بحث حول الظاهرة الاجرامية
فارس حامد عبد الكريم
كان لتمثال اله الحرب (كانيوس Janus) في الامبراطورية الرومانية وجهين، الاول يتجه الى خارج حدود روما حيث يتربص بها العدو الاجنبي. بينما يتوجه وجهه الاخر نحو روما حيث يتربص بأبنائها العدو المحلي (المجرم) (1). وكان الرومان يؤمنون ايماناً راسخاً بأنهم لن يستطيعوا الصمود امام العدو الاجنبي مادام السوس ينخر في داخلهم.
اثارت الجريمة والظاهرة
الاجرامية اهتمام الانسان منذ القدم خاصة وان الحياة الانسانية على البسيطة ابتدأت بجريمة عندما قام قابيل بقتل اخيه هابيل. وبفعله هذا الذي ندم عليه فيما بعد ندماً شديداً، يكون قد اعلن عن فتح باب الصراع الازلي بين الخير والشر الذي ما برح مستمراً ليوما هذا وسيستمر لا محالة مادام الانسان موجوداً الى جانب اخيه الانسان الاخر.
وقد نظمت القوانين القديمة قواعد الجريمة والعقاب ومنها، قانون اورـ نمو وقانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) وسارت على ذات النهج قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م).
كما ونظمت بعض الاديان السماوية وغير السماوية قواعد الثواب والعقاب بالنسبة لاعمال المكلفين. قال تعالى (وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (2). أي أن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها القدرة على التمييز بين الفجور والتقوى.
ولهذا فان
الظاهرة الاجرامية ظاهرة تاريخية وواقعية وحقيقة انسانية دائمة،لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات في كل زمان ومكان ولا يمكن انهائها مطلقاً الا انه يمكن الحد منها الى مستويات مقبولة.
وتثير الجريمة اهتمام وانتباه كل الناس على حد سواء، بل ان اخبار الجرائم والروايات التي تتناول
الظاهرة الاجرامية هي الاكثر انتشاراً وتوزيعاً في الاوساط العامة من بين ما عداها من اخبار وروايات.
ان السبب في ذلك حسب اعتقادنا هو الاحساس العام بان الجريمة تمس شعور كل فرد من افراد المجتمع ولو لم تقع عليه الجريمة مباشرة، فالجريمة ابتداءاً،هي اعتداء على فكرة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التضامن بين ابناء المجتمع فضلا عن انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح والقيم داخل المجتمع بما تمثله من اعتداء على تلك المصالح والقيم.
ان اولى الابتكارات البشرية لمواجهة الجريمة بشكل واقعي هو القانون، فقد اولت التشريعات القديمة اهمية قصوى لتحديد الجرائم والعقوبات التي تناظرها، وكانت العقوبات في تلك القوانين بدائية وقاسية جداً. ويذهب عالم الاجتماع اميل دوركهايم الى ان دراسة التاريخ تؤكد انه كلما اقترب المجتمع من التحضر كانت العقوبة اقرب الى الرحمة، وكلما كان المجتمع متخلفاً برزت العقوبات البدائية التي تتميز بالعنف والقسوة،كما ان العقوبات تكون مشددة وقاسية كلما كانت السلطة مركزية اقوى. ومن ذلك ان العقوبات في النظم الدكتاتورية تكون ذات طبيعة انتقامية لدرجة الوحشية.
ان تطور النظم القانونية والعلمية التي تواجه الجريمة قد قابله في ذات الوقت تطور على ذات المستوى في الاساليب الاجرامية، فقد دخل العلم والتكنولوجيا والتنظيم المؤسسي الحديث عالم الاجرام واصبحت للجريمة منظمات دولية تمارس العمليات
الاجرامية عبر القارات.
وكتعبير عن اهتمام الانسان بالجريمة تناولت الاساطير القديمة
الظاهرة الاجرامية وفسرتها بطريقتها السحرية الميتافيزيقية، وفي القرون الوسطى ساد الاعتقاد بان سبب الجريمة هو الارواح او الشياطين الي تتلبس الانسان فيتحول بالنتيجة الى مجرم.
وفي العصور الحديثة كانت الجريمة والظاهرة
الاجرامية محل دراسة علوم مختلفة فقد اهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والقانون بدراسة وتحليل الظاهرة الاجرامية مما ادى الى نشوء علم مستقل هو علم الاجرام الذي تفرع بدوره الى ثلاثة فروع علمية تدرس الظاهرة الاجرامية هي علم الانثروبولوجيا الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي،كما اهتم العلماء في مختلف الاختصاصات العلمية بايجاد الوسائل العلمية والتكنلوجية اللازمة لرصد الجريمة وتتبع اثارها وصولاً الى الكشف عنها.
ان اعتماد المنهج العلمي التجريبي في علم الاجرام يقتضي تحديد اوجه
الظاهرة الاجرامية، والحال ان للظاهرة الاجرامية وجهين، وجه اجتماعي تبدو فيه الجريمة ظاهرة اجتماعية. ووجه فردي تبدو فيه الجريمة ظاهرة فردية تتمثل بالانسان المجرم، كما ان للعلم الحديث دوره في رصد الجريمة والظاهرة الاجرامية.
المبحث الاول
الاجرام والظاهرة الاجرامية
ان من بين اهم الوسائل اللازمة لمكافحة
الظاهرة الاجرامية هو دراستها دراسة علمية وتحديد خصائصئها وعناصرها وصولا الى تحديد الخصائص المشتركة بين جميع الظواهر الاجرامية، مما يسهل عملية تشخيص الظاهرة الاجرامية من قبل المختصين ورجال الشرطة وملاحقة مرتكبيها والقاء القبض عليهم لينالوا جزاءهم العادل على يد القضاء على ما ارتكبوه من جرائم بحق ابناء مجتمعهم او الاسرة الدولية عموماً.
تعريف
الظاهرة الاجرامية: يمكننا تعريف الظاهرة الاجرامية بانها، مشروع اجرامي احترافي يقوم على تكرار وقوع نوع معين من الجرائم، باسلوب اجرامي واحد، في منطقة جغرافية معينة، وفي فترات زمنية متعاقبة، وسواء قامت بها جماعة اجرامية واحدة او مختلفة.
اما الجريمة العادية فيمكن تعريفها مقارنة بالظاهرة
الاجرامية بانها مشروع اجرامي يبدأ وينتهي باكتمال الوقائع المكونة له ولا يحمل معنى التكرار في الغالب وان تضمن معنى الاستمرار.
فهي جريمة تقع من فاعل او عدد من الفاعلين على ضحية او عدد من الضحايا في وقت واحد او اوقات متقاربة ومكان واحد او امكنة قريبة وتنهي الجريمة باكتمال عناصرها. مثل قيام فاعل او عدد من الفاعلين بقتل شخص او مجموعة من الاشخاص.
وفي ضوء ما تقدم فان مجرد تعدد النشاط الاجرامي لا يشكل بحد ذاته ظاهرة اجرامية، ولا تعتبر الجريمة المستمرة ظاهرة اجرامية مثل استعمال الشخص لجواز سفر مزور لعدد من السنوات، ولا الجرائم المركبة مثل جريمة القتل تمهيداً للسرقة، والتعدد المادي للجرائم كما لو قتل المجرم عدة اشخاص في وقت واحد او اوقات متقاربة جداً ووقف عند حده، وكذلك حالة التعدد الصوري للجريمة كأنطباق اكثر من نص على جريمة واحدة، فهذه الصور من الجرائم لا تمثل ظاهرة اجرامية بالمعنى المقصود في تعريف
الظاهرة الاجرامية المتقدم ذكره.
كما ان الجريمة العادية تقع على ضحية واحدة او عدد محدد من الضحايا. في حين ان
الظاهرة الاجرامية تقع على عدد كبير من الضحايا وغير محدد سلفاً في الغالب.
والجريمة الاعتيادية تقع عادة في زمان واحد ومكان واحد او قريب من الفعل الاجرامي الاول ومع ذلك لا يغير من طبيعتها بعد المكان واختلاف الزمان مادام ان المشروع الاجرامي ينتهي بانتهاء الافعال المكونة له، كما لو قام شخص بقتل شخص في بغداد وسافر للبصرة وقتل شخص اخر، ووقف مشروعه الاجرامي عند هذا الحد.
في حين ان
الظاهرة الاجرامية لا يحدها زمان او مكان اي انها تتم في اوقات زمنية مختلفة او متعاقبة وتقع في منطقة جغرافية اوسع.
الجريمة العادية مشروع فردي في الغالب لا يتسم بالديمومة في حين ان
الظاهرة الاجرامية قد تكون مشروعاً فردياً وهذا امر نادر او مشروعاً جماعياً وهو الغالب وتتضمن معنى الديمومة والاحتراف المنظم حتماً.
خصائص
الظاهرة الإجرامية:
ان تحديد خصائص
الظاهرة الاجرامية ودراستها باسلوب علمي من اهم الوسائل للقضاء عليها اوالحد منها. ومن تحليل التعريف المتقدم ذكره للظاهرة الاجرامية يتضح انها تتميز بالخصائص الاتية:
اولاـ انها مشروع اجرامي احترافي: تقوم
الظاهرة الاجرامية على اساس احتراف جاني او عدد من الجناة، القيام بنوع معين من الجرائم، كاحتراف السطو على المصارف او سرقة السيارات، او ارهاب المواطنين.
ثانياً ـ انها مشروع منظم: تقوم
الظاهرة الاجرامية على اساس تنظيم اداري ومالي وتخطيط مسبق للجريمة، سواء كان هذا التنظيم بدائياً او متطوراً. فيتم قبل مباشرة المشروع الاجرامي توزيع الادوار المناطة بكل فرد من افراد العصابة. ويكون لذلك التنظيم مظاهر متنوعة فقد يتم تخصيص بعض افراد العصابة لجمع المعلومات الاولية عن الضحية والبعض الاخر للمراقبة بينما تتولى مجموعة اخرى مباشرة المشروع الاجرامي وقد تتولى مجموعة اخرى استلام محل الجريمة من المجموعة المنفذة، وقد يتطلب الامر مجموعة اخرى لتسويق محل الجريمة او التفاوض عليه.
وفي مجال
الظاهرة الاجرامية المؤدلجة كما في التنظيمات الارهابية التي تتسربل بسربال الدين فأنها تقوم على اساس تنظيم مؤسسي لا يفترق عن تنظيم اية مؤسسة اخرى من اشخاص القانون الخاص.