لَيْلَةُ صُعُودِ الشَّيْخِ سَالِمٍ لِلْقَمَرِ


مُنْتَفِضًا هَبَّ الشَّيْخُ سَالِمٌ وَاقِفًا مُلَمْلِمًا بَقَايَا رُوحِهِ ، يَبْكِي مُوَدِّعًا ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمَلائِكِيَّ الَّذِي يَمْتَطِي صَهْوَةَ حِصَانِهِ الأَبْيَضِ ، مُتَأَمِّلاً أَثَرَ قَبْضَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَافَحَهُ مُغَادِرًا يَضْغَطُ عَلَى كَتِفَيْهِ ، مُنْطَلِقًا فَوْقَ جَوَادِهِ نَحْوَ السَّمَاوَاتِ الْبَعِيدَةِ 0
يَتَذَكَّرُ مَلامِحَهُ النُّورَانِيَّةَ الَّتِي لا تَبِينُ ،
وَصَوْتَهُ الدَّافِئَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ وَرَاءِ مُدُنٍ قَدِيمَةٍ تَتَجَوَّلُ ـ فِي شَوَارِعِهَا النُّحَاسِيَّةِ ـ الأَرْوَاحُ لَيْلاً ، سَارِيَةً مِنْ طَرِيقٍ إِلَى آَخَرَ وَرَاءَ الأَشْجَارِ الْكَثِيفَةِ الْمُرَفْرِفَةِ كَنَوَارِسَ فَوْقَ مُحِيطٍ نَحْوَ جَزَائِرَ تَبْدُو خَلْفَ الأَمْوَاجِ الْمُتَلاطِمَةِ لَكِنَّهَا أَبَدًا لا تَجِيءُ 000

ـ لِمَاذَا زَارَنِي هَذَا الْفَارِسُ الْمَلائِكِيُّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ ؟ وَلِمَاذَا تَرَكَنِي وَحِيدًا دَاخِلَ هَذِهِ الزِّنْزَانَةِ الضَّيِّقَةِ ؟ 000
يَتَوَكَّأُ عَلَى أَحْزَانِهِ ، مُحَاوِلاً أَنْ يَتَلَمَّسَ بَعْضَ الأَوْرَاقِ الَّتِي كَتَبَهَا مِنْ عَامَيْنِ وَرَاءَ أَسْوَارِ سِجْنِ طُرَةَ 000
يَشَمُّ ـ فِي فَرَحٍ ـ رَائِحَةَ الْحِبْرِ ، كَاتِمًا زَفِيرَهُ بَيْنَ ضُلُوعِهِ الْمُتْعَبَةِ 000
تَسْرِي ـ فِي أَعْضَائِهِ الْبَارِدَةِ ـ رَغْبَةٌ مُلِحَّةٌ أَنْ يَطِيرَ 000
يَهْمِسُ فِي خُفُوتٍ ، مُتَمْتِمًا بِالآَيَاتِ مُنْسَابَةً بَيْنَ شَفَتَيْهِ 000
يَرْتَفِعُ صَوْتُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا مَمْزُوجًا بِالْعَبَرَاتِ الْمُتَحَشْرِجَةِ دَاخِلَ صَدْرِهِ الْمَوْجُوعِ 000
يَشُقُّ ـ الصَّمْتَ ـ بُكَاؤُهُ فِي غَيْرِ انْقِطَاعٍ 00
تَتَدَاخَلُ الآَيَاتُ مُتَنَاغِمَةً فِي خُشُوعٍ مَعَ ذَلِكَ النَّقِيقِ الرَّتِيبِ وَالرِّيَاحِ الْمُصَفِّقَةِ خَارِجَ الْقُضْبَانِ الْحَدِيدِيَّةِ 000
تَبْدُو الزَّنَازِينُ الْقَدِيمَةُ دَاخِلَ السِّجْنِ الْحَرْبِيِّ كَمَقَابِرِ مَدِينَةٍ مُوحِشَةٍ تَنَاثَرَتْ وَرَاءَ الْبُيُوتِ يُدْفَنُ فِيهَا الأَحْيَاءُ الَّذِينَ لا يَنَامُونَ 000
فَقَدَتْ ـ بَابَهَا ـ زِنْزَانَةُ الشَّيْخِ سَالِمٍ غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى أَنْ تَدْفَعَ الْهَوَاءَ الْبَارِدَ مُسْتَسْلِمَةً جُدْرَانُهَا لِلصَّقِيعِ 000
تَتَزَايَدُ رَائِحَةُ الْقُمَامَةِ خَارِجَهَا جَاذِبَةً حَوْلَهَا حَشَرَاتِ اللَّيْلِ الَّتِي تَنْشَطُ فَوْقَ وُجُوهِ الْمَسْجُونِينَ مُحَاوِلِينَ دَفْعَهَا دُونَ جَدْوَى 000
وَحْدَهُ يَجْلِسُ الشَّيْخُ سَالِمٌ الْقُرْفُصَاءَ مُخَبِّئًا رَأْسَهُ الصَّغِيرَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ مُتَأَمِّلاً حُقُولَ قَرْيَتِهِ الَّتِي لا تُفَارِقُ ذَاكِرَتَهُ الْمُزْدَحِمَةَ 000
فِي إِصْرَارٍ يُحَاوِلُ الْمَسْجُونُونَ أَنْ يَقْهَرُوا خَوْفَهُمْ وَوَحْدَتَهُمْ 000
يَقُصُّونَ أَوْجَاعَهُمْ خَلْفَ الْجُدْرَانِ فِي بَوْحٍ لا يَتَوَقَّفُ 000
عَلَى طَرِيقَتِهِمْ يَحْتَفِلُونَ بِذَلِكَ الْوَافِدِ الْجَدِيدِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَبِي زَعْبَلٍ 000
يُنْصِتُ الشَّيْخُ سَالِمٌ إِلَى صَدَى الأَصْوَاتِ الَّتِي تَأْتِي مِنَ الزَّنَازِينِ الْمُجَاوِرَةِ حَامِلَةً حِكَايَاتِ التَّعْذِيبِ الَّتِي لا تَنْتَهِي 000
000000
000000
000000
لَمْ يَفْهَمِ الشَّيْخُ سَالِمٌ لِمَاذَا تَجَهَّمَ الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ دُقَّ الْهَاتِفُ ، وَلِمَاذَا هَذِهِ الْقَسْوَةُ وَالإِصْرَارُ عَلَى أَنْ يَبْقَى عَطْشَانَ لا يَرْوِي ظَمَأَهُ بِقَطْرَةِ مَاءٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُثَلَّجَاتُ وَالْمُرَطَّبَاتُ أَمَامَهُ ، وَمَنِ اتَّصَلَ بِهِ ، وَمَاذَا قَالَ لَهُ ، أَهِيَ أَوَامِرُ قَصْرِ الْقُبَّةِ ، أَمْ زَوْجَتُهُ تَتَعَجَّلُ عَوْدَتَهُ !!
ـ أَمْثَالُكَ يَجِبُ أَنْ يَمُوتُوا عَطْشَى أَيُّهَا الشَّيْخُ الْخَرِفُ !!
ـ وَلِمَاذَا يَا بُنَيَّ ؟
ـ لِمَاذَا ؟ أَنْتَ حَاوَلْتَ أَنْ تَخُونَ بَلَدَكَ وَبِعْتَ ضَمِيرَكَ وَأَرَدْتَ قَلْبَ نِظَامَ الْحُكْمِ 000
ـ أَنَا يَا بُنَيَّ ؟ سَامَحَكَ اللهُ !!
ـ اخْرَسْ يَا كَلْبُ !!
ـ اللهُ أَكْبَرُ 000
ـ اخْرَسْ يَا حَيَوَانُ !!
ـ هَلْ لِي أَنْ أَجْلِسَ قَلِيلاً يَا وَلَدِي ؟
ـ مِثْلُكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ يَا حَقِيرُ !!
ـ تَعِبْتُ مِنَ الْوُقُوفِ لِسَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ وَأَنَا أَتَنَفَّسُ مِنْ رِئَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَعْلَمُ 000
ـ لا بَأْسَ ، بَعْدَ قَلِيلٍ نُرِيحُكَ لِلأَبَدِ !
ـ اللهُ أَكْبَرُ
ـ حَكَمَتِ الْمَحْكَمَةُ بِإِعْدَامِ الشَّيْخِ سَالِمٍ عَبْدِ اللهِ شَنْقًا حَتَّى الْمَوْتِ 000
000000
000000
000000
لا يَنْسَى الشَّيْخُ سَالِمٌ مَشْهَدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي اللَّيْلَةِ الأُولَى دَاخِلَ السِّجْنِ الْحَرْبِيِّ وَهِيَ تَجُرُّ أَذْيَالَهَا مُنْكَسِرَةً تُسْرِعُ فِي إِذْلالٍ تَشْتَعِلُ خُيُوطُهَا الْحَمْرَاءُ بَاكِيَةً وَرَاءَ الأُفُقِ تُطَارِدُهَا الْكِلابُ الْجَائِعَةُ بِنُبَاحِهَا مِنْ وَرَاءِ قُضْبَانِ الزِّنْزَانَةِ الْخَلْفِيَّةِ فِي انْتِظَارِ سَجِينٍ جَدِيدٍ يَسُدُّ جُوعَهَا بَعْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ 000
ـ قُمْ يَا رَجُلُ !! هَيَّا ، انْهَضْ !!
شَامِخًا كَجَبَلٍ لا تُؤَثِّرُ فِي صُخُورِهِ الصَّلْبَةِ أَحْجَارُ الصِّبْيَانِ ، يَقِفُ الشَّيْخُ سَالِمٌ 0
ـ أَنْتَ الْمَأْمُورُ الْجَدِيدُ ؟
ـ نَعَمْ يَا رَجُلُ ، هَيَّا يَا مَأْفُونُ !! الآَنَ سَوْفَ تَسْكُنُ زِنْزَانَتَكَ الْجَدِيدَةَ 000 صَدَرَتِ الأَوَامِرُ بِذَلِكَ 000
ـ سَكَنٌ جَدِيدٌ لَيْسَ فِي السِّجْنِ الْحَرْبِيِّ لَكِنَّهُ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ إِنْ شَاءَ اللهُ 000
ـ لَكَ أَنْتَ يَا رَجُلُ ؟
يَا وَلَدِي { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } وَأَحْسَبُنِي مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى 000
ـ رُبَّمَا يَا رَجُلُ !!
ـ حَانَتْ لَحْظَةُ إِعْدَامِي 000 أَلَيْسَ كَذَلِكَ ؟
ـ وَكَيْفَ عَرَفْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ ؟
ـ أَخْبَرَنِي حَبِيبِي فَوْقَ جَوَادِهِ 000 شَدَّ عَلَى يَدَيَّ قَائِلاً لِي : هَنِيئًا لَكَ الشَّهَادَةُ يَا سَالِمُ 000
000000
000000
000000
كَأَنَّمَا عَادَ إِلَى شَبَابِهِ فِي لَيْلَةِ عُرْسِهِ يَنْطَلِقُ أَمَامَ الْحُرَّاسِ تَمْلأُ أُذُنَيْهِ الزَّغَارِيدُ مُتَذَكِّرًا أُخْتَهُ وَابْنَهَا الَّذِي مَاتَ فِي سِجْنِ أَبِي زَعْبَلٍ 000
ـ لِمَاذَا لَمْ تَسْمَعْ كَلامِي يَا سَالِمُ ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّهُمْ لَنْ يَرْحَمُوا ضَعْفَكَ وَمَرَضَكَ وَسِنَّكَ ؟
ـ وَمَاذَا عَسَايَ أَنْ أَصْنَعَ يَا وَهِيبَةُ ؟
ـ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكْتُبَ مَا طَلَبَهُ مِنْكَ رَئِيسُهُمُ الْمُلْهَمُ 000
ـ وَأَزْعُمُ أَنَّنِي كُنْتُ عَمِيلاً يَا وَهِيبَةُ ؟
ـ لِتَنْجُوَ يَا سَالِمُ وَنَنْجُوَ مَعَكَ 000
ـ وَأَكْذِبُ يَا وَهِيبَةُ ؟ أَتَرْضَيْنَ لِي أَنْ أَكْذِبَ بَعْدَ السِّتِّينَ يَا وَهِيبَةُ ؟
ـ لا أَرْضَاهَا لَكَ وَاللهِ يَا أَخِي 000
ـ اصْبِرِي يَا وَهِيبَةُ وَلَكِ الْجَنَّةُ !!
ـ جَلَدُونِي ـ يَا سَالِمُ بَعْدَ أَنْ خَلَعُوا مَلابِسِي ـ عَشْرَةَ آَلافِ جَلْدَةٍ ، ثُمَّ حَكَمُوا عَلَيَّ بِالسِّجْنِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ 000
ـ احْتَسِبِي أَجْرَكِ عِنْدَ اللهِ يَا وَهِيبَةُ !!
ـ حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 0
ـ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ
ـ مَاذَا تَقُولُ يَا شَيْخُ ؟
ـ لا شَيْءَ أَيُّهَا الْحَارِسُ الطَّيِّبُ لا شَيْءَ 000
000000
000000
000000
خَارِجَ أَسْوَارِ السِّجْنِ الْحَرْبِيِّ تَجَمَّعَتْ عَشَرَاتُ الْعَرَبَاتِ الْمُدَرَّعَةِ وَالدَّبَّابَاتِ الْمُزَمْجِرَةِ ، وَنُصِبَتْ مِئَاتُ الْمَدَافِعِ وَالرَّشَّاشَاتِ ، وَوَقَفَ الْجُنُودُ الْمَغَاوِيرُ يُحِيطُونَ بِالأَسْوَارِ بَعْدَ أَنْ أَخْلَوُا الْمَنَازِلَ الْمُجَاوِرَةَ وَكَأَنَّهُمْ فِي حَمَاسِهِمْ سَوْفَ يَفْتَحُونَ عَكَّا بَعْدَ قَلِيلٍ 000
ـ ضَعْ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ الْقُيُودَ جَيِّدًا !!
ـ عَنْكَ يَا وَلَدِي ، لا تُتْعِبْ نَفْسَكَ !!
يَتَرَجَّلُ رَاسِخًا بَاذِخًا كَنَخْلَةٍ لا تُزَحْزِحُهَا الرِّيَاحُ دَاخِلاً غُرْفَةَ التَّنْفِِيذِ 000
يَضَعُ الْمُصْحَفَ فَوْقَ مِنْضَدَةٍ تَتَوَسَّطُ الْجِدَارَ الْمُوَاجِهَ 000
ـ شُدَّ الْحَبْلَ مُحْكَمًا حَوْلَ عُنُقِهِ !!
ـ أَنَا أَشُدُّهُ بِيَدَيَّ يَا وَلَدِي !!
ـ أَلا تَخَافُ أَيُّهَا الشَّيْخُ ؟
ـ مِمَّ يَا وَلَدِي ؟
ـ مِنَ الْمَوْتِ أَيُّهَا الشَّيْخُ ؟
ـ هِيَ الشَّهَادَةُ وَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ يَا وَلَدِي 000
ـ سَامِحْنِي يَا شَيْخُ !!
ـ رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ !!
000000
000000
000000
تَدَلَّى ـ فِي لَحْظَةٍ ـ رَأْسُهُ الصَّغِيرُ مِنَ الطَّوْقِ الْمَفْتُولِ بِإِحْكَامٍ كَعُصْفُورٍ يَسْقُطُ مِنْ فَوْقِ الْعُشِّ كَسِيرَ الْجَنَاحِ 000
مُبْتَسِمَةً تَبْدُو أَسَارِيرُ وَجْهِهِ ، كَطِفْلٍ فِي حُضْنِ أُمِّهِ ، رَاضِيًا فِي ارْتِيَاحٍ بِمَا كَانَ 000
كَنَسْمَةِ الرَّبِيعِ تُرَفْرِفُ رُوحُهُ خَارِجَةً مِنْ بَيْنِ الْقُضْبَانِ مُحَاوِلَةً أَنْ تَلْحَقَ بِذَلِكَ الْفَارِسِ الْمَلائِكِيِّ فَوْقَ جَوَادِهِ الأَبْيَضِ 000
كَآَيَاتٍ تُحَلِّقُ يَتَبَاكَى بِهَا مُحَمَّدٌ رِفْعَتُ بَعْدَ عَصْرِ نَهَارٍ رَمَضَانِيٍّ صَاعِدَةً مِنْ مِذْيَاعٍ بَيْنَ الْحُقُولِ ، تَنْدَاحُ ـ لِلْقَمَرِ ـ رُوحُ الشَّيْخِ سَالِمٍ لَطِيفَةً فِي السَّمَاوَاتِ الْبَعِيدَةِ 0