مقدمة

في عالم اليوم، أصبح للرأي العام هوية خاصة ومعنى جديد، ينشأ عن الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمع الذي يمثله الرأي العام، الأمر الذي دفع بالمحققين والمفكرين إلى تناول هذا الموضوع ودراسة أبعاده المختلفة وطرح النظريات والرؤى المتنوعة بشأنه.
وعلى الرغم من كون ظاهرة (الرأي العام) ظاهرة جديدة في عالم اليوم، إلا أن الأضواء سلطت عليها باعتبارها علماً مستقلاً في إطار العلوم الاجتماعية ـ السياسية، وذات جذور تاريخية عميقة، جرت الإشارة إليها في الدراسات والأبحاث التي تناولت الديمقراطية البدائية لدى اليونانيين والرومان. وأما اليوم فقد تدخلت عوامل ومؤثرات جديدة في هذه الظاهرة وطرحت تعاريف حديثة عنها، وفي طليعة هذه العوامل واهمها من حيث التأثير عليها، انتشار وسائل الإعلام والاتصال المختلفة على نطاق واسع جداً، وسهولة الاتصالات وتنوع أجهزتها التي جعلت العالم كله بمثابة قرية واحدة من حيث سرعة الاتصالات وانتشار الأخبار، وارتفاع مستوى التعليم في المجتمع مع ازدياد عدد المتعلمين والمثقفين وتنوع الأساليب التي تبعث الحياة والحركة في المجتمع وفي الأبعاد والمجالات المختلفة.
هذه العناصر والعوامل تمنح المجتمع طاقة جديدة وحركة اجتماعية وسياسية وثقافية تعتبر في حقيقة الأمر انعكاساً لإرادة أفراد المجتمع وهي ما يسمونها اليوم بالرأي العام. ومن البديهي انه في الأنظمة القائمة على أساس إرادة واختيار الشعب وتتبنى مبدأ المشاركة السياسية وتوسيع نطاقها، تتجلى ظاهرة الرأي العام بشكل أكثر شفافية وتكون أكثر جدية، بل أن معظم المفكرين السياسيين يرون أن هذه الظاهرة هي ملك خاص للمجتمعات التي تتمتع بالمشاركة السياسية من قبل جميع الاتجاهات والتيارات. وعلى الرغم من إننا لا نستطيع أن ننفي وجود الرأي العام في المجتمعات غير الديمقراطية، إلا أن من الواضح أيضا انه كلما كانت المشاركة الشعبية في الحكم أكثر وأوسع، كان الرأي العام ذا معنى أعمق وحقيقة شاخصة لا يمكن أن ينكر وجودها أحد.
وحيث أن ميزة التغير في المجتمعات من الميزات الرئيسية فأن ظاهرة الرأي العام تتغير بأشكال وصور مختلفة تبعاً لهذا التغيير ، وفي هذه الورقة سوف نقوم بتناول أحد أشكال الرأي العام الحديث وهو الرأي العام الإلكتروني الذي يعتبر أحد الموضوعات الحديثة .




القسم الأول : ماهية الرأي العام
الرأي العام في الأصل مصطلح غربي تم استخدامه من قبل الأنظمة السياسية الغربية
"الديموقراطية " التي كان لديها ولع كبير بالتحدث عن الرأي العام لتؤكد أنحكوماتها معبرةعن رأي الناس لاعن رأيها هي وهذا الأمر استعادته جميعالأنظمة حتى لأنظمة الاستبدادية أخذت تتحدث عن الرأي العام )هاشم الحسيني ،1996 ، ص . 76).

مفهوم الرأي العام : يقول "أو نكون " يمكن لكل إنسان أن يفهم المقصودبالرأي العام إذا ماسئل عنه ، وتجدر لإشارة إلى أن معظم المهتمين بظاهرةالرأي العام يتفقون على أن الرأيالعام ليست له صفة الثبات بمعنى " الزئبقبة " مؤكدين أن طابعه التغير وفقا لما يستجد منمواقف ومفاهيم واحتياجات، وتتعدد التعريفات وتتنوع لدى الباحثين والدارسين لظاهرةالرأي العامويمكننا هنا إيراد أربعة تعريفات للباحثين الغربيين،و تعريفيين لباحثين عربيين:

. - يقول " جيمس برايس " : " الرأي العام هو اصطلاح يستخدم للتعبير عن مجموع
الآراء التي يدين بها الناس إزاء المسائل التي تؤثر في مصالحهم العامةوالخاصة".
- ويعرفه ليونارد توب : " الرأي العام يشير إلى اتجاهات وأفكارالناس حول
موضوع ما حينما يكونون أعضاء في نفس الجماعة الاجتماعية"

. - ويقول فلويد البورت :" إن الرأي العام تعبير صادر عن مجموعة كبيرة من الناس
عما يرونه في مسألة ما ، إما من تلقاء أنفسهم أو بناء على دعوة توجه إليهم تعبيرا
مؤيدا أو معارضا لحالة معينة أو شخص معين أو اقتراح ذي أهمية جماهيرية،بحيث
تكون نسبتهم في العدد من الكثرة والاستمرار كافية للتأثير على أفعالهمبطريقة مباشرة تجاهالموضوع محل الرأي " .

. - أما جيمس يا نج فيعرفه علىالشكل التالي :" الرأي العام هو الحكم الاجتماعي الذي يعبر عن مجتمع واعبذاته وذلك بالنسبة لمسألة عامة لها أهميتها، على أن يتم. الوصول إلى هذاالحكم الاجتماعي عن طريق مناقشة عامة أساسها العقل والمنطق ،
وأن يكون لهذاالحكم من الشدة والعمق ما يكفل تأثيره على السياسة العامة "(عبدالقادر طاش ، 1998 ، ص. 6 (

وتناولتالمؤلفات العربية ظاهرة الرأي العام نذكر من بين التعريفات تعريف الدكتورإسماعيل علي مسعد :" الرأي العام هو حصيلة أفكار ومعتقدات ومواقف الأفرادوالجماعات. إزاء شأن من شؤون تمس النسق الاجتماعي كأفراد أو منظمات ونظم والتييمكن أن يؤثر في . تشكيلها من خلال عمليات الاتصال لتي قد تؤثر نسبيا أو كليافي مجريات أمور الجماعة الإنسانية على النطاق المحلي أو الدولي " .
ويعرفهمختار التهامي : بأنه " الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعي في فترة معينة بالنسبة لقضية أو أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمهاالأساسية مسا مباشرا "(سليمان الحمود ، 1998 ، ص. 42(

ويمكن اعتبار تعريف الدكتور إسماعيل عليمسعد أكثر تعبيرا عن الرأيالعام ، ويمكن أن يؤخذ في الدراسات الخاصة بالرأيالعام وشؤونه .

. هذا وبعد أن تم إيراد التعريفات السابقة، يمكننا التأكيدعلى حقيقة أساسية مهمة عند تناولظاهرة الرأي العام ، وهي إنها ظاهرة تتسمبالديناميكية والتحول بتحولالزمان والمكان وهي غير ثابتة وغير جامدة لأنهاتتعلق بقضايا ومسائل تثير الحواروالجدل والنقاش ، ولذلك فهي لا تتناولالقضايا الثابتة المتفق عليها كالعقائد والثوابتالفكرية والاجتماعية .

أهم مصادر تكوين الرأي العام في المجتمعات :
يمكن أن يساهم في تكوين الرأيالعام كل من :

1- السمات الوراثية
2- الانتماء الديني
3- البيئة الاجتماعيةوالسياسية والاقتصادية
4- الميزات الذاتية للفرد والجماعة
5- التقاليدوالتصورات والموروثات الثقافية
6- وسائلالإعلام "الأداة الإعلامية "منتلفاز وراديو وصحيفة ومجلة.

وليس هناك ثمة شك من أن كل مصدر من المصادرالمذكورة يختلف بحسب قوةارتباط الفرد أو الجماعة بهذه المصادر، ومدىتغلغلها في الروح الفرديوالاجتماعي ومن هنا تختلف الأمم والمجتمعات فيسمات الرأي العام السائد فيها، وفي قوة تأثيره في حياتها وحركتهاالاجتماعية.(عبدالقادر طاش ، مر جع سابق ، ص. 6)
أنواع الرأي العام وتصنيف الرأي العام
يحسن التمييز بين أنواع الرأي العام وذكر تصنيف الرأي العام حتى لا يحدث خلط بين أي منها ، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي :
1- الرأي الشخصي : هو الرأي الذي يكونه الفرد لنفسه بعد تفكير في موضوع معين ويعبر عنه من وجهة نظره دون أن يخشى من الجهر به شيئاً
2- الرأي الخاص : هو الرأي الذي يحتفظ به الفرد لنفسه ، ولا يبوح به لغيره خشية تعريض نفسه لضرر ، ويظهر أثره في الرأي العام في حالة التصويت السري في الانتخابات .
3- رأي الأغلبية : هو تجمع وتكرار الرأي الشخصي لأغلبية الجماعة الفعالة ذات التأثير بما يزيد عن 50% .
4- رأي الأقلية : يمثل ما يقل عن 50% من أعضاء الجماعة .
5- الرأي العام الكامن : هو الذي لم يظهر بعد صراحة وبوضوح وإيجابية .
6- الرأي العام الفعلي : وهو الذي يتحول إلى سلوك فعلي واقعي كإحداث تغير إجتماعي أو كما يحدث في إضراب أو ثورة .
7- الرأي العام المستتر : هو الذي لا يفصح عنه و لا يعبر عنه نتيجة خوف الجماعة من عواقب التعبير لتعارضه مع الأوضاع الدستورية أو القانونية أو مع المعايير الاجتماعية المتعارف عليها .
8- الرأي العام الصريح : هو الذي يعبر عنه صراحة في رأي الناس واتجاهاتهم ، ويعبر عنه جهراً في حرية ودون خوف .
9- الرأي العام الثابت نسبياً : هو الذي ينبع من العادات والتقاليد ويكون ثابتاً نسبياً بمعنى أنه يستمر ولا يتغير إلا بعد وقت طويل .
10- الرأي العام الكلي : وهو الرأي العمومي الجامع الجامع المتوارث عن العوامل الحضارية .
11- الرأي العام الوقتي : هو الذي يظهر حيال مشكلة وقتية وهو غير مستمر .
12- الرأي العام الرائد : هو الذي يؤثر في الإعلام والإعلان ولا يتأثر بها .
13- الرأي العام القائد : هو الذي يمثله القادة والصفوة والمفكرون .
14- الرأي العام المنقاد : وهو رأي السواد الأعظم الذي ينساق للرأي العام المثقف.
15- الرأي العام في المناخ الديموقراطي : هو الذي يقوم في إطار من الحرية والمناقشة والقرارات الجماعية .
16- الرأي العام في المناخ الأوتوقراطي (التسلطي) : هو الذي يقوم في إطار استبدادي ويوجهه عنصر دخيل على الجماعة ، أو له مصلحة تتعارض مع مصلحة الجماعة.
17- الرأي العام المضلل : هو الذي يتكون بتأثير الدعاية والشائعات ودس معلومات غير صحيحة ( حامد زهران ، 2003 ، ص 225-226).
وعليه وبعد إستعراض هذه الأنواع من الرأي والرأي العام وكما أسلفنا ونتيجة للتغير الاجتماعي والتطور العلمي والتكنولوجي ظهر مفهوم جديد وهو ما أطلق عليه الرأي العام الإلكتروني الذي سنتناوله في القسم الثاني.
الرأي العام : تعقيب و ملاحظات أساسية
بغية توضيح ما يتعلق بالرأيالعام من أخطاء وملابسات كانمن المفيد الإشارة إلى بعض الملاحظات الأساسية : .
1- إن بعض الكتاب الذين يتناولون ظاهرة الرأي العام يذهبون في رأيهم إلىأنالرأي هو ما يصل إليه الإنسان أو الجماعة باختياره أو باختيارهم له منبين بديلينمتغايرين أو أكثر ، وأعتقد أن هذا الرأي يخالف الواقعوذلك أن الرأي العام تخصيصا يتعلق بقضاياسياسية واقتصادية وإعلامية وثقافيةواجتماعية تطرح وجهات النظر في وسائل الإعلاموليس بالضرورة أن يكون الرأيالعام هو الاختيار من بين بديلين أو أكثر ، ذلك أن العملية ليست اختياريةوإنما تحصيل حاصل لمجموعة كبيرة من الآراء والأفكار حول قضية ما والاستنتاجوالوصول أخيرا إلى رأي عام له صفة الأغلبية والعمومية .
2-يحصر بعضالباحثين ظاهرة الرأي العام في الأمور السياسية ، ويعدونها ظاهرة سياسيةبحتة ، ولكن النظرة التأملية المتمعنة والمتفحصة لمفهوم " الرأي العام والممارساتالقديمةوالحديثة لهذه الظاهرة تجعلنا نوسع من دائرتها لتشمل الحياةبمختلف جوانبها الفكريةوالثقافية والاجتماعية والسياسية ، ولنا في ذلك سندمن واقع الحياة المعاصرة التي تشابكتفيها هذه الجوانب وتداخلت نتيجة لتعددمصالح لإنسان ، وارتباط بعضها ببعض ، ونتيجة للانتشار الطاغي لوسائل الاتصالبين الناس أفرادا ومجتمعات .
3-يؤخذ الرأي العام في كثير من الأحايينبالاستناد إلى أوساط معينة وتغييب أوساط أخرىعندما لا تتحقق مصلحة جماعة أودولة معينة عند هذه الأوساط مما يجعلها تقوم بتزييفالحقائق ، وتبيان الحالةعلى أن هناك رأيا عاما يؤيد قضيتها أو موقفهابينما الواقع غير ذلك تماما ،هذا الأمر مهم جدا عند تناول موضوع الرأي العام .
4- لم يتم - حتى الآن - الأخذ بالرأي العام إلا في حالات محدودة أو قضايا قليلة جدا ، ولوأنالقضايا قد عولجت بالاستناد إلى الرأي العام لكانت العديد من القضايا العالقة قدحلت فيحينها ، ولكن هناك اعتبارات أخرى غير الرأي العام منها المصالحالسياسية والاقتصاديةللبلدان ذوات العلاقة بالقضية المطروحة ، وتجدرالإشارة إلى أن الرأي العام ليس. بالضرورة أن يكون حلا عادلا لبعض القضاياوذلك أن المصلحة والاعتبارات الأخرىالمذكورة آنفا تأخذ دورها في هذا المجال.
5-يتأثر الرأي العام بالأحداث أكثر من تأثره بغيرها ، فهو شديدالحساسية بالنسبة للأحداثالهامة .
6-يهتم الرأي العام بالقضاياالقائمة أو المتوقع حدوثها قريبا ، وتشغله القضايا الأكثر أهميةعن القضاياالأقل أهمية.
7- كلما أعطيت الشعوب فرصة أكبر في التعليم كان الرأي العامأكثر نضجا وواقعية
وأخيرايمكن القول بأن الرأي العام عبارة عن محصلة جملةمن عوامل وحيثياتومؤثرات ووسائل متعددة تؤثر في قضية معينة أو عدة قضايالها أطرافها المتنازعةوليس بالضرورة أن يكون الرأي العام منصفا - كما ذكرنا - أو صائبا وإنما يتعلق بالعوامل المذكورة أنفا سلبا أو إيجابا.

القسم الثاني : الرأي العام الإلكتروني

التعريف للرأي العام الإلكتروني:
(ارتأَى) الشيءَ: أبصره. ويقال: ارتأَى في الأمر، وارتأَى رأيا في الأمر، (الرأْيُ): الاعتقادُ. و- العقلُ. و- التدبيرُ . و- النظرُ والتأمل، ويقال: رأيته رَأْيَ العين: حيث يقع عليه البصر. والرأْي عند (الأصوليين): استنباط الأحكام الشرعية في ضوء قواعد مقررة. وعلى هذا الأساس فالرأي العام هو ذلك الرأي الذي يعبر عن أكبر شريحة ممكنة من الجماهير يمكنها التعبير عن نفسها في ضوء معطيات معينة.
بالقياس يمكن توصيف تعريف للرأي العام الإلكتروني بأنه ذلك الرأي الذي يعبر عن أكبر شريحة ممكنة من الجماهير في هذا الفضاء الواسع على شبكة الإنترنت والتأثير على أكبر شريحة يمكن الوصول لها .
والرأي العام الإلكتروني في هذا العالم المتخيل هو كل (فكرة - اقتراح - رأي – مشاركة) أو حتى لفظ اعتراض غاضب أو نكتة تعبر عن توجه معين أو تدافع عن أيدلوجية بعينها أو تنبع من تجربة شخصية سواء فردية أو جماعية لتصل إلى نتيجة سياسية عامة يتم توصيلها كرسالة اتصالية من خلال تلك الشبكة (الإنترنت)؛ لتأخذ دورها في المشاهدة والإطلاع من قِبَل كل من يملك أو يستطيع استخدام تلك الخدمة، والإطلاع في الوقت نفسه على تلك القنوات التي يستخدمها الآخرون ليتكون ما نعرفه بـ"الرأي الإلكتروني". وفي هذه الحالة فالرأي الإلكتروني يعبر عن كل الشرائح التي تملك تلك الوسيلة أو الأداة التكنولوجية للتعبير والتواصل والنقاش. ولو عبرنا عن ذلك بالرقميات فإنه يوجد في مصر على سبيل المثال ما لا يقل عن 2 مليون مستخدم لشبكة الإنترنت وفي الأردن ما لا يقل عن سبعماية ألف مستخدم .

ويرتبط تكوين الرأي العام الإلكتروني بمتغيرين أساسيين:
1- مستوى التعليم.
2- تواجد شبكة للاتصالات وخدمات الإنترنت المتوفرة.
ويرتبط بالمتغير الأول عدد من المتغيرات الفرعية؛ مثل عدد المدارس والجامعات والمعاهد العلمية، ومدى توفر ثقافة الإنترنت من خلالها، ومستوى التعليم. أما المتغير الثاني فيرتبط بعدد خطوط التليفون ومدى قوة الشبكة الموجودة، إلى جانب عدد الشركات التي تقدم هذا النوع من و الخدمة، وكذلك مقاهي الإنترنت أو بصفة عامة الأماكن المتاحة للجماهير التي تقدم مثل هذا النوع من الخدمة (الإتاحة - المجانية - السرعة).
وهذا يقودنا إلى سؤال يتوازى مع نظرية الرأي العام التقليدية: فإذا كان هناك سيطرة للدولة على أدوات الرأي العام في المجتمع الحديث، فمن يملك الإنترنت أو يمارس سلطة بديلة أو موازية لما اعتدنا عليه من تحليل في النظرية التقليدية؟
لا أحد في الوقت الراهن "يملك" الإنترنت، صحيح أنه يمكن القول بأن الحكومة الأمريكية ممثلة في وزارة الدفاع ثم المؤسسة القومية للعلوم هي المالك الوحيد للشبكة قانونيا، ولكن بعد تطور الشبكة ونموها لم يَعُد هناك مالك لها، واختفى مفهوم التملك ليحل محله ما أصبح يسمى بمجتمع الإنترنت، كما أن تمويل الشبكة تحوَّل من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص، ومن هنا ولدت عدة شبكات إقليمية ذات صبغة تجارية؛ حيث يمكن الاستفادة من خدماتها مقابل اشتراك، ولا ينفي هذا أن هناك سلطة على الإنترنت، فيمكن للملاك القانونيين إغلاق مواقع لأسباب قانونية، وأحيانا سياسية، ولا شك أن الرقابة على الإنترنت قائمة، إما بشكل هيكلي عبر التحكم في البنية التحتية واحتكار بعض المعارف وعدم قدرة أي أحد على الوصول إلى الشبكة ما لم يكن هناك بنية تحتية أساسية تتيح الكهرباء والوصلات، وهو ما لا يتوافر في الكثير من دول العالم الثالث، ويعرف بالانقسام الرقمي وأحيانا بالتفرقة العنصرية الرقمية.
توسع الشبكة: يقدر عدد المستخدمين الجدد بـ(2) مليون شهريا؛ أي ما يعني انضمام (46) مستخدما جديدا للشبكة في كل دقيقة.
وفي استطلاع أجرته شبكة (NUA) الأمريكية قدر عدد مستخدمي الشبكة عالميا بحوالي (134) مليون مستخدم في العام 1998 (نتوقع أن يكون قد تزايد)، وتصدرت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا الصدارة من حيث عدد المستخدمين الذي بلغ (70) مليون مستخدم.
وفي تقرير صدر بتاريخ 26 أكتوبر 2000 تم التنبؤ بأن عدد المستخدمين للشبكة عام 2005 سيصل إلى حوالي (245) مليون مستخدم، وأن غالبية هذه الزيادة ستكون من خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
كما أوضح مسح ميداني أجري بتاريخ 6 نوفمبر 2000 على (2500) مستخدم للإنترنت في كلٍّ من أمريكا وبريطانيا وألمانيا وأستراليا وفرنسا أن متوسط استخدام الإنترنت (4.2) ساعات أسبوعيا في أمريكا و(3.2) ساعات في أوربا و(3.6) ساعات في أستراليا. وأن (44٪) من مستخدمي الشبكة في أمريكا يتصلون بها من منازلهم مقابل (38٪) في أستراليا و(31٪) في بريطانيا وألمانيا، في حين تبلغ النسبة في فرنسا 16%.
وتوجد عدة وسائل وقنوات للتواصل من خلال الإنترنت:
1- البريد الإلكتروني (EMail): يمكن الحصول على بريد إلكتروني مجانا أو برسوم مالية بسهولة من خلال الكثير من المواقع على الإنترنت، مما يمكننا من التواصل مع الآخرين بمجرد معرفة البريد الإلكتروني، ويتم التواصل برسائل نصية وصور، وكذلك ملفات صوت وفيديو.
2- المجموعات (Groups): وهي منتشرة على الإنترنت، والاشتراك بها مجاني أيضا ويتم من خلال البريد الإلكتروني، والمجموعات تعبر عن فئة معينة لها نفس الاهتمامات، أو تشترك في صفة خاصة، فتوجد مجموعة (مرضى السكر - محبي بلد معين - مشجعي فريق كرة - محبي فنان أو لاعب)، كما توجد مجموعات ذات اهتمامات فكرية وعلمية وأخلاقية ودينية، وأيضا مجموعات ذات توجهات عنصرية ولا أخلاقية، وهكذا...
3- المنتديات وساحات الحوار: وهي بدورها منتشرة في كثير من المواقع، والاشتراك بها أيضا مجاني، ويمكن من خلالها التواصل والحوار والنقاش في كثير من القضايا، إلى جانب غرف الدردشة (chatting)، وغير ذلك من البرامج المخصصة لهذا الغرض؛ ومنها برنامج (Mirc)، وبالتوك (Paltalk).
ومن خلال هذه الوسائل تتم عملية النقاش وتبادل الآراء والأخبار والصور والرسائل الصوتية وملفات الفيديو، والتعرف على المواقع المختلفة على شبكة الإنترنت الواسعة، والتي تنقسم من حيث التصنيف إلى (مواقع شخصية - مواقع تنتمي إلى مؤسسات - مواقع حكومية). وكذلك تتم عمليات استطلاع الآراء ونشر رسائل الاحتجاج، وجمع التوقيعات، إلى غير ذلك من وسائل متاحة الاستخدام من خلال تلك الشبكة.
وجدير بالذكر هنا أن موقع "إسلام أون لاين.نت" يأتي في المركز الثاني للمواقع العربية من حيث أعلى معدلات الدخول حسب تقرير موقع ألكسا (وقت كتابة التقرير) (
http://www.alexa.com/) -وهو موقع يختص بتسجيل ورصد معدلات الدخول للمواقع على مستوى العالم، وعمل إحصائيات عنها- بعد قناة الجزيرة القطرية. ويمكن الإطلاع على التقرير كاملا على هذا الرابط (http://www.alexa.com/site/ds/top _sites?ts_mode=lang&lang=ar).
ومن هنا يمكن الاعتماد على هذه المواقع في التعرف على الرأي العام الإلكتروني لجماهير هذه الشريحة من خلال التقارير والاستطلاعات التي تنبثق من نشاط هذه المواقع.
تأثير الرأي العام الإلكتروني
رغم أن نشاط هذه الشريحة من الجماهير التي تمثل الرأي العام الإلكتروني ينحصر داخل هذا العالم التخيلي، فالأمر لا يتعدى وسيلة جيدة للتواصل والنقاش وتبادل الآراء أو لعمليات التثقيف ونشر الوعي ووسيلة من وسائل نشر مبادئ العولمة ومناهضتها وتحديها في الوقت نفسه، إلى غير ذلك مما يمكن أن نسميه "معارك الأدلجة"، كلٌّ حسب رؤيته ومصالحه وأهدافه، إلا أن الأمر تعدى مؤخرا ذلك الواقع التخيلي بتحول الشبكة إلى ساحة للفعل المدني والتعبوي في أرض الواقع من خلال التشبيك بين الناشطين والتنسيق بينهم، والمثال الواضح على ذلك المظاهرات التي تم تنظيمها ضد الحرب على العراق 15 فبراير 2003 في 80 مدينة كبرى في نفس الوقت، وكذلك المقاطعة للسلع وللدول، التي يتم الدعوة لها من خلال مواقع الإنترنت والتي تؤثر على السلوك الاستهلاكي اليومي، وبطبيعة الحال ينتشر التفاعل من تلك الشريحة الناشطة إلى غيرها من شرائح المجتمع التي قد لا تسمح لها ظروفها بدخول هذا العالم التخيلي -شبكة الإنترنت-، وهذا يؤدي بدوره إلى انتشار أثر الإنترنت إلى أرض الواقع.
مدى مصداقية الرأي العام الإلكتروني
ونختتم بالسؤال لهذا القسم ؛ ما مدى مصداقية الرأي الإلكتروني؟ وهل يعبر بصدق عن فئات بعينها ويمكن قياسه بشكل دقيق؟ ولكي تكون الإجابة عملية يمكن الاستعانة بتقارير ساحة الحوار العربي لموقع "إسلام أون لاين.نت" عن ملف تم تنفيذه عن القضية العراقية على الإنترنت، وأتضح مدى تفاعل الجماهير من مستخدمي الموقع مع القضية العراقية في الفترة من مارس إلى إبريل 2003؛ حيث يتوافق 20 مارس مع بدء الاحتلال العسكري للعراق و9 إبريل مع سقوط العاصمة العراقية بغداد، هذا من ناحية، ومن ناحية تمت عملية الرصد أيضا عن طريق تصنيف الاهتمام، وجاء التفاعل الإنساني مع الشعب العراقي في مقدمة المشاركات، يليها تصفح أخبار المقاومة وأخبار العمليات العسكرية.

وتتمثل قوة الرأي العام الإلكتروني في أنه يمتلك جناحين ويحلق أينما شاء ودون رقابة أو سلطان، ويمكن من خلاله فتح الباب للجميع لحوار هادف خلاق، والسؤال الذي يحتاج الآن للإجابة من الجميع وخاصة القائمين على هذا الأمر هو: كيف يمكن توظيف هذه النقلة التاريخية النوعية في مجال المعلوماتية في مساعي النهضة والتجديد الحضاري للوصول في النهاية إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ حتى لا يتحول الإنترنت من وسيلة للانعتاق ندعو لتوظيفها بقوة بالمعرفة والتواصل مع أطراف وبقاع العالم إلى سجن للعقل في مربع الآلة الاتصالية، وهدر للوقت، وعزوف عن الفعل الاجتماعي المباشر، ومصادرة للفاعلية الحقيقية التي تنفع المجتمع وتطوره وتنهض به، فالأصل هو الإصلاح ونفع الناس رغم كل الاختلافات والتوحد لصالح البشرية وإقرار العدل والكرامة للجميع من خلال عملية التثقيف ونشر الوعي الصحيح، سواء من خلال الإنترنت أو خارجه