أذن فقد دخلت القوانين الوضعية الدول العربية والإسلامية مع هذا الاستخراب الغربي الصليبي، وتمت تنحية وعزل الإسلام ليس كدين فقط بل أيضا كهوية وتشريع ومنهاج حياة وقانون وتم عزلة عن منصة الحكم والتشريع والقضاء، في الدول العربية والإسلامية، واستبداله بالقوانين الوضعية تحت زعم الأخذ بأسباب المدنية الأوربية والتقدم الأوربي والمدنية الحديثة، كأنما التقدم الأوربي والمدنية الحديثة مرجعة وسببه هذه القوانين الوضعية، رغم تفاهة تلك الحجة الفارغة فقد وجدت عقولا مهزوزه ومهزومة فكريا صدقتها بل آمنت بها وقاتلت من أجل نشرها وتلقينها للنشء في كافة مراحل التعليم.
أن هذه القوانين الوضعية المستوردة والمفروضة هي قوانين الدولة الرومانية عليها مسحة من النصرانية وأن هذه القوانين لم تمنع أبناء الإسلام الأوائل – الذين طبقوا الإسلام منهج حياة وتشريع وقضاء - من ليس هزيمة الدولة الرومانية فقط بل هدمها وانتهت الإمبراطورية الرومانية من علي الوجود في أعوام قليلة ولم تمنع هذه القوانين هذه الإمبراطورية من الهزيمة ولا من الانهيار، كما أن هذه القوانين لم تمنع الهزيمة المنكرة الدول الأوربية في الحروب الصليبية.
أن تأخر المسلمين ليس راجعا للتشريع والقوانين الإسلامية فالشريعة الإسلامية أفضل وأسمى من أي قانون وضعي وقد شهد بذلك كبار من علماء القانون في العالم الغربي، أنما يرجع تأخرهم لترك تعاليم الإسلام، فتركيا مع الإسلام خلافة عظيمة ودولة كبري تهابها كل الدول الغربية فقد لقنت أوربا دروسا عظيمة وهزيمتها هزائم منكرة، وتركيا الآن دولة تستجدي الدخول في الاتحاد الأوربي، ولو كانت هذه الفرية صادقة لكانت الدول العربية والإسلامية قد بلغت حاليا درجة كبيرة في التقدم والرقي وكانت تنافس أوربا حاليا في النهضة والتقدم العلمي ولكن العكس هو الذي حدث حيث أصبحت من دول العالم الثالث النامي.
يردد البعض بأن الشريعة الإسلامية (لا تصلح للعصر الحاضر) وهم فريقان الأول لم يدرس القانون ولا الشريعة الإسلامية والثاني درس القانون دون الشريعة الإسلامية، وكلا الفريقين ليس أهلا للحكم علي الشريعة الإسلامية لجهله بأحكامها ومن جهل شيئا عاداه، ويكون عدوا له وبالتالي لا يصلح للحكم عليه لسببين الجهل والعداوة، وهم يبنون رأيهم الخاطئ علي قياس خطأ وليس علي دراسة علمية منظمة، لاعتقادهم أن القوانين الوضعية حاليا لا تمت بصلة إلي القوانين القديمة التي كانت مطبقة حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وأن القوانين الوضعية الحديثة قائمة علي نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم تكن موجودة في القوانين القديمة، وبالتالي فهم لا تصلح للعصر الحاضر لفقدانها الأسس التي تقوم عليها القوانين الحديثة، ويبنون علي ذلك استنتاج خاطئ باعتبار الشريعة الإسلامية من قوانين الماضي التي تفتقد الأسس والنظريات والفلسفيات، فهذا القياس فاسد وخاطئ لأنه قياس بين مختلفين من عدة أوجه من حيث المصدر فالشريعة الإسلامية مصدرها الله – سبحانه وتعالي- خالق الخلق، الذي لا يعتريه النقص والنسيان، بخلاف البشر الذين فطروا علي النقص والطغيان والنسيان، ومن حيث الطبيعة فالشريعة الإسلامية إلهية المصدر أي عبادة وتشريع وحياة، فلا يجوز ولا يصح قياس ومقارنة الناس برب الناس، فالخلافات جوهرية وعميقة، فلا تصح المقارنة ولا القياس فالمقارنة فاسدة والقياس باطل.
أن النشأة الأولي للقوانين الوضعية بدأت مع تكوين الأسرة والقبيلة فكلمة رب الأسرة كانت قانون وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون، وظل القانون يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، ومع اختلاف عادات الأسر فيما بينها وتقاليد القبيلة مع غيرها من القبائل الأخرى، فقد عمدت الدولة علي توحيد العادات والتقاليد وجعلت منها قانونا ملزما لكافة الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاقها، ولذلك كانت لكل دولة قانون يختلف عن غيرها من الدول، وفي القرن الثامن عشر تطورت القوانين علي هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية أصحبت قائمة علي تلك النظريات التي أسست علي العدالة والمساواة والرحمة والإنسانية، ونتج عن ذلك وجود قوانين متشابهة في عدة دول ولكن بقي لكل دولة قانونها المختلف عن غيرها من القوانين.
أما الشريعة الإسلامية فهي تختلف من حيث النشأة مع القوانين الوضعية فلم تكن قواعد قليلة ثم نمت وتطورت ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت ولا نظريات أولية وتهذبت، ولم تتطور الشريعة الإسلامية مع تطور الجماعة البشرية، أنما نشأت وولدت شابة كاملة مكتملة شاملة من عند رب العالمين –سبحانه وتعالي- فهي كاملة بكماله وخالدة بخلوده،
فهي صالحة لكل زمان ومكان علي مر العصور وكر الدهور للأفراد والجماعات والدول، فقد جاءت الشريعة الإسلامية من يوم مولدها بأحدث وأكمل النظريات التي منها ما وصلت إليه القوانين الوضعية أخيرا ومنها ما لم تصل إليه القوانين الوضعية حتى الآن، مما يعني عدم وجود مقارنة أو مماثلة أو قياس فالاختلافات أسياسية وجوهرية بين الشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية[7].


الاختلافات الأساسية بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية من عدة وجوه:
1 – الشريعة الإسلامية من عند الله – سبحانه وتعالي - والقوانين الوضعية من صنع البشر، ولا يصح ولا يجب ولا يعقل أن نعقد مقارنة بين الخالق – سبحانه وتعالي - وبين المخلوق، وحيث أن الأفعال والتصرفات تأخذ صفات المصدر فأن الشريعة الإسلامية تكون كاملة مكتملة خالدة صالحة لكل زمان ومكان علي مر الدهور وكر العصور، فهي كاملة بكماله – سبحانه وتعالي – خالدة بخلوده، أما القوانين الوضعية فهي تحمل صفات البشر وطبائعهم فهي ناقصة منقوصة بنقص الإنسان مؤقتة بحياته وظروفه ومحددة بقصر نظره وعصره.
2 - القوانين الوضعية مؤقتة وضعت لمرحلة معينة وظروف معينة ومع تغير الظروف والعلاقات بين الجماعات البشرية، فالحياة متغيرة متطورة بينما القوانين الوضعية المفروض فيها الثبات، ولذلك فهي ثابتة تحكم متغير وبالتالي فهي لا تساير التطورات والتغيرات في المجتمعات وبالتالي فهي مشوبة بالنقصان وغير مكتملة الأركان، بينما الشريعة الإسلامية وضعها خالق الزمان والمكان، الذي بيده مجريات الأحداث والواقع والوقائع، فهي لذلك تساير التغييرات والتطورات التي تحدث في المجتمعات البشرية كما أنها تستوعب المستجدات المستقبلية التي يمكن أن تحدث في المجتمعات البشرية.
2 - نصوص الشريعة الإسلامية تتصف بالمرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة علي مر الدهور وكر العصور، وتستوعب التغييرات والتطور، كما أن قواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث أنها لا يمكن أن تتأخر في أي مكان أو زمان أو تنخفض عن مستوي الجماعة البشرية.
3 – أن الشريعة وضعت لتنظيم وتوجيه البشر لذلك فهي دين وقانون، فالجماعة البشرية خاضعة للشريعة الإسلامية، بينما القوانين الوضعية وضعت لتنظيم الجماعة لذلك فالقانون الوضعي تابع للجماعة وخاضع لها ولتطوراتها.
4 – الجزاء في الشريعة الإسلامية في الدنيا والآخرة، بينما الجزاء في القوانين الوضعية دنيوي فقط، إن الشريعة الإسلامية تتصل قوانينها بقانون السلوك الإنساني العام، وأحكامها تتفق مع قانون الأخلاق والفضيلة، وعقابها دنيوي وأخروي فالأفعال الظاهرة يعاقب عليها بعقوبة دنيوية والأفعال غير الظاهرة يكون عقابها أخروي أمام الله سبحانه وتعالي، لذلك اتصلت الشريعة الإسلامية بالضمير الإنساني والوجدان، واتصال الحكم الدنيوي بالضمير الديني يشعر الإنسان أنه في رقابة مستمرة، من ربه سبحانه وتعالي، وذلك يعد أهم مانع نفسي وروحي من الجرائم، مما جعل مرتكب الجريمة سرا يذهب إلي الرسول صلي الله عليه وسلم ويطلب منه أن ينفذ عليه العقوبة ويقيم عليه الحد بوازع من ضميره وحسه الإيماني الذي خلقه ونماه فيه الخالق سبحلنه وتعالي[8] بخلاف القوانين الوضعية فإن المجرم إذا لم يكتشفه أحد أفلت من العقاب وأزداد ضراوة وإذا دخل السجن مدة طويلة أو قصيرة فأنه يزداد خبرة في الإجرام، فالعقوبات في القوانين الوضعية غير مانعة للجريمة.
فالعقوبات في الشريعة الإسلامية تعمل علي منع الجريمة بثلاث طرق هي:
1 - التهذيب النفسي وتربية الضمير، فقد هذب الإسلام النفس الإنسانية بالعبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج لبيت الله الحرام، مما يجعل العبد المسلم أليف مؤتلف يري نفسه من ومع وإلي الجماعة التي يعيش في وسطها وكنفها وبالتالي فهو يعمل لصالحها وعلي حمايتها حتى من نفسه.
2 – تكوين رأي عام فاضل عماده وأساسه الأخلاق الفاضلة الكريمة لذلك دعت الشريعة الإسلامية إلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسود بذلك خلق الحياء في المجتمع الإسلامي والحياء إحساس قوي بالقيود النفسية التي تجعل الجماعة وما يرضيها مكانا في النفس الإنسانية مما يجعل الشخص يحس بسلطان الرأي العام علي نفسه، ولذلك حث الإسلام علي الحياء ودعا إليه النبي صلي الله عليه وسلم وأكثر من الدعوة إليه.
3 – العقوبات الزاجرة والمانعة الرادعة فالعقوبة رادعة للمجرم زاجرة لغيرة، فالغاية من العقوبة في الشريعة الإسلامية أمران حماية الفضيلة وحماية المجتمع من أن تتحكم فيه الرزيلة والثاني المنفعة العامة ومصلحة الناس، فالفضيلة والمصلحة وإن كانا يبدو بينهما خلاف إلا أنه ظاهري بل هما متلازمان فلا فضيلة بدون مصلحة ولا مصلحة بدون فضيلة، بل أن كثير من علماء الأخلاق يعتبرون مقياس الفضيلة أو الخير هو المصلحة الحقيقية بدون هوي.
4 – العقوبة شفاء لغيظ المجني عليه وليست للانتقام فشفاء غيظ المجني عليه وعلاجه له أثره في تهدئة نفس المجني عليه فلا يفكر في الانتقام ولا يسرف في الاعتداء وبالتالي تنتشر الجريمة وتتفشي في المجتمع، بالإضافة إلي الحفاظ علي الكليات الخمس السابق بيانها، ويعتبر ما سلف خير مانع للجريمة.
فالشريعة الإسلامية تتميز عن القوانين الوضعية بالكمال والسمو والمرونة والدوام والثبات والاستقرار، ويرجع ذلك إلي أنها منزلة من عن الله – سبحانه وتعالي- الذي يتصف بالكمال والسمو والقدرة والدوام.
ثانيا: القصاص
ومن أهم السمات التي يتميز بها الشرع الإسلامي الحنيف عن القوانين الوضعية
القصاص كعقوبة للجرائم، والقصاص في الشريعة الإسلامية ثابت وأصيل وله سنده في القرآن والسنة والإجماع، وهو جوهر نظرية العقوبة في الشريعة الإسلامية وسوف نوضحه من حيث المفهوم والمضمون والأنواع والأحكام والنطاق.