ثم إن التشريعات في مختلف الدول تفرق بين طورين أساسيين من أطوار الحداثة، طور عدم التمييز وطور التمييز، وتخصص لكل منهما أحكاماً خاصة، وقد كانت التشريعات القديمة تعترف بالبلوغ الجسدي الطبيعي حداً بين الطورين المذكورين. أما التشريعات الجزائية الحديثة فلا تقرن التمييز بالبلوغ الجسدي، بل تهبط بسن التمييز إلى ما دون ذلك، ولكنها لا تتفق جميعها على سن واحدة. وقد حددت غالبية التشريعات، ومنها تشريعات الدول العربية، سن السابعة فيصلاً مجرداً بين طور عدم التمييز والتمييز، ويطلق على الطور الأول اصطلاحاً «مرحلة الطفولة» أو «مرحلة عدم التمييز» إذ يكون فيها الحدث غير مميّز قانوناً، وعلى الطور الثاني «مرحلة التمييز». وفي سورية، أجمعت التشريعات المتعاقبة على تحديد بدء سن التمييز، التي تنتهي بها مرحلة الطفولة، بتمام السابعة من العمر.

ويكون الحدث في مرحلة الطفولة عديم التمييز من وجهة نظر القانون، وهو أيضاً عديم الأهلية، فلا يتحمل التبعة الجزائية للفعل الجرمي، وتنعدم مسؤوليته الجزائية، ولا يصح أن تتخذ الإجراءات القانونية في مواجهته، ولا أن توقع عليه عقوبة عن فعل تتوافر فيه أركان الجريمة. ولهذا نصّ قانون
الأحداث الجانحين في سورية: أنه لا يلاحق جزائياً الحدث الذي لم يتم السابعة من عمره حين ارتكابه الجريمة.

وانعدام التمييز لدى الحدث في هذه المرحلة لا يقتصر أثره على عدم إنزال عقوبة به، بل إنه يجاوز ذلك إلى عدم جواز اتخاذ تدابير إصلاحية بحقه، وعدم جواز رفع الدعوى العامة عليه. ويدل كل ذلك على أن أعمال الحدث غير المميز لا تعني القانون الجزائي في شيء. ويتضح من كل ما تقدم أن الحدث الذي يسري عليه قانون
الأحداث الجانحين، ويجوز أن تقام عليه الدعوى العامة ويواجه بتدبير إصلاحي، إنما هو الحدث الذي يرتكب جريمة في وقت يكون فيه قد أتم السابعة ولم يتم الثامنة عشرة من عمره. ويلاحظ من ذلك أن ثمة شرطين يجب توافرهما حتى يعد الحدث جانحاً: أن يرتكب جريمة يعاقب عليها القانون، وأن يكون قد أتم السابعة ولم يتم الثامنة عشرة من عمره حين ارتكاب الجريمة.

أسباب جنوح الأحداث

بذل الباحثون جهوداً ضخمة للكشف عن أسباب إجرام
الأحداث والوصول إلى جذور هذه المشكلة المهمة وإرساء الحلول الكفيلة بالقضاء عليها أو الحد منها ما أمكن. ومع تعدد التقسيمات التي وضعها الباحثون، فإن من الممكن وضع الأسباب في فئتين: ما هو داخلي خاص بالحدث نفسه، وما هو خارجي يتعلق بالوسط الذي يعيش فيه.

الأسباب الخاصة بشخص الحدث: يرى الباحثون أن اضطرابات النموّ لدى الحدث، والعاهات، والأمراض البدنية والنفسية، والدوافع ومنها دافع الجنس، هي عوامل تؤثر في السلوك الاجتماعي للحدث وتنعكس في تصرفاته وقد تكون وراء ارتكابه الجريمة. ولا يمكن في هذا المجال الجزم بحتمية أثر الوراثة في الإجرام، وهي النظرة التي قال بها لومبروزو[ر]، ولكن يمكن القول إن التكوين الجسمي أو العقلي للأبوين قد ينعكس على الطفل، فإذا كان الوالدان، أو أحدهما، من مدمني المسكر أو المخدرات، أو من المصابين ببعض الأمراض الخاصة، فإن هذا الوضع يحتمل أن يؤثر في تكوين ابنهما جسمياً ونفسياً.

الأسباب الخارجية المحيطية: إن للبيئة التي يعيش فيها الحدث تأثيراً واضحاً وكبيراً في سلوكه وتصرفاته، وتحتل العوامل الاجتماعية والاقتصادية مكان الصدارة بين العوامل التي تنطوي عليها البيئة والتي يمكن أن تؤدي إلى جنوح الأحداث. فالجانح مصنوع لا مولود، وإجرام الصغار حادث يسهم الكبار في صنعه، والحدث المنحرف هو في الغالب ضحية وسط اجتماعي اقتصادي سيئ.

الوضع الاقتصادي: يحتمل أن يكون الفقر حافزاً على التفوق والنبوغ، ولكنه، من جهة ثانية، كثيراً ما يكون السبب في الانحراف والجريمة. وفي جملة ما يعنيه الفقر فقر الأسرة والسكن الحقير، وسوء التغذية والجوع والمرض والملبس المزري. وقد يؤدي الفقر في الأسرة إلى تفكك الروابط بين أفرادها، وإلى أشكال من القلق والكآبة واليأس. ويؤثر ذلك كله في أحوال الحدث الجسمية والنفسية والتربوية والثقافية. وقد يكون من شأنه إسقاطه في بؤرة الانحراف. لكن الفقر في حد ذاته ليس السبب الحتمي، فقد يقدم على الجريمة أناس ليسوا من الفقراء، وكثيراً ما يحجم عنها أناس في حضيض الحياة. وقد ثبت من فحص الحالة الاجتماعية لبعض الطلاب الذين ارتكبوا أخطر الجرائم وأخلوا بالأمن إخلالاً خطيراً انفعل له سكان بعض المدن أنهم ينحدرون من الفئات الاجتماعية الغنية المترفة. وعلى ذلك فإن الانحراف قد ينشأ عن سوء الرعاية الذي يغلب أن يلازم الحياة الفقيرة. ومن هنا يكون من الضروري التنبه إلى عوامل أخرى اجتماعية وصحية وغيرها تسهم وحدها، أو مع الفقر، في جنوح الأحداث.