وفي مقدمة الكتاب عرض الباحث الأسئلة التي يجيب عنها البحث:
حيث قال: وأمَّا الأسئلة التي يجيب عنها البحث: فيمكن تجليتها بصياغة هذا العنوان بالتعبير العصري -تقريباً له- بأن يقال: فقه المتغيرات في الشريعة الإسلامية، في علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين، وموازنة تطبيقاتها بما يقابلها من قواعد القانون الدولي العام المعاصر؛ فالبحث إذاً، يحاول الإجابة على عدة أسئلة، أهمها ما يلي:

- ما مدلول السياسة الشرعية ؟ وما العلاقة بينها وبين تغيّر الأحكام ؟
- و هل في أحكام السير مسائل تتغير أحكامها، تبعاً لما تقتضيه السياسة الشرعية ؟
- وهل يوجد في قواعد القانون الدولي العام المعاصر، ما يُمكن أن يقابل تلك الأحكام ؟
- وهل يمكن موازنة تطبيقات فقه السياسة الشرعية -وفق مدلولها هنا- في أحكام السير، بما يقابلها من قواعد في القانون الدولي، مع بيانه بالتطبيق بإجراء الموازنة ؟
- وكيف تفيد الدولة الإسلامية من فقه السياسة الشرعية في أحكام السير، بمعناها الخاص، في ظل المجتمع الدولي الحالي، والدخولِ في الاتفاقات الدولية المعاصرة ؟
وعن أهمية الموضوع يجملها في ست نقاط:
1) أن علم السِّيَر ، علم يبحث -في معظمه- علائق المسلمين بأهل الملل الأخرى، من حربيين ومعاهدين، وهذا موضـوع قوي الصِّلة بمهمّات العلوم الشرعية (عقيـدةً، ودعوةً، وفقهاً)، فالبحث فيه يفيد الباحثين من الدارسين، ويفيد أهل الولاية من السياسيين، كما يثري المكتبة الإسلامية بما تحتاجه من تصوّر شمولي مؤصَّل.
2) أنّ علم السِّيَر ، علم متجدِّد المسائل، كثير النوازل، وعِـلْـمٌ هذه حاله لاشك أنه حَرِيٌّ بالدراسات العلمية التأصيلية، مع محاولة تنْزيل الأحكام على ما يمكن أن يكون محلاً لها من الواقع، إذا كان سالماً من الإيرادات المؤثِّرة.
3) أنَّ المجتمع الدولي –اليوم- يجثو أمام قوانين وضعية، صاغها، أئمة الكفر لتخدم مصالحهم -وإن لم تخل من بعض القوانين الطبيعية الفطرية- وألزموا بها من سواهم بما أدناه: رفع الشهاب، والتلويح بالنار، بحرب أو شبه حرب؛ فكان لزاماً على الدول الإسلامية إعلان النفير الفقهي الشرعي، الذي يزيل الغبار عن الإرث الإسلامي، ويبين للأمّة وقادتها المخرج الشرعي الواقعي بالدليل، وكشف زخرف القول بالتسويغ والتبرير الذليل.
4) أنّ الإرث العلمي الشرعي في هذا العلم، زاخر بالمسائل المتغيرة، التي تبرز بها السياسة الشرعية بمعناها الخاص؛ مما يقدِّم البرهان القاطع بنظر الشريعة للمصالح رعاية، وللمفاسد وقاية، مع تحمّل ما لابد من تحمله منها عند اقتضاء الموازنة الشرعية لذلك؛ وهذا يؤكِّد أهمية ضبط التعامل مع المتغيرات، بحيث لا تعود على الثوابت بالبطلان.
5) أنّ الانطلاق في تأصيل علم السياسة الشرعية بمفهومها الأخص، بدراسة تطبيقاته ومعرفة مآخذه (التأصيل الشرعي)، جانب ينبغي تأكيـد أثره في صحة التأصيل وسلامة الاستدلال، فكم من مسألة أصَّلَها فقهاؤنا قبل قرون، ولازال الكثير من طلبة العلم -فضلاً عن العامة- يظنونها من النوازل ومستجدات العصر؛ ولو حقق المرء ودقق، لوجد كثيراً من الحوادث والنوازل ذات جذور عريقة في التاريخ، بأن وقعت واقعة مقاربة، وأفتى فيها علماء ذلك العصر الذي وقعت فيه؛ والعلم بذلك من أهم ما ينبغي للفقيه والمتفقه العناية به؛ ولهذا كان العلماء يقولون: "لا يكون فقيهاً في الحادث، من لم يكن عالماً بالماضي" ([2]) ؛ وبهذا تتأكّد أهمية هذا الموضوع، وتتضح به جادة الطريق نحو سلامة التأصيل.
6) وأخيراً؛ فإنَّ أهمية هذا البحث تبرز في علاقته المباشرة بجميع علوم الشريعة، من تفسير، وشروح حديث، ومقررات عقيدة، فضلا عن علم الفقه المتخصِّص. وهذا مما يطلع الباحث على حقيقة شمولية الشريعة نصوصا، وأصولا، وقواعد.
وتتضح أهمية هذا الموضوع أكثر، من خلال ذكر بعض أهم الأسباب التي قادت الباحث إلى اختياره، وهي الآتي:
1) أن الدراسات العلمية المؤصّلَة في علم السياسة الشرعية، بمفهومها الأخص قليلةٌ جداً، وأغلبها منثور في مؤلفات متعددة فناً، مختلفة منهجاً -ولاسيما المتأخر منها- ومع هذا فالكلام فيها مقتضب غالباً، والسياسة الشرعية علم مهم، الحاجة فيه إلى الدراسات المؤصّلة تأصيلاً شرعياً -ولاسيما في هذا العصر- مُلحَّة جداً .
2) أن هذا الموضوع لم ينل ما يستحق من الدراسة المؤصَّلة، والعناية الخاصة، حتى في الدراسات الجامعية، من بحوث ورسائل؛ ومن تناوله، تناوله بشكل موجز، أو عَرَضَاً ضمن بحوث عامة في أحكام الجهاد، أو أحكام السياسة الشرعية بمفهومها العام؛ فلم أقف على دراسة مستقلة، لهذا الموضوع ( فقه السياسة الشرعية في علم السِّيَر…) بمفهومها الخاص.
3) تأكيد حقيقة تكفّل الشريعة المطهّرة بسعادة الناس، دنيا وأُخرى، وأنها بأصولها تَسَع الأمم في جميـع الأزمنة والأمكنة، إذا فُهِمت على حقيقتها، وطبِّقت على بصـيرة وهـدى –وذلك كلّه بالدليل الشرعي، والبرهان التطبيقي، دون اكتفاء بإبداء المعتقد الإيماني، أو الشعور العاطفي- ومن ثمّ كشف الحقيقة للباحثين، ودحض شبه المغرضين، وتفنيد آراء المفترين، الذين يتهمون الشريعة بالجمود والقصور، وعدم الوفاء بمتطلبات العصر، ومتغيرات العلائق، وسياسة الدولة مع المخالفين لها في الدين، من الرعايا، والأجانب.
4) الرغبة في بحث هذا الموضوع، حيث إنه يُسْهِمُ في تكميل جانب مهم من الجوانب ذات الصلة الأصلية بالتخصص (السياسة الشرعية).
5) الرغبة في الدمج بين الأصالة والمعاصرة؛ بتقديم ما ينفع العصر، مما قرّره السلف؛ جمعاً بين حفظ جهد الأوائل، والاعتراف بفضل أهل الأفاضل، وبيان حكم ما جدّ من المسائل، و تقديم الحلول الصحيحة لما يعرض من المشكلات.
6) الخلفية السابقة حول مسائل مهمة في هذا الموضوع من خلال البحث المكمِّل مرحلةَ (الماجستير )، ألا وهو (معاهـدات التحالف العسكري في الفقه الإسلامي – مقارنة بالقانون الدولي)؛ مما أرجو أن يعزِّز -بإذن الله- الأملَ في الوصول إلى نتائج مهمّة في فقه السياسة الشرعية عموماً، وفقهها في علم السِّيَر على وجه الخصوص.
7) أنَّ فقه السياسة الشرعية في علم السِّيَر فيما يتعلق بالكفار الأصليين، كثـيرةٌ مسائلُه -وهذا مما يؤيد إفراده بالبحث والدراسة- قال ابن فرحون -رحمه الله- بعد ذكره نماذج من مسائل السياسة الشرعية من كتاب الجهاد: "وكثير من المسائل السياسية"([3]).