وتأتي وظيفة الكوزمينيس Kosmetes في المكان الثالث في تلك الوظائف التي يبدو أنها كانت تندرج في سلك خاصة متسلسل الأعلى منها فالأدنى، وهذا أمر نستطيع أن نستدل عليه من عدد حراس الشرف المخصصين لمرافقة كل موظف، وفي هذه الوظيفة الثالثة نجد عدد هؤلاء الحراس اثنين. ويمكن أن نطلق على صاحب هذه الوظيفة اسم المشرف على شئون التعليم لأنه كان مسئولاً عن تعليم الإفيبوي (الشباب) في الجمنازيوم وعن كل الأمور المتعلقة بنظام حياة هؤلاء الشباب فيما كان يعرف (بالأفبيا) Ephebeia.

وهناك وظيفة مراقب الأسواق Agoranomos التي يبدو اختصاصها واضحًا من اسمها وهو الإشراف على عمليات البيع والشراء في الأسواق وربما مراقبة الموازين والمكاييل. ولعل هذه الوظيفة تشبه في هذه الناحية وظيفة الإيديل عند الرومان أو وظيفة المحتسب في النظم الإسلامية، كذلك يبدو هذا الموظف مشرفًا على توثيق العقود اليونانية لقاء أجر كان يؤول في الغالب إلى خزانة محلية في عاصمة الأقاليم وكان يرافق هذا الموظف حارس شرف واحد.


ويلي هذه الوظيفة وظيفة المشرف على شئون التموين Eutheniarchos والأغلب أنه كان ذا اختصاص عام هو الإشراف على تموين عاصمة الإقليم بالغلال والمواد الغذائية وتأمين المياه والوقود، والإشراف على توزيع هبات القمح المجانية. ويلاحظ أنه لم يرد لهذه الوظيفة ذكر في مصر قط قبل العصر الروماني. أما الوظيفة السادسة فكانت تحمل لقب رئيس الكهنة Archiereus وكانت مهمتها الرئيسية الإشراف على مراسم الاحتفالات الخاصة بعبادة الإمبراطور في مصر على غير ما يوحى به لقبها من أنه كان كبيرًا للكهنة إذا لم يكن له شأن بأي ديانة أخرى يونانية كانت أم مصرية. وكان يرافق هذا الموظف حارس شرف واحد.


ولابد لنا هنا من تعليق نخص به نظم الإدارة المحلية الروماني على مستوى عاصمة الإقليم Metropolis وهو نظام رأينا فيه نوعين من الوظائف أحدهما يمثل السلطة المركزية ويتقاضى أصحابه أجورًا والأخر مناصب بلدية شرفية. ولقد أمكن لنظام الإدارة المحلية في بداية الأمر أن يؤدي أغراضه بنجاح طيلة القرن الأول الميلادي وجانب من القرن الثاني، حيث أخذ عندئذ عن قصور وعيوب بالغة. وقد نجمت هذه العيوب أساسًا على عدم مراعاة توزيع أعباء الحكم توزيعًا عادلاً. ففي د اخل الإطار الطبقي العام الذي أوجده الرومان في مصر والذي سنفرد له حديثًا تاليًا. كان سكان عواصم الأقاليم يتألفون من ثلاث فئات أولاها من سكن هذه العواصم من المواطنين الرومان ومن مواطني مدينة الإسكندرية (أي المتمتعين بحق المواطنة الإسكندرية، وكان هؤلاء أقلية متمتعة بامتيازات مختلفة) وتلي هذه الفئة الممتازة فئة يمكن القول بأنها تمثل الطبقة الوسطى من مجتمع عواصم الأقاليم ممن عرفوا باسم سكان العواصم Metropolitai وكان هؤلاء إما من أصل يوناني أو مصريين اختلطوا بالعنصر اليوناني ونالوا حظًا من ثقافته، ثم تأتى أدنى الفئات من حيث الوضع الاجتماعي وهم المزارعون من أهل القرى.


فأما الفئة الأولى من المواطنين الرومان فكانوا يعفون من كل الأعباء، وأما المواطنون الإسكندريون فكان نصيبهم من عبء الإدارة المحلية في الأقاليم محصورًا في تولي المناصب الهامة مثل مدير الإقليم (الاستراتيجوس) والكاتب الملكي، وهي مناصب علمنا أن شاغليها كانوا يتقاضون راتبًا سنويًا، لكن هؤلاء كانوا دائمي التهرب من تولي الوظائف غير المأجورة وهي المناصب البلدية الشرقية، وكذلك من القيام بالوظائف والخدمات الإجبارية التي عرفت باسم Leitourgia من باب أولى. وكانوا غالبًا ما ينجحون في الإفلات من هذه الأعباء. ولعل ما كان يساعدهم على ذلك هو تمتعهم بحق المواطنة الإسكندرية (بالنسبة لغير الرومان) وهو ما كان يساعدهم بالتالي على إثبات عدم انتمائهم إلى سكان عواصم الأقاليم، لأن المبدأ الأساسي في إسناد الوظائف البلدية أن يكون الشخص مسجلاً في قوائم سكان عاصمة الإقليم، وهو المبدأ الذي عرف في لغة الإدارة الرومانية في مصر باسم Origio (ويقابله في اليونانية لفظ Idia) أي محل الإقامة. وكانت نتيجة هذا الوضع أن وقع عبء المناصب البلدية على الفئة الثانية من سكان العواصم. ولقد كانت هذه المناصب في بداية الأمر تجتذب إليها أفراد هذه الفئة باعتبار أنها تمنح شاغليها شرفًا خاصًا، لكن عندما تدهورت الأحوال الاقتصادية في البلاد قبيل منتصف القرن الثاني الميلادي، صارت هذه المناصب أعباء ثقيلة على من يتولاها، حتى لقد عمد الكثير من سكان العواصم إلى هجر موطنهم Origio والفرار من وجه السلطات والاختفاء في أماكن أخرى هروبًا من هذه الأعباء. وقد بدأت ظاهرة الهروب هذه التي عرفت في لغة الوثائق بلفظ Anachorisis بدأت في وقت مبكر من العصر الورماني إيان القرن الأول ثم أخذت في الشيوع والانتشار. ونستطيع أن نقدر طبعًا أن هذه الأعباء الباهظة كان لها أثرها الخطير في تدمير الطبقة الوسطى في عواصم الأقاليم.


الإدارة المحلية على مستوى القرية


ونعود إلى استكمال نظام الإدارة المحلية حتى أخر مستوياته وهي القرية. فقد قسم كل إقليم Nomos إلى عدد من المراكز Toparchiai كان يتفاوت من إقليم لأخر، وانقسم كل مركز بدوره إلى عدد من القرى. وفي إدارة القرية نجد ذلك الازدواج الذي رأيناه على مستوى إدارة عاصمة الإقليم، ونعني وجود ممثلين حكوميين للسلطة المركزية إلى جانب مسئولية الأهالي في الإدارة وتمثلها في عاصمة الإقليم الوظائف البلدية التي مر بنا ذكرها. وكانت الإدارة الحكومية في القرية ممثلة في موظف حمل لقب كاتب القرية Komogrammateus وكان مسئولاً عن إمداد الإدارة المركزية بالمعلومات الضرورية عن القرية فيما يتعلق بالضرائب أو الخدمات الإلزامية وكان يقوم بإعداد قوائم بأسماء أهل القرية وعدد الرجال البالغين فيها ومقدار ملكية كل شخص ومقدار ما ينبغي عليه أداؤه من الضرائب أو ما يتعين عليه القيام به من خدمات إجبارية دون أجر Leitourgia ومنها بناء الجسور وحفر الترع وتطهير القنوات وما إلى ذلك. وكان كاتب القرية مكلفًا برفع التقارير السنوية عن حالة الأرض الزراعية في القرية. وهل روتها مياه الفيضان أم لم تروها، ونوع المحصول الذي تنتجه كل أرض حتى يمكن تقدير الضرائب على القرية تقديرًا صحيحًا. وإلى جانب وظيفة كاتب القرية وجد ممثل آخر للسلطة الحكومية في القرية هو مسئول الأمن الذي يرأس مجموعة من الحراس ويحمل اسم أخيبودوس Archepodos.


أما الشئون المحلية للقرية فكانت مسندة إلى لجنة من شيوخها عرفت باسم Presbetoroi ومهمة هذه اللجنة هي أن تكون حلقة الاتصال بين السلطة والأهالي في شئون جمع الضرائب وإمداد الحكومة بالعمال لتنفيذ الأغراض المختلفة عندما تدعوا الحاجة. وقد كان هؤلاء الشيوخ مسئولين عن حالة الأمن في قراهم ويبدو أن خدمتهم كانت فرصنا إجباريًا على أثرياء كل قرية يؤدي لمدة عام واحد على الأرجح.


على هذه الصورة إذن كان هيكل الإدارة في مصر ابتداءً من رأس السلطة المركزية وهو الوالي حتى أدنى مستوياتها وهي القرية. ولعلنا نلحظ في وضوح تام أنه كمان قائمًا على أساس نظام الإدارة البطلمي خاصة في مجال الإدارة المحلية مع بعض تغييرات يسيرة في التفصيلات. أما الوظائف الكبيرة الجديدة التي أدخلت فكان يقتضيها التغيير الذي حدث في وضع مصر كولاية. ولكن الاختلاف المهم الذي ينبغي أن نشير إليه هنا هو تغيير طابع الخدمة الحكومية في عهد الرومان عنه في عهد البطالمة. ففي خلال الحكم البطلمي وجدنا الأفراد يقبلون إقبالاً على تولي وظائف حكومية دائمة واتخذوا من هذه الوظائف مهمة يتكسبون منها، أما في عهد الرومان فقد اكتسبت الخدمة الحكومية بالتدريج طابع التكليف بها من قبل السلطة. وسنلاحظ أنه لم يأت القرن الثاني الميلادي حتى كان موظفوا الحكومة ـ باستثناء كبارهم ـ يتولون مناصبهم لفترات قصيرة وعلى غير رغبة منهم، لاسيما بعد أن أصبحت الوظيفة تثقل كاهل من يتولاها بأعبائها المالية على وجه الخصوص.


نظم الإدارة في المدن اليونانية:


واستكمالاً للحديث عن نظام الإدارة المحلية نشير بإيجاز إلى أوضاع المدن اليونانية وهي مدن يفترض أن تكون قد تمتعت بالحكم الذاتي ونعني به استقلالها بإدارة شئونها الداخلية على الأقل. ونحن نعلم بالتأكيد أن المدن اليونانية التي وجدها الرومان قائمة في مصر كانت ثلاثة "مدن" هي من حيث الأقدمية نقراطيس Naueratis (كوم جعيف ـ محافظة البحيرة)، والإسكندرية وبطلمية Ptolemais (المنشأة ـ محافظة سوهاج) ومما هو متوفر لدينا من معلومات قليلة عن هذه المدن الثلاث في العصر البطلمي نستنتج أنه بالرغم من سلطة الملك البطلمي المطلقة التي مارسها في مصر والتي كان لابد لها من أن تنتقص من حرية هذه المدن في إدارة شئونها الداخلية، فقد بقى لها في ذلك العصر وضعها الخاص في نظم الإدارة والحكم. والسؤال الآن هو: إلى أي حد حافظ الرومان على هذا الاستقلال المنقوص؟


فأما نقراطيس أقدم هذه المدن، فكانت قد احتفظت في العنصر البطلمي بقدر كبير من استقلالها الذاتي الذي تجلى في وجود هيئة من الموظفين المنتخبين بها وتمتعها بحق عن إصدار القرارات (من خلال مجلس تشريعي Boule' بالطبع)، حيث وصل إلينا واحدًا من هذه القرارات بالفعل.وكذلك ظل مواطنو المينة يؤلفون عنصرًا يونانيًا خالصًا بسبب حظر تزاوجهم مع العناصر الأخرى.


وقد احتفظت نقراطيس في العصر الروماني بقوانينها الخاصة القديمة، والذي يدل على ذلك أن الإمبراطور هادريان اتخذ هذه القوانين نموذجًا صاغ على غراره قواني مدينته اليونانية الجديدة التي أنشأها في عام 130 م في مصر الوسطى وهي مدينة أنطينوبوليس.


وأما الإسكندرية عاصمة الحكم الفارهة أيام البطالمة والتي ظلت في العصر الروماني مقرًا للوالي والسلطة المركزية فقد كان لابد أن يلحق التغيير نظامها مثلما لحق وضعها برمته. والمرجح أن المدينة نعمت منذ تأسيسها بحكم ذاتي كامل بما في ذلك المجلس التشريعي Boule' الذي كان يعتبر حجز الزاوية في استقلال أي مدينة يونانية. غير أن معلوماتنا عن هذا المجلس بالإسكندرية هي جد قليلة بالنسبة إلى الشطر الأول من حكم البطالمة منعدمة بالنسبة إلى شطره الثاني. والرأي عند كثير من الباحثين أن هذا المجلس ألغى في عهد واحد من هؤلاء البطالمة يرجح أن يكون هو بطليموس الثامن (أيواجنيس الثاني)، وقد سبق أن مر بنا أن أوغسطس رفض أن يستجيب لطلب الإسكندريين بأن يكون لمدينتهم مجلس تشريعي. وقد ظل الأباطرة من بعده يرفضون هذا المطلب العزيز. وكان حرمان المدينة هذا المجلس انتقاصًا فادحًا لاستقلالها استشعره الإسكندريون بمرارة بالغة ولم يعرضهم عنه قط ما أبقاه الرومان لهم من امتيازاتهم الاقتصادية والاجتماعية.