وقد كانت اختصاصات الأبيستراتيجوس على هذا إدارية وحسب، فهو الرئيس الإداري لعدد من الأقاليم (المديريات) المصرية، وهو حلقة الوصل بين الوالي وحكام الأقاليم التابعة لمنطقته الإدارية وفي أغلب الأحيان كان الأبيستراتيجوس (ولنا نسميه مدير عام المنطقة) وكان يقيم في عاصمة الحكم بالإسكندرية وليس في المنطقة التي يشرف عليها، مكتفيًا بالجولات التفتيشية في الأقاليم التابعة له. وقد كانت اختصاصات الوظيفة هي الإشراف على حسن سير العمل من الناحية الإدارية في المنطقة، والقيام بأي تحقيقات إدارية، إلى جانب رفع أسماء المرشحين لتولي الوظائف في إدارة الأقاليم المحلية إلى الوالي ليصدر أمره بتعيينهم، وكان ذلك يتم بناءً على ترشيح مديري الأقاليم (المديريات) التابعة له.

الموظفون الرسميون على مستوى إدارة الإقليم:


أما عن الإدارة المحلية في الإقليم Nomos فقد كان على رأس الوظائف التي تمثل الإدارة المركزية العامة للبلاد وظيفة مدير الإقليم strategos (الاستراتيجوس). والاسم الذي حمله شاغل هذه الوظيفة ميراث بطلمي، وهو يعني في الأصل قائد لكن هذه الوظيفة لم يعد لها في مصر في العصر الروماني أي اختصاص عسكري، كما قد يوحي الاسم اليوناني القديم الذي ظل قائمًا، لأن الاستراتيجوس ـ شأنه شأن رئيسه الإبيستراتيجوس ـ جرد من السلطة العسكرية، وقد كان يتم اختيار مدير الإقليم من فئة الصفوة من سكان عواصم الأقاليم Metroplitai وهي فئة اجتماعية من اليونان المتميزين الذين كانوا يقيمون في أكبر المراكز في أقاليم مصر (انظر الفصل الثالث عشر). ويصدر أمر تعيينه من الوالي بناء على ترشيح الأبيستراتيجوس ويشغل وظيفته في العادة مدة ثلاث سنوات ويتقاضى راتبًا سنويًا. وقد عين لكل إقليم مدير واحد فيما عدا إقليم أرسينوي الذي قسم إلى ثلاث مناطق إدارية جعل على اثنين منها مدير وجُعل على المنطقة الثالثة مدير آخر.


وقد كان الاستراتيجوس يمثل رأس الجهاز الإداري في الإقليم، فهو المشرف على جميع النواحي الإدارية والمالية، وهو الذي يقدر الضرائب السنوية على الأراضي والممتلكات والافراد وذلك بناءً على الإحصاءات التي يجمعها الموظفون والإداريون من مرؤوسيه، وهو كذلك رئيس جهاز الشرطة في إقليمه، لكن سلطته لا تمتد إلى قوات الجيش التي قد تكون مرابطة في حدود إقليمه اللهم إلا إذا كانت هذه القوات في حالة القيام بأعمال مدنية غير قتالية. كذلك لم تكن للاستراتيجوس سلطة النظر في القضايا وإصدار الأحكام فيها، إلا بمقتضى تفويض بذلك يصدر إليه من الوالي أو أحد كبار الموظفين القضائيين في الإدارة المركزية بالإٍسكندرية لكن كان يجوز له أن يقوم بتحقيق أولى فيما يرفع إليه من شكايات أو ما يقع في إقليمه من منازعات تمهيدًا لعرضها على الوالي.


ويلي منصب الاستراتيجوس في إدارة الإقليم منصب "الكاتب الملكي" Basilicogrammateus الذي يبدو واضحًا من لقبه أن وظيفته كانت ميراثًا من العصر البطلمي مثل الاستراتيجوس. ويعتبر هذا الموظف مرءوسًا للاستراتيجوس لكنه كان ساعده الأيمن ونائبه الذي يحل محله في غيابه، وكان ـ مثل رئيسه ـ يختار من اليونان من فئة الصفوة من سكان عواصم الأقاليم كما كان يتقاضى مثله راتبًا سنويًا، والواقع أن وثائقنا تبين بجلاء أن هذه الوظيفة تمثل قمة البيروقراطية في مصر في العصر الروماني من حيث ما تركز فيها من اختصاصات عن ناحية، ومن حيث الدقة البالغة في تسجيل كل كبير وصغيرة من شئون الإدارة من ناحية أخرى. فكل الإحصاءات والتقديرات والتقارير الخاصة بالإقليم كانت تصدر من الإدارة التي يشرف عليها هذا الموظف، وفي هذا المجال تظهر أهمية هذه الوظيفة خاصة في مسألة تقديرات الضرائب ومسألة الترشيح للوظائف الأخرى والخدمات الإلزامية Leitourgiae إذا كان الكاتب الملكي هو المختص بإعداد قوائم المرشحين المناسبين للقيام بتلك الأعمال الإجبارية وفقًا لما في يد كل منهم من أملاك.


وقد كان يساعد الكاتب الملكي موظف له أهميته يحمل لقب Bibliophylax وكان يشرف على دار حفظ الوثائق والأوراق الرسمية التي أنشأها الرومان في كل عاصمة من عواصم الأقاليم لتودع فيها قوائم الضرائب وسجلات الأراضي وقائم التعداد (الإحصاء المنزلي) واشهارات الميلاد وشهادات الوفاة وطلبات الفحص المقدمة من أفراد الطبقات الممتازة والعرائض والالتماسات وما إليها.


الوظائف "البلدية" في إدارة الإقليم المحلية


وإلى جانب هذه الوظائف الرسمية في الإدارة المحلية أوجد أوغسطس نظام الوظائف البلدية وهي وظائف غير رسمية كان الهدف منها أن يهتم أهل عواصم الأقاليم Metropoleis بتدبير بلداتهم مثل الإشراف على إدارة الجمنازيوم أو تموين عاصمة الإقليم بمواد الغذاء الرئيسية من الحبوب والزيت مثلاً، والإشراف على سوق البلدة ومراقبة عمليات البيع والشراء وفي هذا تخفيف من أعباء الإدارة الملقاة على كاهل الموظفين الرسمين المثلين للإدارة المركزية بالأقاليم. ومن ناحية أخرى فإن هذه الوظائف البلدية في حد ذاتها كانت تمثل ضرورة بالنسبة إلى مجتمعات اليونان النازلين في عواصم أقاليم مصر، فأسلوب الحياة اليونانية يتطلب كما هو معلوم مؤسسات معينة مثل الجمنازيوم الذي كان مركز الحياة اليونانية في تلك العواصم، وقد كان لابد لهذه المؤسسات من مسئولين يشرفون عليها.

وقبل أن نستعرض أسماء هذه الوظائف البلدية واختصاصاتها يجدر أن نقدم بشأنها عدة ملحوظات هي:
(1) أن أوغسطس عندما أنشأها بعواصم الأقاليم لم يكن في الأغلب يحتذى بالنموذج الذي كان متبعًا في الإدارة المحلية بمدينة الإسكندرية. وأن أسماء هذه الوظائف قد اقتبست من نظم المدن اليونانية القديمة.
(2) أن شاغلي هذه الوظائف لم يكونوا يتقاضون أجورًا مثل الموظفين الذين كانوا يمثلون السلطة المركزية في إدارة الإقليم كالاستراتيجوس والكاتب الملكي، وإنما اعتبرت هذه وظائف شرفية، أي تشريفًا لمن يتولاها ولذلك عرف باسم Archaic.
(3) إن هذه الوظائف البلدية لم توجد كلها في عاصمة الإقليم دفعة واحدة إنما قامت بالتدريج وفقًا لاحتياجات الإدارة، كما أنها لم توجد كلها بالضرورة في كل عاصمة من عواصم الأقاليم. وفي بداية الأمر كان شاغل كل وظيفة مسئولاً بصفة شخصية عن مهام وظيفة فقط، لكنه بمرور الزمن أصبح شاغلو الوظائف يؤلفون في مجموعهم ما يشبه الهيئة التي عرفت بعد ذلك باسم Koinon، وكانت هذه الهيئة في الواقع نواة لمجالس الشورى التي أنشأها فيما بعد الإمبراطور الروماني سبتيميوس سفيروس في عواصم الأقاليم وذلك ضمن إصلاحات الإدارة التي استحدثها في مصر عند زيارة إياها في عام 200م.


ولعلنا نذكر في هذا المقام أيضًا أن وجود هذه الوظائف "البلدية" في عواصم الأقاليم، إلى جانب ورود بعض الإشارات في الوثائق عن وجود هيئة لسكان عاصمة الإقليم يشار إليها في تلك الوثائق بتعبير ديموس Demos، يجعلنا نحس بأنه بالرغم من أن عواصم الأقاليم في مصر في عصر الرومان لم تكن مدنًا حرة Poleis بالمعنى اليوناني أو "بلديات" ذات صفة استقلالية Municipia بالمعنى الروماني، فإن هذه البلدات الكبيرة نسبيًا كانت تنعم بقدر ولو محدود من الاستقلال في الإدارة.


ويأتي على رأس الوظائف البلدية في عواصم الإقليم وظيفة مدير الجمنازيوم أو الجمنازيارخس Gymnasiarches وقد استمدت هذه الوظيفة.
أهميتها من أهمية الجمنازيوم ذاته، وهي تلك المؤسسة التي نعلم أنها كانت تمثل مركز الثقل في الحياة اليونانية العقلية والاجتماعية في أي مكان حل به اليونان لأنها كانت مؤسسة تعليمية تربوية رياضية بدنية اجتماعية في آن معًا. ومنذ أيام البطالمة رأينا اليونان يقيمون مؤسسات الجمنازيوم في مصر ليس في الـ "المدن" اليونانية في مصر فحسب بل في عواصم الأقاليم، بل حتى في القرى، ويبدو أن أوغسطس ألغى ما كان موجودًا من مؤسسات الجمنازيوم في القرى مكتفيًا بما كان منها في عواصم الأقاليم، لكنه في مقابل ذلك منح الجمنازيوم في العواصم صفة رسمية بعد أن كان في خلال العصر البطلمي مؤسسة أهلية وإن كان ملوك البطالمة قد دعموها بالرعاية وتقديم الهبات، ولعل هذا الإجراء الذي اتبعه أوغسطس مع مؤسسات الجمنازيوم في مصر كان جزءًا من سياسته العامة في تقوية العنصر اليوناني المقيم في عواصم الأقاليم وذلك من أجل الاعتماد عليه.


ويتضح لنا المركز الرفيع الذي أحتله شاغل هذه الوظيفة مما كان مخصصًا له من شارات خاصة، يرتديها وهي عمامة ذات شكل خاص عرفت باسم Stropheion وحذاء أبيض اللون عرف باسم Phalkasion كذلك كان مدير الإقليم (hghsjvhjd[,s) يقوم بتقليد هذه الشارات الخاصة رسميًا لصاحب هذا المنصب عند توليه وذلك في حفل يقام أمام الجمنازيوم، كما يتضح ذلك أيضًا من الحراس الأربعة الذين خصصوا لمرافقته في سيره. وكانت مهمة مدير معهد الجمنازيوم الإشراف على إدارة شئون هذه المؤسسة المهمة، هذا وقد كان من الطبيعي أن تكون هذه الوظيفة وقفًا على الأسر الغنية لأن القيام بمهامها كان يتطلب مقدرة مالية خاصة، ومن أجل ذلك فإنه على مر الأيام تكونت من الأسر اليونانية الغنية التي تولى عدد من أفرادها هذا المنصب فئة متميزة بالنبالة في عواصم الأقاليم.


وتلي وظيفة مدير الجمنازيوم في الوظائف البلدية وظيفة حمل صاحبها لقب أكسيجيتس Exegetes ويبدو واضحًا أن أوغسطس أنشأ هذه الوظيفة في عواصم الأقاليم في مصر ليس على غرار ما كان لها من اختصاصات في مدينة الإسكندرية وليس على النمط الذي كانت عليه في المدن اليونانية القديمة الأصلية. فنحن نعلم أن مهام هذه الوظيفة في تلك المدن القديمة كانت الحفاظ على النظم والتقاليد الدينية وشرح أمور الدين وتأويلها خاصة فيما يتصل بمسائل وحي الآلهة، وهذا ما يدل عليه اسم الوظيفة في الواقع. أما في الإسكندرية في العصر البطلمي فإنه يبدو مما يذكره استرابون عنها أن مهامها تجاوزت حدود هذه المسائل الدينية ولو أن عبارته لا تبدو محددة لمهامها بالضبط ونحن نشهد صاحب هذه الوظيفة في عواصم الأقاليم راعيًا لشئون القصّر وممتلكاتهم، مختصًا بأن يعين للنساء الأوصياء عليهن ويتلقى طلبات الشباب الذين بلغوا السن المقررة لإدراجهم في منظمات الأفيبوي Epheboi أي منظمات الشباب اليونانية، كما تصوره الوثائق إلى جانب ذلك رقيبًا على الأوضاع الاجتماعية من أجل المحافظة على الوضع الممتاز الذي كان للفئات اليونانية أو المتأغرقة في عواصم الأقاليم. وقد خصص لهذا الموظف اثنان من الشبيبة لمرافقته في سيره.