًا.
يقول الحكم ما نصه:
(وحيث بناءً على ذلك تكون تهمة التزوير قضي فيها نهائيًا والدعوى الحالية المطلوب فيها إلغاء عقد الرهن ومحو التسجيلات المتوقعة مبنية فقط على الادعاء بتزوير هذا العقد الذي يرجع فيه إلى الحكم الصادر في دعوى التزوير. مجموعة سنة 14 عدد (50).
عُرضت المسألة أخيرًا على محكمة النقض في أول يوليو سنة 1918 فأيدت من جديد مبدأ حكم سنة 1901 القائل باستقلال القضائين، واختلاف الخصومتين موضوعًا وسببًا وعدم جواز تقيد أحد القضائين بحكم الآخر ورجعت عن حكم سنة 1909 رجوعًا صريحًا.
جاء في حكم النقض ما نصه:
(وحيث بناءً على ذلك تكون الدعوى الحالية المؤسسة على الضرر المادي والأدبي الذي لحق بالمدعي المدني أثناء سير القضية
المدنية لسبب التزوير تعتبر دعوى يختلف موضوعها اختلافًا تامًا عن دعوى المطالبة بالدين التي حكمت فيها المحكمة المدنية كما أن القيمة المطالب بها في كليهما مختلفة أيضًا فلا يصح القول والحالة هذه بسبق الفصل في دعوى التعويض الحالية. مجموعة سنة 20 عدد 2).
وإذا جاز بعد بيان أحكام محكمة الاستئناف وأحكام محكمة النقض والإبرام أن نذكر على سبيل إتمام البحث ما نشر من أحكام
المحاكم الابتدائية التي رأت إدارة المجموعة نشرها لأهمية مباحثها، فإن في المجموعة حكمين صادرين من محكمة بني سويف بصفة استئنافية وهذا بيان كل منهما.
حكم 6 يناير سنة 1910 جاء في بحث مطول ما نصه:
إن مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا المنصوص عنه في المادة (232) مدني لا يمنع من إقامة الدعوى العمومية مباشرةً لأن
الأحكام المدنية فصلت في حقوق مختلف موضوعها وسببها عن موضوع وسبب الحق المطلوب في الدعاوى الجنائية. مجموعة سنة 11 عدد 46).
وحكم 3 فبراير سنة 1912 جاء فيه ضمن بحث مستفيض أيضًا ما نصه:
(حيث إنه ليس يوجد في القوانين المصرية نصوص تشير إلى أن للأحكام
الجنائية قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا على الدعاوى المدنية المتفرعة من الجرائم مثل النصوص الموجودة في القوانين الفرنسوية. المجموعة سنة 1913 عدد 118).
واضح إذًا من هذا أن فقه
المحاكم وإن اعتراه شيء من الضعف والاضطراب، إلا أن أكثر مظاهره ومعها حكم النقض والإبرام الأخير (يونيو سنة 1918) صريحة في تقرير مبادئ الاستقلال بين السلطتين المدنية والجنائية، والاختلاف بين الخصومتين المدنية والجنائية اختلافًا يلحق بالموضوع وبالسبب، وعلى هذا فلا يحتج أمام إحداهما بقوة الشيء المحكوم فيه بناءً على حكم الأخرى، بل كل سلطة إنما تتقيد بالحكم الذي يصدر منها، وكل سلطة حرة في بحث الموضوع المطروح أمامها من جديد كأنه لم يصدر فيه قضاء، وذلك حتى بين الخصمين اللذين قامت خصومتهما أمام القضاء الجنائي ثم رجعا للمرافعة أمام المحكمة المدنية أو بالعكس.
2 - علماء القانون الأفرنسي
إذا كان قانوننا منقولاً عن القانون الأفرنسي وكان من الواجب أن نرجع إلى ما أجمع عليه العلم والعمل هناك لحل النقط الغامضة وهي كثيرة، فمما لا خلاف فيه أنه يجب أن لا تكون هذه المراجعة قاصرة على مجرد حفظ ما ورد في تلك المطولات وتطبيقه على قانوننا بدون ملاحظة الفوارق بين القانونين إن وُجدت.
نقول هذا لأننا لاحظنا في كل بحث في هذا الموضوع اقتصار الباحثين على نقل ما ورد في داللوز وأحكام
المحاكم المنشورة فيه، فيقولون إن الإجماع مقرر هناك على أن للأحكام الجنائية أثر قطعي أمام المحكمة المدنية، خصوصًا إذا قامت الخصومة الجنائية بين المتهم وبين المدعي المدني فيجب أن يكون القضاء عندنا على هذا المبدأ لاتفاق القانونين.
الواقع أن بين القانون الأفرنسي وبين القانون المصري خلاف كبير في النصوص وما كان هذا الخلاف عفوًا.
ففي فاتحة قانون تحقيق الجنايات نص صريح (المادة 3) يقضي أن الجنائي يوقف المدني، وفيه نص أيضًا (المادة 463) يقضي صراحةً بأن المحكمة
الجنائية عند الحكم بالتزوير ولو في غيبة المدعي المدني يجب عليها أن تعدم الورقة المزورة.
استنتج العلماء هناك من هذه النصوص الصريحة - وجرى العمل على استنتاجهم - أن
المحاكم المدنية ملزمة أن تحترم الأحكام الجنائية، لأن الشارع لو لم يرد ذلك لما أوقف الدعاوي المدنية حتى يفصل في الدعاوي الجنائية، ولأنه إذا لم يرد ذلك لما أعطى للمحكمة الجنائية حق إعدام الورقة وفي هذا من قطع طريق البحث أمام المحكمة المدنية ما هو واضح.
على أن وجود هذين النصين مع قوة الحجة المستفادة منهما لم يمنع بعض العلماء هناك ومن أكابرهم (توليه Toullier) و(أرمان داللوز Arman Dalloz) أن يذهبا إلى أن أحكام
المحاكم الجنائية لا قيمة لها أمام المحاكم المدنية إذا كان في الخصومة شخص لم يكن خصمًا في الحكم الجنائي، وقد قامت في هذا الموضوع مناظرة مشهورة لا محل لبيانها تفصيلاً.
كذلك لم يكن لهذين النصين أثر يجعل المبدأ المستفاد منهما واجب التطبيق على إطلاقه، فذهب بعض
الأحكام إلى الأخذ بمبدأ الاستقلال بين القضائين الجنائي والمدني بسبب الاختلاف بين الخصومتين المدنية والجنائية موضوعًا وسببًا.
جاء في داللوز جزء (8) باب (الشيء المحكوم فيه) صحيفة (458) فقرة (549) ما تعريبه:
(ومع هذا فقد حكم طبقًا لرأي توليه وداللوز...
2 - أن الواقعة التي تثبت في حكم جنائي لا تنهض حجة
أمام القاضي المدني.
3 - وأن الحكم الجنائي ليس له قوة الشيء المحكوم فيه
أمام المحكمة المدنية لكنه يعتبر قرينة يجوز للقضاة إذا ضموها إلى قرائن أخرى أن يعتبروا المجموع مؤديًا لتوجيه اليمين المتممة).
ثم قال:
(ومن رأينا أيضًا أنه يجوز لمن حكم عليه بتقليد اختراع غيره أن يرجع
أمام المحكمة المدنية إلى النزاع في هذا الموضوع بناءً على أدلة لم تُطرح أمام المحكمة الجنائية).
كذلك لم تكن هذه النصوص بمانعة من اتفاق جمهور العلماء هناك على أن أحكام البراءة لا قيمة لها
أمام المحكمة المدنية إلا في أحوال خاصة ففرقوا بين أحكام البراءة المبنية على أن الواقعة لم تحصل أصلاً، وبين الأحكام المبنية على أن المتهم لم يرتكب الواقعة أو أن الأدلة غير كافية، وجعلوا لكل حالة حكمًا.
على أن عيوب هذه النظرية في جملتها لا تخفى ولا يلزم لتفنيدها كثير من التعمق في المسائل القانونية:
فأولاً: أن التفرقة بين حكم العقوبة وبين حكم البراءة والقول إن الأول حجة والثاني لا أثر له إنما هي تفرقة لا مبرر لها من جهة القانون ثم لا يمكن قبولها لا عقلاً ولا قانونًا، لأنه لا يمكن أن يكون عمل السلطة الواحدة نافذًا في حالة وغير نافذ في أخرى، وهي تعمل في الحالتين بصفتها سلطة قانونية مختصة لا يمكن الطعن على عملها بتجاوز حد الاختصاص ولا بالبطلان، فلو كانت أحكام لها حجة قاطعة لوجب أن تكون كذلك سواء صدرت بالعقوبة أو بالبراءة.
وثانيًا: لأن البحث في معرفة سبب البراءة والخضوع إلى هذا السبب خروج بالمحاكم والمترافعين عن كل مبادئ القانون فإن قوة الشيء المحكوم فيه محددة برواية الحكم وحدها، أما أسباب
الأحكام سواء كانت واقعية أو قانونية فهي آراء لا يتقيد بها أحد، ولا نفس القاضي الذي كتبها بيده فهي من باب أولى لا تقوم حجة على محكمة أخرى وفي خصومة غير الخصومة التي صدرت فيها.
وقد لاحظ هذه العيوب كل من A. Dolloz وToullier استدلالاً على أن مبدأ التمسك بالحكم الجنائي
أمام المحكمة المدنية، إذا كان صادرًا بالعقوبة، مبدأ مشكوك في صحته بل مخالف لأحكام القانون العامة.
هذا مركز المسألة التي نبحثها في قانون قرر بصريح العبارة في مادتين مختلفتين ما يفيد على رأي الجمهور أن للقضاء الجنائي
أمام المحكمة المدنية رأى نهائي لا يقبل النزاع بوجه من الوجوه، فلم يبقَ علينا إلا بيان المسألة وفقًا للقانون عندنا.
3 - حكم القانون المصري
يتناول الشارع المصري القانون الأفرنسي ليقتبس منه (بعد أن جرب تشريعه قرنًا إلا قليلاً فأظهرت الحوادث عيوب بعض نصوصه ودل العلماء بأبحاثهم على مواطن الضعف فيها، وقام الخلاف بينهم في تفسير الغامض منها) فوجد النص الأول من قانون تحقيق الجنايات (المادة 3) التي أشرنا إليها وهي تقضي بأن المحكمة
المدنية يجب عليها عند قيام خصومة جنائية أن توقف الفصل في الخصومة المنظورة أمامها. قرأها الشارع وهو ينقل النصوص نقلاً يكاد يكون حرفيًا لكنه ترك هذا النص تركًا لا شك في أنه مقصود، ولا يستطيع أحد التدليل على أن قصد الشارع المصري هو المحافظة على استقلال القضائين استقلالاً تامًا كاملاً بأكثر من هذا العمل الذي لا يقبل نزاعًا ولا جدلاً.
قلنا إن هذا نصًا ليس وحيدًا بل هناك نص آخر (مادة 463) وهو نتيجة لذلك النص الأول فلما وصل إليه شارعنا تركه أيضًا، ولم ينقله ضمن نصوصه، فعمل الشارع إذًا عمل مقصود ومتماسك في أجزائه، فاتفق قصد الشارع في أول القانون مع قصده في أواخره فلا سبيل لحمل هذا الموقف على مجرد ترك نص أو إهماله عفوًا.
وفي الواقع فإن هاتين المادتين لا يتطابق حكمهما مع أية قاعدة من قواعد القانون الأفرنسي ولا مع مبادئه، وقد كانت سببًا في ذلك الخلاف الذي أشرنا إليه كما كانتا سببًا في شذوذ جمهور العلماء والأحكام عن الأصول المتفق عليها. فرأيناهم بعد خلطهم بين القضائين الجنائي والمدني، وبعد أن غرهم النص فجعلوا يلتمسون له عذرًا بتوحيد الخصومتين
المدنية والجنائية وجعلها خصومة واحدة متحدة في الموضوع والسبب، وهذا ما لا يتفق مع الواقع ولا يقول به العقل، رأيناهم بعد كل هذا قد اضطروا إلى اعتبار أسباب الأحكام الجنائية هي بذاتها أحكامًا نهائيًا ليجدوا من ذلك سبيلاً يحققون به بعض المتناقضات الناشئة عن مبدأ خضوع المحاكم المدنية لأسباب القضاء الجنائي فخرجوا من خطأ إلى غيره يقصدون بذلك إصلاح الخطأ الأول فأعطوا للمحكمة المدنية حق الخروج من قوة رواية الحكم بناءً على سبب من أسبابه، لعلهم بذلك يصلون إلى بحث القضية من جديد.
وحتى لا يبقى شك في نفس الباحث ليحكم بأن خلو قانوننا من نصوص القانون الأفرنسي من شأنه أن يجعل المبدأ عندنا على خلاف ذلك المبدأ المقرر هناك، يحسن أن ننقل على سبيل المثال رأي بعض العلماء القائلين باتخاذ
الأحكام الجنائية حجة أمام المحكمة المدنية، فإنهم يقررون صراحةً أنه لولا هذين النصين لكان إجماعهم معنا وعلى خلاف ما ذهبوا إليه، ونختار من بينهم من عُني ببحث مسألة قوة الشيء المحكوم فيه، فوضع لها مجلدًا خاصًا (لاكوست lacoste).