القسم الثالث : صور وأمثلة عن استخدام الرأي العام الإلكتروني
أولاً : الاحتجاجات "الإلكترونية"
مع اعتبار التغيير عملية اجتماعية وشعبية شاملة - تتطلّب توفير الأرضية الواسعة النطاق في ميادين التغيير العملية والحياة العامـة – فإن فعاليـات الاحتجاج – التي ما تزال تُعطَى موضع الصدارة تحت عنوان "التغيير" - تأخذ مكانا محدودا فقط وفق الأغراض التي ترفع قيمة الاحتجاج أو تنخفض به. وهذا بقدر ما يتوفـر للاحتجاجات المختلفة من معطيات، لا تتوفر إلا ببذل جهود أكبر بكثير من الجهود المطلوبة لفعاليات معبرة عن الاحتجاج والرفض، بما في ذلك مختلف الأشكال الآلية للتغيير، من عصيان، أو إضرابات، أو انقلابات عسكرية، أو ثورة شعبية.
وهذا ما يستدعي تركيز الحديث عن توظيف "وسيلة" التقنيات الشبكية في هذه الميادين العملية، في نطاق الإجابة عن عدد من الأسئلة الحاسمة، والتي تدور حول محورين أساسيين، أولهما أن تكون العملية الاحتجاجية نفسها جزءا من صيغة متكاملة في اتجاه التغيير أو قطع مرحلة من مراحله، بما يشمل توفير شروطه الأخرى، ويوجد المعطيات للمرحلة التالية؛ والمحور الثاني هو مواصفات الجهة القائمة على توجيه الاحتجاجات وتنظيمها، ومدى قدرتها على توظيف عملية الاحتجاج بكاملها لغرض التغيير، علاوة على توظيف الوسيلة التقنية المعنية لتحقيق المردود المطلوب بصورة مباشرة من عملية الاحتجاج على أفضل وجه.
إن توفير المعطيات الأولى، هو ما يجعل عملية توظيف التقنيات الشبكية نفسها - في تنظيم أي عملية احتجاجية - مسألة فنية محضة، يمكن تعداد عناصرها الرئيسية المتمثلة في:
1- شبكة الاتصالات المطلوبة بين الجهات المعنية.
2- الطاقات الفنية الخبيرة في خدمة شبكة الاتصالات.
3- الخطة الشاملة للتحرّك والمرنة بما فيه الكفاية للتعامل مع المتغيرات غير المنتظرة.
4- الإدارة القادرة على التفاعل مع الحالات الطارئة بالأسلوب المناسب والسرعة الكافية.
وعند إلقاء نظرة سريعة على ما عرفته وتعرفه بلادنا من ألوان الاحتجاج بقصد التغيير - سواء في نطاق قضية محددة، كما في قضية الضغوط الشعبية على السياسات الرسمية على صعيد أحداث فلسطين، أو في نطاق قضايا شاملة، مثل: المطالبة بالتعددية القائمة على الشفافية، وسيادة القضاء، ونزاهة عمليات الاقتراع ما يتبع ذلك - يظهر للعيان أنّ النقص قائم على صعيد توفير هذه العناصر الأربعة الرئيسية؛ إذ ما زال العنصر المميز لمعظم الاحتجاجات هو أنّها عفوية تلقائية، أكثر منها منظمة بصورة هادفة مدروسـة، والشرط الرئيسي لنجاح أي وسيلة تستخدم في الاحتجاج – بما فيها التقنية الشبكية – هو الخروج من هذه الأساليب العفوية إلى الأسلوب المدروس المنظم، فليس المهمّ الاحتجاج بحد ذاته، وإنّما الغرض منه، ولا يتحقق الغرض القويم في اتجاه التغيير، ما لم يكن:
(1) غرضًا مشروعًا.
(2) لا يسبب أضرارًا أكبر فيوقع فتنة دامية مثلا.
(3) يحقق المصلحة العامة لا المنافع الشخصية.
(4) يضع في حسابه مسبقا مختلف الاحتمالات الناتجة عنه والتفاعل معها تفاعلا سليما.
(5) تقوم عليه جهة تتوفر فيها مواصفات المعرفة والوعي والتخصص في المجالات المعنية بما في ذلك توظيف الوسيلة المستخدمة، كالتقنية الشبكية.

ثانياً : العصيان المدني الإلكتروني
العصيان المدني الإلكتروني ECD أو Electronic Civil Disobedience هو شكل من أشكال الضغط - غير العنيف -على المؤسسات الحكومية أو الرسمية المنخرطة في أعمال غير أخلاقية أو غير قانونية، أو تضر بالإنسانية بطريقة أو بأخرى؛ حيث يمكن من خلال بيئة إلكترونية، تدويل وحشد وتنظيم وتأليب الرأي العام عالميا، وهو ما ظهر جليا في عيد العمال أول مايو الحالي؛ حيث اشتعلت الأرض بالتظاهر في معظم أرجاء المعمورة مرة واحدة ضد العولمة!!.
لقد كان لغاندي السبق في اتخاذ العصيان المدني كوسيلة لتحدي القوانين الجائرة؛ متخذًا أسلوب اللاعنف. وجاء من بعده "مارتن لوثر كينج"، في إطار حركته المطالبة بالحقوق المدنية؛ فسار على خطا غاندي مبتكرًا أسلوبي المسيرة والجلوس الاحتجاجيين، لخلق موقف متأزم مستحكم يُرغم الحكومات والأنظمة على فتح باب النقاش والتباحث.
إلا أنه مع إطلالة عصر العولمة، وسَنّ العديد من القوانين الدولية، وإبرام الكثير من المعاهدات التي ترتب حقوق ومصالح الدول والشركات الكبرى في العالم على حساب الشعوب الفقيرة منها والغنية على حد سواء -سعت بعض الجماعات النشطة سياسيا والمناهضة لتلك الهيمنة إلى ابتكار شكل جديد للعصيان المدني يفي بمستجدات العصر ومشاكله ذات الطابع العالمي، وهو ما صار يُعرف بالعصيان المدني الإلكتروني.
ويبلور "هنري ثورو" منظر حركات العصيان المدني الإلكتروني الفكرة عندما يقول: "كل الناس يتمسكون بحق الثورة، وهو حق رفض الولاء لحكومة ما، بل مقاومتها عندما يصبح استبدادها وطغيانها وعدم كفايتها أمورًا غير محتملة".. وجاء دور العصيان المدني الإلكتروني كبديل عصري أو على الأقل مؤازر للاحتجاج البدني، كما أنه يُعَدّ حلا مثاليا للذين يودون لو شاركوا المتظاهرين، ولكنهم يؤثرون السلامة على المشاركة في التظاهرات الفعلية في الشوارع.
النظرية والتطبيق
يحاكي العصيان المدني الإلكتروني ECD ما يحدث في الشارع دون إحداث خسائر مادية، مقارنة بما يحدث على أرض الواقع؛ فبينما يقوم المتظاهرون بسد المداخل والمخارج والممرات؛ لمنع تدفق المسؤولين، يعترض ناشطو العصيان الإلكتروني التدفق المعلوماتي لمختلف الهيئات لشلها وتعطيلها، وهو ما يُحدِث ضغطا ماليا، لا يمكن للتظاهر البشري الذي يجري في الشارع أن يحدثه؛ حيث إن تدفق المعلومات ورؤوس الأموال من أهم عناصر الحياة في المجتمعات الرأسمالية.
وهناك ثلاثة اتجاهات رئيسية تشكل مدارس العصيان المدني الإلكتروني، وهي ليست منفصلة بعضها عن البعض تمامًا، بل إن التداخل والتكامل فيما بينها هو الأقرب للحاصل عن التصنيف الذي يفصل بينها، وهذه المدارس هي:
1- المؤيدون لتظاهرات الشوارع والمتجاوبون معها على الإنترنت.
2- الذين يمارسون اقتحام المواقع والشبكات والتسلل للنظم لدوافع سياسية، وهو علاج ناجح عندما تستعصي الحلول على المظاهرات العادية عن طريق خبراء في تكنولوجيا المعلومات فيما يسمى بالـ hacktivism.
3- الذين ينادون بحلول خلاقة على يدي خبير تكنولوجي بدلا من ممارسة الضغوط، كما في الحالتين السابقتين.
والمدرسة الأولى تستفيد من اختفاء العنف في العصيان المدني الإلكتروني لطبيعته؛ حيث لا تكون هناك مواجهة بدنية، فيكفي جلوس عدد كبير من الناشطين سياسيا وراء شاشات الحواسب والاتصال بالإنترنت للتظاهر أو لتكوين رأي عام ما، ولكن بصور ووسائل قد تكون أحيانا أكثر فلاحا من المواجهة الحقيقة مع السلطات مثل:
· القيام بإرسال آلاف الرسائل الاحتجاجية والمنددة… إلخ، إلى شتى الجهات المعنية بصورة ضاغطة مزعجة عن طريق البريد الإلكتروني؛ فيما يعرف في دنيا الأعمال باسم الـ "spamming"، غير أنه يستخدم هنا لغرض سياسي لا لترويج سلعة أو الدعاية لها.
· الدخول إلى غرف الدردشة في الإنترنت للقيام بحوارات، وتكوين رأي مناصر أو مناهض لقضية من القضايا؛ فيما يعرف باسم political chatting، كذلك تكوين التحزبات السياسية lobbies political داخل مجموعات المناقشة discussion groups في الإنترنت.
· القيام بتعطيل موقع ما عن طريق دخول عدد كبير من المستخدمين على ذلك الموقع في وقت واحد؛ مما يعني ورود عدد هائل من الطلبات التي يجب أن يلبيها الخادم الذي ينطلق من خلاله هذا الموقع، وإغراق الخادم تحت هذا الطوفان من الطلبات؛ حيث يقوم الناشطون بالدعوة لذلك العمل المنظم قبلها بفترة كافية؛ حتى يتسنى لأكبر عدد من المشاركين الدخول في توقيت واحد دقيق بفتح عدد غير محدود من نوافذ المتصفح، وكتابة عنوان الموقع فيه، والضغط عليه في ساعة صفر معروفة سلفا فيما يعرف بـ "denial of service attack" أو "DoS" اختصارا.. كل ذلك يؤدي إلى حرمان المستخدم العادي غير المنخرط في ذلك النشاط من الوصول إلى الموقع أو الخدمة التي يقدمها الموقع، وهو عقاب للموقع، ومَن وراءه.
· الوصول للهدف نفسه السابق بإحدى الوسائل السهلة غير المكلفة من حيث الوقت، ولا تحتاج لأي خبرة، وتدعى Packet Internet Groper أو ping اختصارا، وهو في الأصل أمر يُستخدم لاختبار وجود موقع ما، غير أنه قد يستخدم من خلال مستخدم عادي ليكتب سطرا واحدا عبارة عن عنوان الموقع يتقدمه أمر ping؛ ليقوم الجهاز بذلك الاختبار بشكل متكرر.
· إرسال الرسائل إلى البُرُد الإلكترونية وتداولها، بالإضافة إلى عمل المواقع لنشر الأفكار والرؤى الخاصة في شكل مظاهرة لخلق رأي عام ضد قضية ما، أو في سبيل تعضيد قضية أخرى، بالإضافة إلى إبراز عيوب الأولى ومخاطرها، في مقابلة واضحة لمزايا وفوائد الثانية.
ثم ارتقت المدرسة الثانية، وطورت في وسائلها؛ حيث استعانت بذوي القدرات التقنية المتفوقة، أو الـ hackers الذين أضجرتهم رقابة السلطات على المعلومات واحتكارها، ونُحِت لهذه المدرسة اسم اشتق من كلمتي activism وhacker لنحصل على مصطلح الـ hacktivism.. وينخرط سحرة تكنولوجيا المعلومات في هذه الأعمال، إما لنزعة سياسية لديهم، أو لضيق وضجر من احتكار الحكومات والمؤسسات للمعلومات، وفرضها ستارا كثيفا حول المعلومات؛ مما يحرم هؤلاء التقنيين من الوصول إليها، وهو ما يدفعهم للحرب ضد تلك الحكومات والمؤسسات، ويصح فيهم المثل القائل: "لا حبا في علي، ولكن بغضا في معاوية".
وظهر مع انخراط هؤلاء التقنيين في الأنشطة السياسية، أنواع وفنون جديدة، أو على الأقل تمّ توظيف القديم منها للوفاء بمتطلبات تكتيك الاختراق مثل ما يُعرف باسم automated e-mail bombs؛ وهو نوع من الفيروسات التي تنتشر عبر البريد الإلكتروني، وتقوم بعمل تخريبي بناء على زمن أو حدث تم ضبط انفجار الشحنة المتفجرة عند الوصول لأي منهما، وكذلك الفيروسات الشبكية التي تستهدف خادما أو شبكة بعينها لقطع الاتصال بين جهازين أو شبكتين بعينهما، وكذلك الاختراق المباشر وكسر الحاجز الأمني firewall لشبكة أو نظام مستهدفين للتشويه والتدنيس أو الحصول على معلومات حساسة سرية أو غير ذلك.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن رفض الصدام المباشر، يعد عاملا مشجعا على خوض البارعين تقنيا لذلك الميدان، فإذا بهم يوفرون الجهد والوقت، ويُكْسِبون ذلك النوع من العصيان المدني فاعلية ما كان للناشطين سياسيا (activists) وحدهم أن يصلوا إلى النتائج الباهرة التي يحققها هؤلاء الـ hackers، فمهمات تكتيك الحصار التي كانت تحتاج لكثير من المشاركين لإرسال الرسائل الاحتجاجية مثلا، أو إغراق الخوادم، فضلا عن الجهود المبذولة للتنسيق والدعوة والمشاركة الكثيفة، وغير ذلك من الأمور التي تجعل الوصول للهدف صعب المنال أو غير موات في كل الأحيان -أصبحت كلها عند أطراف الأصابع وبالتوقيت المراد، دون جهد كثير إذا ما جلس أحد هؤلاء السحرة وراء شاشة حاسب آلي متصل بالإنترنت، بعد أن طوروا أنواعا من البرامج تقوم بالجزء الأكبر من العملية بشكل آلي تلقائي؛ فيما يعرف باسم برامج DdoS Distributed Denial of Service، وهم يتناقلونها على الإنترنت بجعلها متاحة مجانية وموزعة على مواقع متخصصة.
ولأن الحد الفاصل بين أعمال اللصوصية الإلكترونية، وأنشطة سياسية إلكترونية تجد قبولاً واستساغة، عبارة عن خيط دقيق قلما يأخذ صفة الدقة، وكثيرًا ما يكون مائعا لا حادا؛ فإن الأعمال التي تقوم بها عناصر الـ hacktivism تتأرجح كل واحدة منها – على حدة لا ككل – بين المباركة والاستهجان؛ إذ إنها تعتمد في المقام الأول على الاقتحام غير الشرعي أو غير القانوني للنظم والمواقع والشبكات، فتخضع بذلك للتقويم الانطباعي حتى بات يطلق عليها E-Guerrillas:

ومن أمثلة هؤلاء الناشطين وما يقومون به:
· جماعة X-Pliot : اقتحمت موقع وزارة المالية في المكسيك، واستبدلت الصفحة الرئيسية بوجه الثائر "إميليو زباتا"؛ متعاطفة بذلك مع جبهة زباتيستا في منطقة تشيباس بجنوب المكسيك.
· مهاجمة مواقع حكومية هندية، وعرض صور تحكي المأساة التي يعيشها شعب ولاية كشمير.
· جماعة Milworm: اقتحمت موقع الأبحاث النووية الهندي؛ للاعتراض على التجارب النووية الهندية.
· جماعة kaotik البرتغالية: اقتحمت 45 موقعا إندونيسيا تابعا للحكومة؛ لمؤازرة أهالي تيمور الشرقية للحصول على حكم ذاتي لهم.
· مهاجمة موقع نيويورك تايمز؛ للمطالبة بالإفراج عن المقتحم الأشهر "كيفين ميتنيك".
· اقتحام المواقع الإسرائيلية في مناصرة للقضية الفلسطينية.
ثم ظهرت المدرسة الثالثة التي تتبنى خط الحلول الإلكترونية الخلاقة المباشرة، لا أسلوبي الضغط أو التسول؛ حيث يضيع في الأخيرين الوقت انتظارا لما سيسفر عنه استخدام أي منهما من نتائج، وهم يعتبرون تلك الأساليب لم تعد مجدية أو ذات نفع، على حسب زعمهم.
وليس من المعروف- حتى الآن- ما هي الوسائل التي تستخدمها هذه المدرسة؟ فبجانب أنها ما زالت في طور التكوين والبلورة، هناك نوع من الغموض يكتنفها.. وبالرغم من إعلان عناصرها عن أنفسهم أنهم hackers أو hacktivists فإنهم يرون أن الاقتحام وإغراق الخوادم DoS تكتيكات لم تعد ذات قيمة.
وكل ما يُعرف عن تلك المجموعات مجرد إعلان عن مناصرة عدد من القضايا، مثل جماعة Hong Kong Blondes المناصرة للديمقراطية في الصين، والتي تتخذ من هونج كونج مقرا لها، وكذلك جماعة عبادة البقرة الميتة (Cult of the Dead cow) التي تعدّ مشروعا يسمى (hacktivismo).
إشكالية مصطلح "العصيان المدني"
في إطار هذه الظاهرة - بصورها المتعددة - طُرح مؤخرًا تعبير العصيان المدني الإلكتروني؛ فعبر موقع "إسلام أون لاين.نت" أدلى الأستاذ "هشام سليمان" بدلوه في بيان هذا الموضوع من عدة جوانب. والموضوع واسع بطبيعته – لا سيما أنه جديد نسبيًّا – ويطرح بالتالي أسئلة عديدة تحتاج إلى بيان ونقاش، والمرجّح بقاء كثير منها مفتوحًا لفترة من الزمن، وإذا أجيب عن بعضها فسيظهر المزيد.
أوّل ما يتبادر إلى الذهن مثلاً: السؤال عن مدى سلامة استخدام كلمات "العصيان المدني الإلكتروني" في التعبير عن عناصر الظاهرة المعنية، والأصل أنّ كلمة "العصيان المدني" أصبحت في العلوم السياسية مصطلحًا له مدلول محدّد نسبيًّا، يميّزها عن الثورة، أو الانقلاب، أو التمرّد المسلّح، أو ما شابه ذلك، ورغم تعدّد الآراء في تعريف المصطلح، فإن معظمها يلتقي على عناصر رئيسية لاستخدام الكلمة، أهمها:
1- المنطلق هو الشعب أو فئات واسعة منه.
2- الهدف هو التعبير عن رفض أمر محدد.
3- الأسلوب الملتزم عمومًا هو أسلوب التعبير السلبي والسلمي عن الرفض.
ثم تبقى أمور تتعدّد حولها الآراء، مثل مدى سريان وصف العصيان المدني على حالات، يقتصر التعبير عن الرفض فيها على أقلية أو نسبة منخفضة من الشعب، ثم الاختلاف على اعتبار استمرار فعاليات الاحتجاج ومظاهر التعبير عنه زمنًا طويلاً نسبيًّا شرطًا ليكتسب الرفض صفة العصيان المدني، وغير ذلك ممّا يدخل في عداد التفاصيل.
ومعروف أنّ من صور العصيان المدني: الامتناع عن تسديد الضرائب، أو مقاطعة خدمات وسلع معينة، أو التباطؤ في العمل، أو حتى القيام بالمسيرات السلمية. ولكن بشكل عام، غلب على وسائله الحرص على الجانب السلمي فيها، وهو ما يستهدف تجنّب الصدام والتعرّض لأخطار مباشرة؛ وبالتالي، فهو يعتمد على جمع العدد الأعظم من السكان، والوصول في مواجهة الطرف الأقوى - المتمثل في سلطة استبدادية أو جيش احتلال - إلى مستوى الإحراج الشديد سياسيًّا، والإضرار المادي به إضرارًا يتصاعد حجمه تدريجيًّا.
بينما نجد مستخدمي تعبير "العصيان المدني الإلكتروني" يتناولون محاور أخرى عديدة، لم يكن العصيان المدني التقليدي يدور حولها، في مقدّمتها - كما يذكر الأستاذ هشام سليمان في مقالته يوم 12/5/2001م - المظاهرات مثلاً، وبالتالي استخدام الشبكة في تأييد المتظاهرين لغرض ما، ثم اقتحام المواقع الشبكية بغرض سياسي؛ وهو ما يتجاوز الطابع "السلبي" لفعاليات العصيان المدني إلى الطابع "الهجومي"، ثم الاعتماد على الخبرة التقنية في البحث عن حلول مبتكرة.
جميع ذلك - من الوسائل والأغراض - يتجاوز واقعيًّا حدود المفهوم التقليدي لتعبير العصيان المدني، ويمكن أن يندرج تحت عنوان التمرّد أو الاحتجاج مثلاً، أو أن يندرج تحت عنوان "التغيير"، وهو الأشمل، والذي ينطوي على "العصيان المدني" أيضا، كأسلوب من أساليب تغيير وضع ما.
التقنيات الحديثة أكثر تأثيرًا
في إطار "العصيان المدني" بصفة خاصة، يمكن لوسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة أن تساعد في ميدان تنظيم فعاليات الاحتجاج السلبي والسلمي المختلفة، وهو عامل بالغ الأهمية؛ نظرًا لارتباط النتائج بارتفاع عدد المشاركين، وبتركيز "الضربة" المؤثّرة المطلوبة في قطاع ما – مثل عدم تسديد الضرائب – بحيث تعطي أثرًا كبيرًا، خلال وقت محدّد.
كما يمكن أن تساهم هذه التقنيات إسهامًا كبيرًا في "التمرّد على الاستبداد" بصورته التقليدية داخل بلد من البلدان. وبغض النظر عما إذا كان تمردًا سلميًا أو شمل العنف - مقابل عنف يمارسه الاستبداد - فالتقنيات الحديثة توفر ميزات كبيرة ومعروفة، مثل: التواري عن مراقبة السلطات الاستبدادية، أو نشر معلومات لا تريد السلطات لها الانتشار..
ويحتاج بيان علاقة الوسائل الحديثة بهذه الميادين التقليدية- للتغيير داخل حدود بلد أو منطقة معينة- إلى بحث مستفيض من أهم عناصره:
(1) تحديد الإيجابيات والسلبيات على حسب مواقع استخدام الوسائل الحديثة من الناحية الجغرافية.. فلا فائدة مثلا من استخدامها في بلد تنعدم فيه الوصلات الهاتفية أو الشبكية، تمامًا كما كان توزيع "بيان مكتوب" بدلاً من شريط صوتي مسجّل، لا يوصل المضمون لفئة الأميين مثلاً.
(2) حسن اختيار الميادين التي تساعد الوسائل الحديثة على تحقيق الغرض المطلوب فيها.. فقد يكون استخدامها في نقل معلومات - لا يُراد الكشف عنها مثلاً - سببًا في كشـفها بدلاً من الحفاظ على سـريتها، بينما يمكن – كمثال آخر - تنفيذ عملية إلكترونية ما لشلّ قدرة سلطة استبدادية على ارتكاب حملات بطش متوقعة.
(3) توفير إمكانيات متجدّدة لتوظيف الوسائل الحديثة من أجل ابتكار صور جديدة - باستمرار- من صور التمرّد أو المقاومة أو التغيير، وذلك في إطار قاعدة الوصول إلى الأهداف بأدنى النفقات، وأقل الجهود، وأسرع الأوقات، وأبسط الإمكانيات.
(4) التخطيط المرِن المتجدد، الذي يعتمد على تقويم متواصل متجدّد؛ ليكون كفيلاً بمراعاة عنصر الزمن إلى جانب مراعاة ما يطوّره الجانب الآخر؛ فقيمة ما قد يمتلكه العاملون على تحقيق تغيير إيجابي من وسائل متطوّرة، تضيع عند الإغفال عن تطوّر الأساليب والوسائل التي تعمل على امتلاكها واستخدامها سلطات استبدادية أو استغلالية أو ما شابهها. وهذا عنصر كثيرًا ما يؤدّي إغفاله إلى نكسات "مفاجئة".
(5) تحديد الضوابط الخاصة باستخدام الوسائل الحديثة لتحقيق أغراض مشروعة كمواجهة الاستبداد، وذلك وفق القيم الأساسية والضوابط الأوسع نطاقًا، والتي يلتزم بها العاملون للتغيير.
ومن الميزات- أو المواصفات- الرئيسية في ظاهرة توظيف التقنيات الجديدة:
1) أنها من جهة تحقّق تطوير التواصل تطويرًا جذريًا؛ بما يشمل حركة المعلومات، وحجمها، وإلغاء مفعول المسافات الفاصلة بين مناطق وجودها.
2) وأنها من جهة أخرى توفّر إمكانية التأثير على الوسائل الإلكترونية نفسها، وهذه صفة بالغة الأهمية باعتبارها تلغي جزءًا كبيرًا من المفعول السلبي للهوّة الفاصلة بين "طرفين"، نتيجة فوارق التخلّف والتقدّم والفقر والثراء بينهما، إذا ما توافرت لهما تلك الوسائل، وكانا طرفين متكافئين من حيث القدرة على استخدام النعم الربانية الممنوحة لهما ابتداء، من حيث الفهم والتفكير مثلاً.
3) ولئن برز مفعول هذه الوسائل التقنية في "اختراق" الحدود السياسية والجغرافية، فالأهم من ذلك مفعولها في توفير قابلية اختراق حدود "احتكار" ركائز التقدّم الحديث، وهذا ممّا يفسّر القلق الشديد من عمليات الاختراق التي وقعت في السنوات الماضية، والتي أثبتت إمكانية الوصول إلى أشدّ الشبكات تحصينًا؛ مما يبدأ بنظم تسيير شبكات الاتصال الحديثة نفسها، ويشمل الشبكات الكبرى للمعاملات المصرفية والتجارية، ويصل إلى شبكات تأمين مصانع الطاقة النووية وتوجيه الأسلحة الحديثة والتشويش على العدوّ.
ولكن رغم أهمية توظيف الوسائل التقنية الحديثة - على صعيد العصيان المدني أو مكافحة الاستبداد المحلي - يبقى أنّ العنصر الأهم المطروح منذ سنوات أبعد مدى بكثير من مجرّد ظهور وسيلة جديدة لتطوير أساليب العمل في خدمة أغراض تقليدية وقديمة.. فنحن نعايش كيف بدّلت التقنيات الحديثة - رغم كونها وسائل وأدوات فحسب - المعالم الرئيسية للأرضية التي تتحرّك عليها عمليات التغيير، والعناصر الحاسمة في تحقيق أهدافه أو إخفاقها. فعملية التطوّر نفسها صارت عملية دائبة، متداخلة الحلقات؛ لا تتميز فيها مرحلة سابقة عن مرحلة لاحقة، وبات استيعابها، فضلاً عن توظيفها، أبطأ من انتشارها؛ وهذا ما يشمل حتى المجتمعات المتقدّمة على صعيد ابتكار تلك الوسائل.

المستقبل
وبرغم ما سبق ذكره من نشاط، فإن العصيان المدني الإلكتروني ECD ما زال في طور الطفولة؛ سواء من ناحية النظرية والتطبيق، فإن عواصف مناهضة العولمة في يوم العمال الماضي، وما يحمله الغيب من أحداث يمكن أن تقوم بها ميليشيات العصيان المدني الإلكتروني –تشي بتغيير قد يكون جذريا في أساليب مناهضة القوانين والمنظمات والحكومات والمعاهدات، وأن المتمردين على الديكتاتورية التي تحكم بالحديد والنار، وأحزاب الخضر، وجماعات السلام الأخضر، والمهتمين بشئون البيئة، وأنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمطالبين بحقوق العمال، والمنددين بالعولمة، إلى آخر هذه القائمة المعروفة -قد وجدوا ضالتهم التي ينشدونها في هذا النوع من العصيان المدني "الإلكتروني"!.



ثالثاً : الانتفاضة الالكترونية
"الإنترفاضة" سلاح جديد ضد إسرائيل
بالرغم من أن عمرها يكاد يكون قصير نسبياً ، فإن الفزع من الحرب على الإنترنت cyberwar بات يهدد إسرائيل حتى توالت المؤتمرات والندوات والتعليقات والدراسات الراصدة؛ فالاستجابة القوية للمسلمين والعرب مع بدء الانتفاضة أقلقت وعطلت في حينه الكثير من المواقع الإسرائيلية على الإنترنت، وهو ما يمكن تسميته "إنتر-فاضة"، والتي لم تكن أكثر ما أزعج النخب في إسرائيل، إذ أزعجهم توحيد الإنترنت للمسلمين على أرض الواقع.
ففي الندوة التي انعقدت في جامعة بن غوريون باسم "معركة الخوادم، معركة القلوب: الإعلام الجديد والحرب المعلوماتية" أعربت فيها إحدى المشاركات عن مخاوفها قائلة: "إن الجماعات الإسلامية الناشطة والمتطرفين المسلمين وجدوا بعضا من ضالتهم في دنيا الإنترنت التي أتاحت لهم من تكوين مجتمعات عريضة متشابهة فكريًّا، فقنوات الاتصال الشبكية وتداول المعلومات يمكن أن تثمر على أرض الواقع أكثر مما أحدثته في دنيا الاتصالات والإنترنت".
وأضافت "ليمور يغال" المحاضرة في العديد من الجامعات الإسرائيلية عن الإرهاب والإنترنت: "لقد أدرك المسلمون أهمية الإنترنت مبكرا جدا" وحذرت من أن المسلمين "طوروا بسرعة إستراتيجية ما أطلق عليه بالجهاد الإلكتروني e-jihad or online jihad، وأنشئوا مجتمعًا إسلاميًّا على الإنترنت يربط أطراف العالم الإسلامي ويوحد المسلمين ويتعاضد فيه مثلا مسلمو أفغانستان والجزائر مع المسلمين في إسرائيل"!… إنهم ليسوا فقط مجموعة من المسلمين أضافوا حرف "e" لنشاطاتهم".
وبالرغم من أن الهدف المعلن لمركز مجتمع الشّرق الأوسط الفعليّ (MEViC) هو محاولة إنشاء الحوار المباشر بدلا من العدائية؛ فإن تساوي كفتي الصراع على الإنترنت، وعدم رجحان ميزان قوى المعركة على الإنترنت لصالح إسرائيل أقلق مؤسس المركز مايك داهان وحدا به إلى القول بأن "كلا الجانبين في الصراع العربي / الفلسطيني – الإسرائيلي يستثمر قنوات التوزيع في حرب الإنترنت cyberwar"…فهم يتراسلون فيما بينهم بعروض البور بوينت، والرسوم المتحركة بفلاش، والتوزيع غير معقول.. مئات الآلاف من الرسائل يتناقلونها، ويمرروها لبعضهم،لكن ذلك ليس ببساطة مجرد محاولة لإذاعة "المعلومات".
وأوضح داهان قائلا: "إن ذلك يدفع الناس سواء في مناطق السلطة الفلسطينية أو أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية للنزول للشوارع، ولا تنحصر الأنشطة فقط على الإنترنت".
ويشاركه كينيث برييس الأستاذ بجامعة بن غوريون رأيه قائلا: "إن مشاهدة العنف الجاري في إسرائيل أو أراضي السلطة أو القراءة عنه يدفع للمشاركة فيه بدلا من كبته".
واقتحام المواقع أو hacktivism إسرائيليّة أو فلسطينية/عربية ما هو إلا مثال نشيط جدًّا لظاهرة cyberwar ، وقد جذب الكثير من انتباه الإعلام منذ بدأ في أكتوبر 2000، على إثر تصاعد العنف في فلسطين.
والتقرير الصادر عن المكتب الإسرائيلي المتابع لتهديدات الإنترنت Idefense intelligence services المنشور في 3 يناير 2000 يشير إلى أنه " بالرّغم من مرور ثلاثة شهور على هجمات إلكترونيّة قاسية، سواء من محترفين إسرائيليين أو فلسطينيين؛ فإنه لا تبدو أي بادرة لخفة حدته فيوميًّا هناك أهداف جديدة، وأدوات متجددة وتكتيكات مبتكرة".
ويقرر ويعترف جيلاد رابينوفيتش نائب رئيس مجلس إدارة شركة نت فيجن رائدة مزودي خدمة الإنترنت في إسرائيل أن الإسرائيليين هم أول من بدأ الهجوم بوضعهم علم إسرائيل فوق صفحة موقع حزب الله على الإنترنت، الأمر الذي بدا مثيرا في حينه، ولكن العرب سرعان ما انتفضوا، وما لبث أن انقلب السحر على الساحر‍!ويتحسر معه داهان الذي يتساءل: "من الذي انتصر في "الإنترفاضة"؟ ويجيبه تقرير الـ Idefense intelligence services بأن الدائرة كانت على الإسرائيليين، وأن النصر كان لصالح الفلسطينيين؛ إذ اقتحم محترفو العرب والمسلمين 166 موقعا إسرائيليا، بينما اقتحم الإسرائيليون 34 موقعًا عربيًّا فقط، وضمت ضحايا تلك الحرب مواقع تجارية وحكومية وشخصية، ناهيك عن العداء المتزايد للإسرائيليين في غرف الدردشة.
وبلهجة تشاؤمية تنبأ التقرير أن "رحى النزاع الإلكتروني سوف تزداد كلما تصاعد التوتر السياسي في المنطقة، وأن مستقبل ذلك النزاع كئيب، خاصة وأن هذا النزاع قد يجذب بعضا من المجموعات المسلمة الأخرى ذات الحضور القوي على الإنترنت، والتي لم تُدلِ بعد بدلوها في ذاك النزاع""وكلما تعقد ذلك النزاع فإن الوقت المتاح لكل من الجانبين سوف يعطي الفرصة لإعداد فيروسات الكمبيوتر، الأمر الذي لن يقتصر بالطبع على المستهدف من الجانبين، بل سيتطاير شرره ليلحق أضرارا بأجهزة الكمبيوتر في العالم بأجمعه".
وبالرغم من أنه من المعروف - دون مراء - أن أبالسة شرور الكمبيوتر وقراصنته إسرائيليون، فإن "مايكل إيتان" عضو الكنيست الذي يرأس لجنة الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات بالبرلمان الإسرائيلي، نادى بإبرام المعاهدات العالميّة، وتقنين القوانين لعقاب البلاد التي تخفي مجرمي الإلكترونيّات!.
ولكن من الواضح أن مرارة ويأسًا قد أصابا إسرائيل من تلك الإنترفاضة، الأمر الذي جعل الأستاذ موتي سوكولوف من جامعة تلّ أبيب يرد قائلا:" هناك الكثير من القوانين ضدّ إراقة الدّماء والسّرقة، لكنّ أيّ شخص يريد أن يقتل سوف يقتل، وأيّ شخص يريد أن يسرق سوف يسرق، إن الأمر أكثر تعقيداً على الإنترنت، والقوانين وحدها لن تساعد".