الشَّاطِرُ حَسَنٌ لا يَأْتِي عَلَى حِصَانِهِ الأَبْيَضِ


عَلَى شَاطِئِ تُرْعَةِ سُنْبَاطٍ ، أَمَامَ أَشْجَارِ الْكَافُورِ الْمُمْتَدَّةِ بِطُولِ حُقُولِ الْفُولِ الْخَضْرَاءِ ، تَجْلِسُ بَدْرِيَّةُ فِي انْتِظَارِ عَوْدَةِ حَسَنٍ شَارِدَةَ الْخَاطِرِ ، تَسْنِدُ ظَهْرَهَا عَلَى جِذْعِ جُمَّيْزَةٍ ، مُلْقِيَةً بِالأَحْجَارِ فَوْقَ مِيَاهِ التُّرْعَةِ صَانِعَةً دَوَائِرَ تَتَلاشَى رُوَيْدًا آخِذَةً رُوحَهَا الْجَرِيحَةَ فِي تَيَّارِهَا الَّذِي لا يَنْتَهِي 000
مِنْ بَيْنِ أَعْوَادِ الْفُولِ يَأْتِي صُرَاخٌ بَعِيدٌ مِنْ وَرَاءِ الْحُقُولِ حَيْثُ تَطُلُّ مَنَازِلُ الْقَرْيَةِ سَاكِنَةً كَالْقُبُورِ 0
تَنْتَبِهُ بَدْرِيَّةُ مُصْغِيَةً تَجْمَعُ أَعْضَاءَهَا الْمُبَعْثَرَةَ عَلَى الْحَشَائِشِ النَّاعِمَةِ مُسْرِعَةً تَشُقُّ فَدَادِينَ الْبِرْسِيمِ 0
تَصْعَدُ سَلالِمَ الْبَيْتِ دَافِعَةً أَجْسَادَ الْوَاقِفَاتِ اللاتِي تَجَمَّعْنَ مِنْ أَنْحَاءِ الْقَرْيَةِ مُتَمْتِمَاتٍ مُتَعَجِّبَاتٍ مِنْ تِلْكَ النِّهَايَةِ الْحَزِينَةِ0
رَاكِلَةً بَابَ الْحُجْرَةِ تَدْخُلُ بَاكِيَةً تَرْتَمِي جِوَارَ كُرْسِيٍّ مُهْمَلٍ 000
يَجْلِسُ حَسَنٌ مُنْهَارًا لا يُصَدِّقُ ، تَلْتَفُّ حَوْلَهُ سَبْعُ بَنَاتٍ ذَابِلاتٍ شَارِدَاتٍ فِي ذُهُولٍ وَبَعْضُ رِجَالِ الْقَرْيَةِ الطَّيِّبِينَ 0
ـ إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ 0
ـ اهْدَأْ يَا حَسَنُ ! أَنْتَ رَجُلٌ ، وَيَجِبُ أَنْ تَتَمَاسَكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعَزَاءُ 0
ـ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ 0
ـ مَنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا النَّبَأِ الأَلِيمِ ؟
ـ جَاءَ مَنْدُوبُ السِّجْنِ مُنْذُ قَلِيلٍ 0
ـ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الرَّاحَةِ يَوْمًا 0
ـ لا إِلَهَ إِلا اللهُ 0
ـ ارْتَحْتَ الآنَ يَا عَبْدَ الْجَبَّارِ ؟
ـ اسْكُتِي يَا زَيْنَبُ !! اسْكُتِي أَرْجُوكِ لا أَحْتَمِلُ كَلامًا !!
ـ أَنْتَ قَتَلْتَ أَبَاكَ يَا عَبْدَ الْجَبَّارِ وَمَرَّغْتَ شَرَفَنَا فِي التُّرَابِ 0
ـ أَنَا يَا زَيْنَبُ ؟
ـ نَعَمْ أَنْتَ ، أَلَمْ تُبْلِغْ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ لَفَّقْتَ لَهُ أُكْذُوبَتَكَ الْكُبْرَى ؟
ـ أَرْجُوكِ يَا زَيْنَبُ 000 لَقَدْ أَخَذَ جَزَاءَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ 0
ـ أَخَذَ جَزَاءَهُ ؟ وَلِمَاذَا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَيُّهَا الْكَاذِبُ ؟ أَلَيْسَ مِنْ أَجْلِكَ أَنْتَ أَيُّهَا التَّافِهُ الْفَاشِلُ الَّذِي دَمَّرَ حَيَاتَنَا جَمِيعًا ؟
ـ اخْرَسِي يَا مُجْرِمَةُ !! وَهَلْ قُلْتُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُخَدِّرَاتِ مِنْ أَجْلِي ؟ أَلَمْ يَطْرُدْنِي مِنَ الْبَيْتِ لأَظَلَّ وَحْدِي طَوَالَ اللَّيَالِي تُطَارِدُنِي كِلابُ الْقَرْيَةِ مِنْ حَقْلٍ إِلَى حَقْلٍ ؟
ـ لِذَلِكَ فَعَلْتَ فِعْلَتَكَ ، وَأَبْلَغْتَ الشُّرْطَةَ يَا مَلْعُونُ ، وَأَخْرَجْتَ الأَكْيَاسَ وَالْمِيزَانَ مِنْ بَيْنِ أَعْوَادِ الْحَطَبِ فَوْقَ السَّطْحِ 0
ـ قُلْتُ لَكِ اخْرَسِي وَإِلا قَتَلْتُكِ !!
ـ كَفَى كَفَى هَيَّا اخْرُجْ وَلا تَعُدْ ثَانِيَةً إِلَى هُنَا ، اخْرُجْ ، اخْرُجْ !!
ـ وَأَنْتَ أَيْضًا تَطْرُدُنِي يَا حَسَنُ ؟ وَهُوَ كَذَلِكَ ، سَوْفَ أَخْرُجُ ، لَكِنْ لَنْ أَسْكُتَ بَعْدَ الْيَوْمِ 000
000000
000000
000000
عَلَى أَحْزَانِهِ يَتَمَايَلُ حَسَنٌ سَاحِبًا قَدَمَيْهِ مُتَّجِهًا نَحْوَ الْمَقَابِرِ يُحِيطُهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فِي انْتِظَارِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُثْمَانُ 000
تُبَلِّلُ الدُّمُوعُ سَاخِنَةً خَدَّيْهِ مُتَزَايِدَةً كُلَّمَا سَمِعَ صُرَاخَ إِحْدَى أَخَوَاتِهِ مُشَيِّعَةً وَالِدَهَا فِي بُكَاءٍ لا يَنْقَطِعُ 000
مُقَبِّلاً أَطْرَافَ الْكَفَنِ الأَبْيَضِ يَضَعُ جُثْمَانَ أَبِيهِ فَوْقَ النَّعْشِ ذِي الْمَلاءَةِ الْخَضْرَاءِ 000
مُتَقَدِّمًا الصُّفُوفَ الْمُتَزَاحِمَةَ تَتَخَبَّطُ رِجْلاهُ ، يَتَنَقَّلُ يَمِينًا وَيَسَارًا نَاظِرًا إِلَيْهِ فِي غَيْرِ أَمَلٍ أَنْ يَرَاهُ ثَانِيَةً 000
يُلْقِي نَظْرَتَهُ الأَخِيرَةَ ، وَيُغْلِقُ بَابَ الْمَقْبَرَةِ فِي انْكِسَارٍ 000
000000
000000
000000
مُحْتَضِنًا أَخَوَاتِهِ يَتَمَاسَكُ كَنَخْلَةٍ تَعْصِفُ بِجَرِيدِهَا الرِّيَاحُ 000
ـ أَرْجُو أَنْ تَمُرَّ الْعَاصِفَةُ بِخَيْرٍ يَا بَنَاتُ ، وَتَعُودَ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى دِرَاسَتِهَا 0
ـ اطْمَئِنَّ يَا أَخِي ، لَيْسَ لَنَا مِنْ أَحَدٍ بَعْدَ اللهِ إِلا أَنْتَ ، وَلَكَ مَا تَأْمُرُ بِهِ 0
ـ لَنَا اللهُ يَا زَيْنَبُ 0
ـ يَجِبُ أَنْ تَتَمَاسَكَ أَنْتَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَا أَخِي فَأَنْتَ أَمَلُنَا الْيَوْمَ ، وَلَمْ تَبْقَ إِلا أَعْوَامٌ ثَلاثَةٌ وَبَعْدَهَا تُصْبِحُ طَبِيبًا 000
ـ انْسِ هَذَا الأَمْرَ يَا زَيْنَبُ !! لَنْ أُكْمِلَ دِرَاسَتِي 000
ـ مَاذَا تَقُولُ ؟ هَلْ جُنِنْتَ ؟
ـ لَيْسَ أَمَامِي خِيَارٌ 000 لَقَدْ بِعْنَا آَخِرَ مِتْرٍ كُنَّا نَمْلِكُهُ 000
ـ سَتُكْمِلُ دِرَاسَتَكَ يَا أَخِي 0
ـ وَمِنْ أَيْنَ لَنَا ثَمَنُ الْكُتُبِ يَا زَيْنَبُ ؟
ـ نُخْلِي لَكَ حُجْرَةً ، وَتُمَارِسُ الطِّبَّ الآنَ ، وَمُؤَكَّدٌ سَيَأْتِي أَبْنَاءُ الْقَرْيَةِ إِلَيْكَ تُعَالِجُهُمْ 000
ـ فِكْرَةٌ رَائِعَةٌ يَا زَيْنَبُ ، لِنَبْدَأْ فِي الْحَالِ !!
ـ وَاللهِ لَنْ يُخْذِيَكَ اللهُ يَا أَخِي 0
000000
000000
000000
عَلَى ثِقَلِهَا تَمُرُّ السَّنَوَاتُ سَاحِقَةً رُوحَ بَدْرِيَّةَ الَّتِي مَا زَالَتْ تَنْتَظِرُ أَنْ يَعُودَ حَسَنٌ إِلَى حُبِّهِ الْقَدِيمِ 000
ـ أَرْجُوكِ يَا بَدْرِيَّةُ !!
ـ أَرْجُوكَ يَا حَسَنُ !!
ـ قُلْتُ لَكِ أَلْفَ مَرَّةٍ لَنْ أَتَزَوَّجَ ، انْتَهَى عُمْرِي يَوْمَ سُجِنَ وَالِدِي زُورًا 000
ـ وَمَا ذَنْبُكَ أَنْتَ ؟
ـ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لا يَرْحَمُونَ ضَعْفِِي ، تَذْبَحُنِي عُيُونُهُمْ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ لَيْلَ نَهَارَ 000 مَا زَالُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ مُرَدِّدِينَ فِي أَعْمَاقِهِمْ : هَذَا ابْنُ جَابِرٍ السُّنْبَاطِيِّ ، بِالْمَالِ الْحَرَامِ أَصْبَحَ الْيَوْمَ طَبِيبًا 000
ـ يَا حَسَنُ لَقَدْ صَبَرْنَا مَعًا كَثِيرًا ، وَقَدْ زَوَّجْتَ أَخَوَاتِكَ جَمِيعَهُنَّ ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ تُتِمَّ فَرْحَتَنَا مُتَجَاوِزِينَ أَوْجَاعَنَا الَّتِي لَنْ تَنْتَهِيَ إِلا حِينَ يَبْدَأُ عُمْرُنَا الْجَدِيدُ 000
ـ يَا بَدْرِيَّةُ ، كُتِبَ عَلَى أَمْثَالِنَا أَنْ يَظَلُّوا فِي شَقَاءٍ طَوَالَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الْقَاسِيَةِ 000
ـ لَيْسَ الأَمْرُ عَلَى هَذَا السُّوءِ يَا حَسَنُ 0
ـ كَمَا تَشَائِينَ يَا بَدْرِيَّةُ 0
000000
000000
000000
عَلَى غَيْرِ عَادَتِهَا تَبْتَسِمُ الْحَيَاةُ ، وَيَعْرِفَانِ حَلاوَةَ لَذَّتِهَا 000 يُحَلِّقَانِ كَعُصْفُورَيْنِ فَوْقَ فَدَادِينِ الْكُرُنْبِ صَاعِدَيْنِ هَابِطَيْنِ 000 يَحُطُّ مُنْتَشِيًا فَوْقَ شَجَرَةِ رُمَّانٍ نَاضِرَةٍ 000 تَتَهَزْهَزُ أَشْجَارُ الْمَوْزِ فِي اشْتِيَاقٍ 000
تُدَاعِبُ الأَحْلامُ رُوحَهُمَا فِي غَيْرِ تَوَقُّفٍ 000
يَبْتَهِجَانِ 000
يَنْعَسَانِ فِي ارْتِيَاحٍ 000
ـ مَبْرُوكٌ يَا حَسَنُ 0
ـ مَبْرُوكٌ يَا بَدْرِيَّةُ 0
ـ يُرَبَّى فِي عِزِّكُمَا 0
ـ بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِيهِ 0
ـ جَاءَ بَعْدَ انْتِظَارِ سَبْعِ سَنَوَاتٍ عِجَافٍ كَامِلَةٍ يَا زَيْنَبُ 000
ـ الْحَمْدُ ِللهِ يَا حَسَنُ 0
ـ اكْتَمَلَتْ فَرْحَتِي الْيَوْمَ يَا زَيْنَبُ 0
ـ فَرْحَتُنَا جَمِيعًا يَا حَسَنُ 0
ـ الْحَمْدُ ِللهِ 0
ـ الْحَمْدُ ِللهِ 0
000000
000000
000000
عَلَى غَيْرِ هُدَىً مَا زَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ يَتَنَقَّلُ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ وَمِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى حَامِلاً فَوْقَ ظَهْرِهِ بَقَايَا أَحْلامٍ مَوْءُودَةٍ ، بَاحِثًا عَنْ فُرْصَةٍ لا تَجِيءُ000
ـ آهِ يَا بَدْرِيَّةُ !!
ـ مَاذَا بِكَ يَا حَسَنُ ؟
ـ وَجَعٌ لا يُحْتَمَلُ 000
ـ أَسْرِعِي يَا زَيْنَبُ 000 اطْلُبِي إِسْعَافًا 0
ـ مَاذَا بِكَ يَا أَخِي ؟
ـ أَلَمٌ شَدِيدٌ يَعْتَصِرُ كَبِدِي 000
ـ سَتَكُونُ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللهُ 0
عَلَى دَمِهِ يَتَرَجَّلُ حَسَنٌ مُتَقَيِّأً دِمَاءَهُ الَّتِي لا تَتَوَقَّفُ 000
يَسْقُطُ مُسْتَسْلِمًا فِي إِعْيَاءٍ 000
لا يَقِفُ ثَانِيَةً 000
ـ آهِ يَا حَسَنُ !!
ـ مَاتَ حَسَنٌ يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ 000
ـ مَاتَ حَسَنٌ يَا عَبْدَ الْجَبَّارِ 000
ـ لا إِلَهَ إِلا اللهُ 0
تَجْرِي بَدْرِيَّةُ تَشُقُّ فَدَادِينَ الْقَمْحِ نَحْوَ التُّرْعَةِ فِي جُنُونٍ 000
يُهَرْوِلُ خَلْفَهَا الرِّجَالُ 000
يَبْكِي الطِّفْلُ 000
ـ انْتَظِرِي يَا بَدْرِيَّةُ !!
ـ عُودُوا إِلَى وَلَدِي الأَسْمَرِ 000
ـ ارْجِعِي يَا بَدْرِيَّةُ !!
ـ لَنْ أَعُودَ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ 000
ـ عُودِي يَا بَدْرِيَّةُ ، وَلَدُكِ يَبْكِي 0
ـ ارْجِعُوا إِلَيْهِ 0
ـ انْتَظِرِي يَا بَدْرِيَّةُ !!
عَلَى شَاطِئِ تُرْعَةِ سُنْبَاطٍ يُحَلِّقُ الْيَمَامُ الْبَرِّيُّ شَارِدًا لا يَحُطُّ عَلَى أَشْجَارِهِ 000
تَتَلاشَى دَوَائِرُ الْمِيَاهِ فَوْقَ سَطْحِ التُّرْعَةِ 000
يَنْسَابُ التَّيَّارُ دَافِقًا تَدْفَعُهُ الرِّيَاحُ عَابِثَةً بِبَقَايَا أَوْرَاقٍ سَاقِطَةٍ مِنْ شَجَرَةِ كَافُورٍ 000
تَتَمَدَّدُ بَدْرِيَّةُ 000
لا يَأْتِي الشَّاطِرُ حَسَنٌ فَوْقَ جَوَادِهِ الأَبْيَضِ 0