المسيحية في مواجهة اضطهادات الأباطرة:

كان على المسيحية في مصر أن نواجه تحديًا قويًا تمثل في أمرين، وأولهما هو خوض المعركة ضد الأفكار الوثنية على الجانب الفكري والعقدي، ثانيهما هو مواجهة مقاومة السلطات الرومانية التي بدأت تنظر بعين الخوف إلى هذه الديانة فعمدت إلى سياسة الاضطهاد. وقد سبق أن أشرنا في الفصل السابق إلى أن سياسة الرومان الدينية أخذت بمبدأ التسامح مع كل العقائد، ولم يؤثر عن الرومان التعصب لعقيدة ما أو اضطهاد أخرى لأسباب عقدية. وقد نزلت الاضطهادات الرومانية بالمسيحية إما لأسباب خلقية حين كان أعداؤها يروجون حولها الشائعات استعداء للسلطة عليها، باتهام معتنقيها بممارسة طقوس سرية سحرية ونشاطات هدامة لممجتمع، أو لأسباب سياسية ـ وهذا هو السبب الأهم ـ وهو خوف الأباطرة من المسيحية على وحدة الإمبراطورية. فلقد أصبح من الأمور المقررة في سياسة الرومان أن الولاء لدين الدولة الرسمي هو بمثابة الرباط القوي الذي يشد أجزاء امبراطوريتهم التي تضم عديدًا من العناصر والأجناس المختلفة أصلاً ولغة وثقافة وكان دين الدولة الرسمي قد تشكل في مبدأ عبادة الإمبراطور الحاكم حيث أصبحت هي عنوان ولاء الشعوب لهذا الإمبراطور وتكريسًا في الوقت نفسه لسلطته المطلقة. ولما كانت المسيحية ترفض كل الديانات القديمة فإنها رفضت بالطبع مبدأ قدسية شخص الإمبراطور، واعتبرت من وجهة نظر السلطات حركة مناهضة للنظام الإمبراطوري المتوارث، ومن ثم كانت خطرًا ينبغي استئصال شأفته.


وقد شهدت المسيحية قبل اضطهاد دقلديانوس الأعظم سلسلة من الاضطهادات في عهد نيرون (عام 64 وعام68) ثم في عهد تراجان (عام 106) ثم عهد سبتيميوس سفيروس (عام202) ثم ديقيوس (حوالي عام 250) ثم فاليريان (عام 257). غير أنه يمكن القول بأنه قبل سفيروس كانت الاضطهادات في مصر حركات شعبية قامت بها جموع الوثنيين أو اليهود ضد المسيحية، وكانت السلطة المركزية الرومانية أداة لتنفيذ الاضطهاد فحسب. لكنه منذ اضطهاد سفيروس في عام 202 أصبحت هذه سياسة رسمية للأباطرة وقد صدر في ذلك العام مرسوم يحرم اعتناق المسيحية ويوقع أقصى العقوبة على ذلك. وفي تلك الظروف اضطر كليمنت الإسكندري رئيس مدرسة الإسكندرية المسيحية إلى ترك المدرسة إلى فلسطين حيث توقف هذه المدرسة فترة. وقد حرم المسيحيون عندئذ من الامتياز الذي كان يتمتع به اليهود في الإسكندرية وهو الإعفاء من حرق البخور أمام تمثال الإمبراطور، كما لقى كثير منهم حتفهم. وجاء الاضطهاد الرسمي الكبير التالي على يد دقيوس الذي أصدر في عام 250 مرسومًا بإلزام كل مواطن بتقديم شهادة من السلطات تفيد أن صاحبها قام بتقديم القرابين إلى الآهلة الوثنية. وقد وصلتنا مجموعة من هذه الشهادات التي عرفت باسم Libelli جاءت من إقليم الفيوم بمصر. وقد استمر الاضطهاد في عهد ڤاليريان إلى أن أخلد المسيحيون إلى فترة من الهدوء النسبي حين أصدر الإمبراطور جاليتوس Galienus مرسومًا بمنحهم الحرية في ممارسة عبادتهم، وأتاحت هذه السنوات من الهدوء الفرصة لانتعاش المسيحية في مصر من حيث زيادة عدد معتنقيها وعدد الكنائس في نواحي مصر.


غير أن الاضطهاد عاد أعنف ما يكون على عهد دقلديانوس فكان أعظم محنة تعرضت لها المسيحية في سائر أنحاء الإمبراطورية وفي مصر بصفة أخص. فقد تصادف أن حاكم مصر حين صدرت الأوامر بتعقب المسيحيين كان متطرفًا في عدائه للمسيحية فجاء الاضطهاد في مصر أقسى منه في كثير من الولايات. وكان دقلديانوس يصدر عن ذات السياسة التي صدر عنها أسلافه في مقاومة المسيحية بوصفها خطرًا على وحدة الإمبراطورية. وقد مر بنا أن كل ما قام به هذا الإمبراطور من اصطلاحات إدارية واقتصادية كان يهدف إلى توحيد الإمبراطورية بشتى السبل، ونضيف هنا أنه في مجال الديانة وضع دقلديانوس مبدأ جديدًا هو زيادة صفة القداسة لشخص الإمبراطور، وفي هذا السبيل أطلق على نفسه صفة جوفيوس Jovius منسوبًا إلى الإله جوبيتر كبير الآلهة عند الرومان وأحاط نفسه بهالة ضخمة من احترام رعاياه ورسوم البلاط. وكان لابد أن يكون استياؤه من رفض المسيحيين لعبادة الإمبراطور أشد من استياء أسلافه.


غير أن الجدير بالملاحظة أن دقلديانوس ظل سنوات غير قليلة من بداية حكمه لا يتعرض للمسيحيين بأذى صارخ. وبدأ الأمر هينًا في عام 298 وكانت بداية الأحداث ملابسه عارضة تتصل بأحد الطقوس الدينية الروتينية كان يجري في القصر الإمبراطوري قبيل حرب كان دقلديانوس والقيصر جاليريوس يعد أن لها ضد الفرس حيث لاحت نذر السوء في الطقوس واعتبر المسيحيون الذين حضروا إجراء الحفل مسئولين عن هذه النذر السيئة. وصدر قرار بأن يقوم كل موظفي البلاد بتقديم القرابين إلى الآلهة الوثنية تبرءًا من المسيحية وإلا طردوا من الخدمة. ويمكن أن نعتبر هذا القرار اتجاهًا إلى تطهير الجيش والإدارة من العناصر المسيحية، كما يمكن ـ اعتمادًا على رواية لكتانتيوس ـ أن نعزو التشدد في معامل المسيحيين إلى القيصر جاليريوس.


وفي فبراير عام 303 صدر قرار في نيقوميديا بأن تسلم كل نسخ الكتاب المقدس ليجري حرقها. وأن تدمر كل الكنائس وتمنع كل الاجتماعات لممارسة الشعائر. وأعقب ذلك مرسوم بتجريد المسيحيين من رتبهم ومناصبهم. وعندما شب حريق في القصر الإمبراطوري في نيقوميديا أتهم المسيحيون بتدبيره وصدر قرار بالقبض على الأساقفة والقساوسة، وأعقبت هذه المراسيم والقرارات أعمال بشعة من القتل والصلب استشهد فيها أعداد غفيرة من المسيحيين. وقد استمر هذا الاضطهاد نحوًا من أربع سنوات بلا انقطاع.


وفي غمرة هذه الأعمال العنيفة من الاضطهاد، وفي أول مايو عام 305 وأمام حشد كبير من جنوده الذين كان يستعرضهم في نيقوميديا أعلن دقلديانوس اعتزاله الحكم، وكان عندئذ يعاني من مرض خطير. وفي اليوم نفسه اعتزل أيضًا ماكسيميان امبراطور الغرب ليصبح القيصران جاليريوس وكنستانتيوس امبراطورين. وقد يكون اعتزال دقلديانوس صادرًا من رغبته في أن يخلد للراحة بعد إصابته بذلك المرض الخطير، ربما يملكه في الوقت نفسه إحساس داخلي بأن مرضه هو لعنة أصابته من جراء ما نزل بالمسيحيين من عذاب هائل. وتحملنا رواية لاكتانتيوس على الاعتقاد بأن اعتراضات دقلديانوس على عنف الاضطهاد لم تفلح في مقاومة تصميم جاليريوس على إبادة المسيحية. وعلى أية حال فإن الاضطهاد استمر بعد اعتزال دقلديانوس بصور متفاوتة حتى اضطر جاليريوس إلى إيقافه في عام 311 وهو ذات العام الذي قبض فيه على بطرس أسقف الإسكندرية وأعدم بأمر الإمبراطور فكان بطرس بذلك أخر الشهداء في الكنيسة المصرية.