أما عن قصة غرام كليوباترا وماركوس أنطونيوس التي استغرقت اثنتي عشرة سنة من 42 إلى 30ق.م فقد نالت حظًا وافرًا من الشهرة ولا تحتاج إلى المزيد من التفصيل. أما ما يعنينا من هذه القصة في هذا السياق فهو أنه أيًا كان دور العاطفة فيها فإن بها أيضًا دهاءً سياسيًا كامنًا يتمثل في اختيار ماركوس أنطونيوس. فقد كان كلاً من أوكتافيان وأنطونيوس على علم بأن حسم موضوع السيطرة على روما وإمبراطوريتها لصالح طرف منهما أمر حتمي لا يمكن تفاديه، وباختيار مصر وموارد الشرق بالإضافة إلى زوجة مصرية يكون أنطونيوس قد حصل على قيادة النصف الأكثر ثراءً بكثير من حيث الرجال والغنى والثروة من العالم الروماني، ولكن في شهر سبتمبر من عام 31ق.م لقى كل من أنطونيوس وكليوباترا هزيمة ساحقة في موقعة أكتيوم البحرية في غرب بلاد اليونان، وتعزى هذه الهزيمة إلى خطأ في الحسابات الاستراتيجية لكل منهما. وعقب الهزيمة فرّ كل من أنطونيوس وكليوباترا إلى مصر وتعقبهما أوكتافيان، ولكن أنطونيوس انتحر ثم تبعته كليوباترا في ذلك بدلاً من أن يقعا أسرى في أيدي أوكتافيان.

وهكذا أصبحت مصر ولاية رومانية وانتهى حكم أسرة البطالمة في مصر 30ق.م ومن هنا عيّن أوكتافيان (أغسطس) حاكمًا رومانيًا على مصر وأقام بها إدارة رومانية وجيش احتلال روماني ليضمن الهدوء والأمن العام في البلاد.


وفي عام 27ق.م مرّ حاكم روما بتحول مخطط بعناية حيث طرح وألقى شخصية أوكتافيان جانبًا وبرز في شخصية أغسطس وهو أول السلسلة التي نطلق عليها أباطرة الرومان بالرغم من أن التوصيف الذي اختاره أغسطس لنفسه وللأباطرة الآخرين من بعده هو لقب Princeps أو "المواطن الأول". وقد ظل أغسطس يحكم لمدة واحد وأربعين عامًا نفذ خلالها عددًا كبيرًا من الإصلاحات الدستورية والاجتماعية في المجتمع الروماني وهو أمر يتفق مع ما يميز أغسطس من حرص على إحياء تقاليد الأسلاف العظام.

أما فيما يتعلق بالمدى الذي وصل إليه في تغيير الأوضاع التي كانت بمصر فإنه محل جدل ونقاش بين العلماء ولكن يبرز إجماع بين العلماء حول الأطر التالية:

بالنسبة لأكثرية السكان من المزارعين فإن حياتهم في قراهم استمرت بلا تغيير جوهري باستثناء أن عبء الضرائب على كاهلهم ازداد ثقلاً لأن الرومان كانوا أكفأ في عملية جباية وتحصيل الضرائب من الحكومات الضعيفة للملوك البطالمة المتأخرين. أما فيما عدا ذلك فإن الحياة في القرى استمرت بطرقها التقليدية القديمة إذ استمر النيل في الإفادة بفيضانه السنوي الذي يهب الأرض الخصوبة ويرتفع هذا الفيضان في بعض الأعوام وينخفض في أعوام أخرى وأحيانًا يكون متوسطًا وملائمًا لمحصول جيد أو وفير.


أما بخصوص التنظيم والممارسات الإدارية المحلية والمركزية فإنها هي التي أكسبت مصر منذ بداية حكم أغسطس طابع الولاية الرومانية. وكان على مصر – في ظل التنظيم الإمبراطوري الكبير – أن تزود روما بثلث احتياجاتها السنوية من الحبوب اللازمة لإطعام الشعب الروماني. ولكي يضمن أغسطس عدم تمزق مصر أو انحرافها عن الهدف السابق (تزويد روما بثلث ما تحتاج إليه سنويًا من الحبوب) فقد جعل منها ولاية أشبه ما تكون بضيعة خاصة بالإمبراطور. فعلى النقيض من الولايات الأخرى التي كان يتولى الحكم فيها رومان تبوأوا مكانًا عليّا وارتقوا في سلم الإدارة الرومانية حتى وظيفة قناصل ثم تركوا القنصلية وأصبحوا "قناصل سابقين Proconsul " فإن حكم مصر أسند إلى موظفين أقل يطلق عليهم لقب "الوالي Praefectus " وكان يعتبر "قائمًا بالأعمال" يعينه الإمبراطور كممثل شخصي له. وجرى العرف منذ عهد أغسطس على أنه يكون والي مصر من طبقة الفرسان وهي الطبقة التي شكلت منذ بداية حكم الإمبراطور أغسطس العمود الفقري والمتين والحصن الصلب في تأييده. وقد اشترط أغسطس ألا يسمح للرومان من طبقة السناتو أو حتى من الشخصيات البارزة العامة من طبقة الفرسان بدخول مصر إلا بعد الحصول على إذن صريح بذلك من الإمبراطور في روما. وربما يكون من بين التفسيرات لهذا الإجراء أن أغسطس لم يشأ أن يحط من قدر ولاته في مصر في نظر رعاياهم من خلال الزيارات المتكررة من جانب شخصيات رومانية تفوقهم وتعلوهم قدرًا فأراد من خلال هذا ألإجراء أن يجنبهم ذلك الحرج. ولكن الدافع الأكبر لوضع هذه القيود أمام علية الرومان من زيارة مصر هو استبعاد الزعماء والقادة المناوئين من ذوى النفوذ وأن يتحاشى إمكانية أن تصبح مصر مرة أخرى قاعدة للمعارضة السياسية تتمتع بمساندة ودعم عسكري كما حدث مع ماركوس أنطونيوس من قبل. وكان الوالي الروماني في مصر – في نظر رعاياه من المصريين – يتمتع بأبهة وسلطان لا نظير له، وكان يعد "نائب الملك" ويمثل "فرعونهم" المقيم على البعد في روما.


ومن ناحية التقسيم الإداري فإن أغسطس أبقى على التقسيم الإداري الذي كان سائدًا في مصر من قبل وهو حوالي ثلاثون إقليمًا أو "نوموس" (باللغة اليونانية لغة الإدارة في مصر في العصرين البطلمي والروماني) وكان يحكم كل نوموس حاكم يطلق عليه لقب "ستراتيجوس" (بمعنى حاكم وقائد). ولكن في ظل هذا الإطار الثابت الذي لم يتغير – كما قد يبدوا – فإن أغسطس أحدث تغييرًا جذريًا في تركيبة القوة أو النفوذ، فتحت حكم البطالمة كان الاستراتيجوس يحظى بسلطات عسكرية ومدنية، أما أغسطس فقد جعل من هؤلاء الحكام للأقاليم المصرية موظفين مدنيين تمامًا وجردهم من سلطاتهم العسكرية.


ومن عصر أغسطس (بداية الحكم الروماني لمصر) فصاعدًا كانت السلطات العسكرية في يد الضباط العسكريين فقط الموجودين في خدمة القوات المسلحة الرومانية. وإذا كان الجيش تحت حكم البطالمة يتألف من جنود مزارعين يعيشون مع أسرهم على إقطاعات من الأرض وكان يمنحها لهم الملوك البطالمة ويستدعون للقتال وقت الحاجة، فإن وحدات الجيش الروماني كانت موزعة بشكل استراتيجي في أنحاء الولاية على النمط الروماني في صورة معسكرات محصنة أو نقاط حدودية. وكانت هناك فرقة رومانية متمركزة عند نيكوبوليس (مدينة النصر) إلى الشرق من الإسكندرية لتأمين الإسكندرية التي كانت أخطر بؤرة للقلاقل تحت حكم الملوك البطالمة الأواخر، وفرقة أخرى عند بابيلون على نهر النيل بالقرب من منف (ممفيس) باعتبار منف هي مفتاح الاتصالات بين مصر العليا ومصر السفلى. كما كانت هناك كتائب صغيرة ترسل بالتناوب للقيام بمهام الحراسة في عدد من الأماكن الرئيسية الهامة كالحدود المناجم والمحاجر ومحاور الطرق الهامة ومستودعات تخزين الحبوب. ولنا عودة بعد قليل إلى دور الجيش الروماني في إخضاع بقية أرجاء مصر وحملاته في الحدود المجاورة في الجنوب والجنوب الشرقي.