[align=justify]الفصل الثاني
( نشوء وتطور المسؤولية الجنائية الشخصية )
( في القانون الدولي )
مرت نظرية المسؤولية الجنائية الشخصية في القانون الدولي بمراحل عديدة بعد أن كانت مجرد فكرة تلمع في أحلام الفلاسفة ورجال الفقه والقانون. ساهم في نشوئها المعاهدات الدولية .حيث تقرر اعتبار بعض الجرائم التي تقع من الأشخاص جرائم دولية . وجرى محاكمة مرتكبيها في بداية الأمر أمام المحاكم الوطنية للدول ذات العلاقة . ثم تم تشكيل محاكم دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي جرائم دولية معينة . وصولا الى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة روما 1998 لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية وجرائم ضد السلام والإنسانية .
يمكن أن نميز مرحلتين في هذا المجال هي دور المعاهدات والمؤتمرات الدولية . ومرحلة الأمم المتحدة .وسنتناولهما في مبحثين .


المبحث الأول

( دور المعاهدات والمؤتمرات الدولية )

إن أهم المعاهدات والإتفاقيات الدولية التي ساهمت بتطوير هذه الفكرة وترسيخها هي :
- مؤتمر فيينا عام 1815 :
عقد مؤتمر فيينا إبان انتهاء الحروب التي خاضها نابليون بونابرت في القارة الأوروبية التي انتهت بهزيمته . حيث ظهرلأول مرة مفهوم الحرب غير المشروعة ومبدأ قيام المسؤولية الجنائية الشخصية بأبسط صورها آنذاك , وقد تقرر نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة عقاباً له .
- معاهدة حماية أسلاك التلغراف لعام 1884 :
بموجب هذه الاتفاقية يعتبر كل اعتداء على أسلاك التلغراف الممدودة عبر البحار من الجرائم الدولية التي توجب المسؤولية الجنائية الشخصية بحق مرتكبها . ويعود أمر محاكمة المخالفين للمحاكم الوطنية للدول المتضررة.
- منع تجارة الرقيق :
بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما سبقه من معاهدات ذات صلة يعتبر جريمة دولية وتتحقق بحق مرتكبيها المسؤولية الجنائية الشخصية .
- تجارة المخدرات :
عقد بشأن مكافحتها عدة مؤتمرات 1936-1961 حيث تعتبر تجارة و...وصناعة المخدرات جريمة دولية بموجب القانون الدولي حيث تبرز فيها مسؤولية الفرد الجنائية الشخصية .
- جريمة تزوير العملات الأجنبية :
عقد بشأنها مؤتمر جنيف لعام 1929 حيث تعتبر جريمة دولية نظرا لأنها تضر بمصالح الدول الأخرى وهي تقوم على أساس المسؤولية الجنائية الشخصية لمرتكبيها .
- المعاهدات الخاصة بجرائم الحرب :
معاهدات لاهاي لعام 1899-1907 ويقصد بها الأعمال العدوانية التي يرتكبها أفراد القوات المسلحة أو غيرهم ممن يخالفون قواعد القانون الدولي المتعلقة بعادات وقوانين الحرب فهي تتضمن خضوعهم إلى المسؤولية الجنائية الشخصية في القانون الدولي .
اتفاقيات جينيف الأربعة لعام 1949 :
والبروتوكولان الملحقان بها المتعلقان بنقل وحماية الجرحى والمرضى من الميدان وحماية المدنيين حيث تقرر فيها مساءلة الأشخاص الذين يخالفونها بشكل شخصي 0
معاهدة فرساي وإنشاء محكمة لايبنرغ :
بانتهاء الحرب العالمية الأولى ارتفعت الأصوات تنادي بمعاقبة كل من ارتكب عملاً مخالفاً لقواعد وعادات الحرب حتى وصل الأمر إلى المطالبة بمحاكمة رؤساء الدول الذين كانوا سبباً لها 0 وقد اتفق بشأنها على توفر المسؤولية الأخلاقية لرؤساء الدول عن الحرب 0 وثار الخلاف حول – تحديد مسؤوليتهم القانونية عن جرائم الحرب التي ارتكبوها النقاط التالية :
ـ كيفية تشكيل المحكمة التي تملك محاكمتهم 0
ـ تحديد القانون الذي بموجبه يمكن محاكمتهم 0
انتهى الجدل إلى توقيع معاهدة فرساي حيث جاء في المادة /227/ منها على ضرورة تشكيل محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب سميت بمحكمة لايبزغ التي تعتبر سابقة دولية في هذا المجال .ومع أن محكمة لايبنرغ فشلت في محاكمة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني فإنها تعتبر منعطفاً هاماً في مجال تطوير القانون الدولي وفي مجال تحقيق المسؤولية الجنائية الشخصية 0 وقد تلاها على نفس المبدأ معاهدة واشنطن لعام 1922 0

معاهدة لندن وإنشاء محاكم نورمبرغ عام 1945 :
كذلك الأمر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تعالت الأصوات مجدداً إلى ضرورة محاكمة الأشخاص الذين كانوا سببها لارتكابهم جرائم بحق الإنسانية ، فصدر أولا تصريح موسكو عام 1943 بوجوب مسؤولية هؤلاء عن الحرب ، و بعد إنتهاء الحرب أبرمت الدول المنتصرة مع الدول الخاسرة معاهدة لندن 1945 التي جاء في المادة الأولى منها :
(( تؤلف محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الذين لا يمكن تحديد مكان ارتكاب جرائهم من الناحية الجغرافية وسواء كان الاتهام يقع عليهم بصفتهم الشخصية أو كونهم موظفين أو أعضاء منظمات جماعية أو في كلا الصفين ))

لقد جاءت معاهدة لندن بشيء جديد لم تأت به معاهدة فرساي وهو ماجاء في نص المادة السادسة منها حيث تقرر تأليف محكمة نورمبرغ لتحديد المسؤولية عن جرائم أخرى إضافة لجرائم الحرب التي عالجتها محكمة لايبنرغ، وهي الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والجرائم المرتكبة ضد السلام ، كما نص الميثاق على قيام المسؤولية الشخصية ضد موظفي الدولة ورؤسائها الذين ارتكبوا مثل هذه الجرائم 0
ثم جرت محاكمات لاحقة لها بين عامي 1946 – 1949 سميت بالإجراءات اللاحقة وقد صدر عن محاكم نورمبرغ أحكاماً قانونية اعتبرت فيما بعد أساساً تبنتها الأمم المتحدة وضمنها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة 0


المبحث الثاني

( دور الأمم المتحدة )
(في تحقيق المسؤولية الجنائية الشخصية في القانون الدولي العام )
بذلت هيئة الأمم المتحدة جهوداً جبارة في هذا المجال . حيث كان الدور الأهم هو الذي قامت به الجمعية العامة للأمم المتحة اذ تبنت الجمعية العامة بالقرار 177/ 11 لعام 1947 مبادئ محكمة نورمبرغ فحصرتها في سبعة مؤادها انعقاد المسؤولية الجنائية لكل شخص ارتكب جريمة دولية 0التي أنتهت إلى إنجاز النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة . أما مجلس الأمن فانتهى الى تشكيل بعض المحاكم الدولية الخاصة.

1 ـ مساهمة مجلس الأمن :

ساهم مجلس الأمن الدولي بشكل فعال وواضح في هذا المجال حيث شكل محاكم دولية خاصه مؤقتة لمحاكمة بعض الجرائم تنتهي بانتهاء محاكمة مرتكبيها وهي :

آ ـ المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة : قام مجلس الأمن تبعاً للسلطات المخولة له بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حالات تهديد السلم والأمن الدولي أو الإخلال بهما أو حالات وقوع العدوان . بإصدار القرار رقم ( 827) لعام 1993 القاضيبإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم جسيمة بحق الإنسانية لمخالفتهم قواعد القانون الدولي الإنساني في دولة يوغسلافيا السابقة ، باعتبار أن اتخاذ مثل هذا الإجراء بعد احد التدابير غير العسكرية التي يمكن خلالها تأكيد حفظ السلم والأمن الدولي 0

ب ـ المحكمة الجنائية الدولية لراو ندا : لقد جرت مذابح كبيرة في راو ندا عام 1994 راح ضحيتها العديد من السكان المدنيين فأصدر مجلس الأمن القرار رقم 955 لعام 1994 الذي تضمن إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية في راو ندا ، حيث كان الصراع أهلياً وليس دولياً كما هو في حال محكمة يوغسلافيا 0

جـ ـ المحكمة الدولية الجنائية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري :
أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1757 الخاص بتشكيل محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي جريمة اغتيال وزراء لبنان السابق رفيق الحريري 0
وتعتبر هذه الخطوة سابقة جديدة في المجال الدولي إذ أن هذه المحكمة شكلت من اجل محاكمة مرتكبي جريمة لا تشكل أياً من جرائم الحرب أو العدوان أو أياً من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية أو ضد السلم الدولي ،وإننا نرى أن دوافع إنشائها ليست في الحقيقة إيقاع العقاب , بل الضغط على بعض الدول من أجل تحقيق معادلات سياسية في منطقة الشرق الأوسط .
وقد قام البعض بالمناداة لتشكيل محكمة مماثلة لمحاكمة قتلة رئيسة وزراء باكستان السابقة السيدة بنظير بوتو 0 وبالرغم من التشابه بين الجريمتين إلا أن المواقف السياسية لبعض الدول العظمى في العالم إنحازت إلى محاكمة قتلة رفيق الحريري فقط .

2 ـ جهودالجمعية العامة للأمم المتحدة :
انتهى سعي المجتمع الدولي إلى إقرار المحكمة الجنائية الدولية من أجل الحفاظ على مقومات الأمن والسلام الدولي .وبذلك يكون نظامها الأساسي أول مدونة جنائية دولية موضوعية إجرائية عقابية ، وأول محكمة جنائية دائمة في التاريخ الإنساني 0
ورغم ذلك فهي بحاجة إلى المزيد من السعي من أجل تجاوز بعض العيوب والنواقص التي تعتريها وهي:

1 ـ النظام الأساسي لها مجرد معاهدة دولية . وبذلك فهي ليست ملزمة للدول من أجل الارتباط بها رغماً عنها ، كما أن شأنها شأن كل القواعد التي تطبق على المعاهدات الدولية من حيث التفسير والتطبيق الزماني 0
2 ـ إن سلطة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة لاتتعدى أطرفها إلى غيرهم من الدول 0
3 ـ ان اختصاص المحكمة لا يشمل جميع الجرائم الدولية التي تشكل تهديدا للأمن والسلم الدولي .خاصة الجرائم المعلوماتية التي ترتكب عبر شبكة الأنترنت . والتي اعتبرها مجلس أوروبا من الجرائم الأشد خطورة . بموجب اتفاقية بودابست لعام 2001 للجرائم الالكترونية والبرتوكول الإضافي الملحق بها المتعلق بتجريم الأفعال ذات الطبيعة العنصرية وكراهية الأجانب التي تشكل انتهاكا لحقوق الإنسان وتهديدا لسيادة القانون والاستقرار الديموقراطي ، التي ترتكب عبر أنظمة الكومبيوتر.حيث اعتبر مجلس أوروبا أن التغييرات التي أحدثتها عمليات الترقيم والتقارب واستمرار عولمة شبكات الكومبيوتر وما ينتج عن ذلك من جرائم الكترونية خطيرة تفرض على دولهإتباع سياسة جنائية مشتركة تهدف إلى حماية المجتمع من الجريمة الالكترونية 0

ويمكن أن تعد هذه الاتفاقية مساهمة حقيقية في تطوير القانون الدولي وفي تحقيق المسؤولية الجنائية الشخصية في القانون الدولي خاصة في مجال جرائم الانترنت كونها تختص بشكل كامل فيها ، وقد تضمنت نصوصها حث الدول الأوروبية وغيرها إلى الارتباط بها من اجل تبني سياسة جنائية موضوعية وإجرائية وقضائية وتسهيل التعاون الدولي فهي :

1 ـ تدفع الدول إلى إصدار النصوص القانونية الموضوعية على الصعيد الوطني لتأثيم الأعمال الموجهة ضد سرية منظومات الكومبيوتر وشبكاته 0وجرائم إباحية وجرائم اقتصادية وجرائم ضد حقوق النشر والتأليف وجرائم تنال من بيانات ومستندات الكومبيوتر الخاصة بالأفراد والدولة 0وجرائم التهديد والقتل والإرهاب , وتأثيم أعمال المساعدة أو التحريض أو الشروع في ارتكابها( الفصل الثاني – القسم الأول منها)0
2 ـ تدفع الدول إلى إصدار النصوص القانونية الإجرائية على الصعيد الوطني من إجل تحديد السلطات المختصة في الادعاء والتحقيق والمحاكمة ( الفصل الثاني – القسم الثاني)0
والعمل على وضع قواعد عامة للتعاون الدولي لتأمين مقتضيات أعمال التحقيق والتفتيش والمحاكمة مثل :
( تسهيل تسليم المجرمين – تبادل المعلومات والخبرات الفنية والتشريعية ) 0
على الرغم من أن نصوصها غير إلزامية لأطراف المجتمع الدولي للانخراط فيها . إلا أنها خطوة مهمة جدافي توجيه الدول إلى تحديد النصوص التشريعية اللازمة وتقرير التعاون الدولي ومحاكمة المجرمين أمام المحاكم الوطنية للدول ذات العلاقة أو أمام قضاء دولي تبعاً لرغبة الدول وإرادتها عبر اتفاقيات ومعاهدات تستطيع ابرامها لأجل ذلك 0
إن تطور المعلومات وتزايد الاعتماد على شبكة الانترنت في كافة المجالات من قبل الأفراد والدول سيرافقه بالتوازي زيادة في خطورة فاعلية الجريمة الالكترونية وتطوراً في تقنيات ارتكابها الأمر الذي يوجب على المجتمع الدولي ـ لاعتبارات تقنية فنية ,ولطبيعتها الخاصة , ولمقتضيات تحقيق العدالة والمساواة وعملا بمبادئ القانون الجنائي الدولي ـ أن تجري محاكمة مرتكبي أشد أنواعها خطورة أمام محكمة دولية جنائية دائمة 0
[/align]