جَدَّتِي تَصْعَدُ لِلْقَمَرِ كُلَّ مَسَاءٍ










فِي الطَّرِيقِ مِنْ طَنْطَا إِلَى مَطَارِ الْقَاهِرَةِ ـ يَتَسَاءَلُ مُعَاذٌ فِي حَيْرَةٍ :
ـ لِمَاذَا عَاوَدْتُ الرُّجُوعَ هَذِهِ الْمَرَّةَ إِلَى جَدَّتِي
بَعْدَ أَنِ انْطَلَقَتْ السَّيَّارَةُ مُتَجَاوِزَةً بَيْتَهَا الْجَدِيدَ دُونَ أَنْ أَشْعُرَ ؟

لِمَاذَا طَالَ حُضْنُهَا الْجَمِيلُ ، وَأَوْصَتْنِي ـ فِي حَرَارَةٍ ـ أَلا أَبْكِيَ إِذَا ذَهَبَتْ لِمُلاقَاةِ جَدِّي ؟
000000
000000
000000
الذِّكْرَيَاتُ الْبَعِيدَةُ تَتَدَاعَى كَمَوْجَةِ بَحْرٍ بَاحِثَةً عَنْ آخِرِ مَرْسَى 000
بَعْدَ صَلاةِ كُلِّ جُمْعَةٍ ـ تَجْتَمِعُ الأُسْرَةُ وَالأَقَارِبُ وَالْجِيرَانُ عَلَى قِطَعِ الْجُبْنِ الْبَيْتِيِّ ، وَالْجَرْجِيرِ الطَّازَجِ ، وَالزُّبْدَةِ ، وَالْقِشْدَةِ ، وَالْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ ، وَالحَلِيبِ الصَّافِي ، وَاللَّبَنِ الرَّائِبِ ، وَصِينِيَّةِ الْبَطَاطِسِ بِالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الْبَلَدِيِّ ، وَالْحَمَامِ الْمَحْشِيِّ ، وَالأَرَانِبِ الْمُحَمَّرَةِ
اللَّذِيذَةِ 000

وَفِي الأَعْيَادِ تُذْبَحُ الْخِرَافُ السَّمِينَةُ ، وَذُكُورُ الْمَاعِزِ ، وَتُقَامُ الْمَوَائِدُ لِكُلِّ مَنْ يَطْرُقُ بَابَ الأُسْرَةِ الْمَفْتُوحَ دَائِمًا أَبَدًا ، وَالْجُودُ
بِالْمَوْجُودِ 000

كَانَ الْمَالُ قَلِيلاً ، وَالْخَيْرُ كَثِيرًا ، وَالْحُقُولُ تَمْنَحُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ ثِمَارَهَا الْوَفِيرَةَ 0000
فِي بَسَاطَةٍ ، بَعْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ ، مُجْهَدِينَ ـ يُلْقُونَ أَجْسَامَهُمْ فَوْقَ الأَسِرَّةِ النُّحَاسِيَّةِ فِي
ارْتِيَاحٍ 000

لا تَشْغَلُ بَالَهُمْ مَتَاعِبُ الْحَيَاةِ ، وَلا تُعَكِّرُ ـ صَفْوَ أَرْوَاحِهِمْ ـ أَحْلامٌ بَعِيدَةٌ 000
يَتَشَاجَرُ الأَطْفَالُ كُلَّ لَيْلَةٍ 000
يَتَسَابَقُونَ إِلَى أَوَّلِ السَّرِيرِ 000
يَنْظُرُونَ ـ فِي حَسْرَةٍ ـ مَنْ يَفُوزُ اللَّيْلَةَ بِحُضْنِ الْجَدَّةِ الْحَنُونَةِ 000
دَائِمًا كَانَ مُعَاذٌ يُنْهِي عَشَاءَهُ مُبَكِّرًا ، وَيُسْرِعُ إِلَى طَرَفِ السَّرِيرِ ، حَيْثُ تَرْقُدُ فِي دِفْئِهَا ، مُتَجَاهِلاً تَوَسُّلاتِ الصِّغَارِ أَنْ يَتَنَازَلَ لَهُمْ عَنْ صَدْرِهَا الْعَطُوفِ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي الْبَارِدَةِ 0
لا يَدْرِي الآنَ كَيْفَ كَانَ هَذَا السَّرِيرُ الْعَتِيقُ الضَّيِّقُ يَكْفِي هَؤُلاءِ الْخَمْسَةَ الْعَفَارِيتَ ؟
وَكَيْفَ كَانَتْ جَدَّتُهُ الْبَسِيطَةُ قَادِرَةً ـ دُونَ مَلَلٍ ـ أَنْ تَصْعَدَ كُلَّ مَسَاءٍ لِلْقَمَرِ ، وَهُمْ مَبْهُورُونَ بِمَا تَقُصُّ مِنْ حِكَايَاتٍ دَافِئَةٍ ؟000
000000
000000
000000
أَمَامَهُمْ عَلَى السَّرِيرِ الصَّغِيرِ يُتَابِعُ الْجَدُّ الرَّحِيمُ أَحَادِيثَ الصِّغَارِ وَضَحِكَاتِهِمْ فِي سُرُورٍ ، وَكُلَّمَا تَوَقَّفَتِ الْجَدَّةُ نَهَرَهَا مَازِحًا :
ـ احْكِ لَهُمْ حَتَّى يَشْبَعُوا ، لا تَتَوَقَّفِي حَتَّى
يَنَامُوا !!

تَرُدُّ فِي دُعَابَةٍ :
ـ إِذًا فَلْتَأْتِ أَنْتَ وَتَحْكِي بَدَلاً مِنِّي إِنْ شِئْتَ !!
ـ أَكْمِلِي مَا بَدَأْتِ مِنْ حِكَايَاتٍ ، وَفِي الصَّبَاحِ أُكْمِلُ لَهُمْ أَشْعَارَ أَبِي زَيْدٍ ، وَعَنْتَرَةَ ، وَأَغَانِيَ الأَعْيَادِ وَالأَفْرَاحِ وَمَوَاسِمِ الْحَصَادِ ، إِنْ شَاءَ
اللهُ 0

تُوُزِّعُ الْجَدَّةُ الطَّيِّبَةُ أَعْضَاءَهَا وَعَطْفَهَا
عَلَيْهِمْ فِي رِفْقٍ ، فَهَذَا يَحْتَضِنُ أَصَابِعَ يُمْنَاهَا ،
وَالآخَرُ يُسْرَاهَا ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ يَقْتَسِمَانِ رِجْلَيْهَا ، وَمُعَاذٌ ـ وَحْدَهُ ـ يُخْفِي صَدْرَهُ الصَّغِيرَ بَيْنَ صَدْرِهَا فِي بَرَاءَةِ الْعَصَافِيرِ ، مُطِلاً بِرَأْسِهِ مِنْ وَقْتٍ لآخَرَ ، نَاظِرًا إِلَيْهِمْ فِي ابْتِسَامَةٍ مَاكِرَةٍ ، غَامِزًا بِحَاجِبَيْهِ ، مُنْتَشِيًا بِفَوْزِهِ
الْكَبِيرِ وَالنَّوْمِ فِي أَمَانٍ جِوَارَ جَدَّتِهِ هَذِهِ
اللَّيْلَةَ أَيْضًا 000

لا يَذْكُرُ يَوْمًا أَرَادَ فِيهِ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنَامَ فِي الْحُجْرَةِ الْمُجَاوِرَةِ حَيْثُ يَغُطُّ الْوَالِدَانِ مِنْ شِدَّةِ تَعَبِ النَّهَارِ فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ فِي الْغُرْفَةِ
الْمُظْلِمَةِ 000

000000
000000
000000
فِي الطَّرِيقِ مِنْ مَطَارِ الْقَاهِرَةِ ـ يَبْتَسِمُ مُعَاذٌ
لِلأُمِّ ، شَارِدًا فِي الْفَضَاءَاتِ الْبَعِيدَةِ ، مُتَطَلِّعًا لِلْقَمَرِ الْحَزِينِ ، وَحَوْلَهُ النُّجُومُ كَاسِفَاتٌ فِي شُجُونٍ 0

ـ أَيْنَ جَدَّتِي ؟ لِمَاذَا لَمْ تَأْتِ مَعَكُمْ ؟
ـ هِيَ تَدْعُو لَكَ 0
تُهَدِّئُ السَّيَّارَةُ أَمَامَ الْبَيْتِ الْقَدِيمِ 000
يَقْفِزُ مُسْرِعًا دَاخِلاً حُجْرَةَ جَدَّتِهِ ، مُسْتَسْلِمًا
لِلْبُكَاءِ ، نَاظِرًا إِلَى صُورَتِهَا الْمُعَلَّقَةِ مُدَوَّنًا أَسْفَلَهَا تَارِيخُ الْوَفَاةِ ، يُلْقِي رَأْسَهُ الْمُلْتَهِبَ فَوْقَ لِحَافِهَا الْقُطْنِيِّ ، مُسْتَغْرِقًا يَشَمُّ عَرَقَ ثَوْبِهَا الأَخِيرِ 000

يَشُقُّ الزِّحَامَ ، دَافِعًا وُجُوهَ الْمُحِيطِينَ الْمُتَزَاحِمِينَ لِتَقْدِيمِ الْعَزَاءِ لَهُ 000
ـ سَلِّمْ أَمْرَكَ ِللهِ !!
ـ إِنَّا ِللهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ 0
ـ اصْبِرْ يَا وَلَدِي !!
ـ الْبَقَاءُ ِللهِ 0
ـ عَوَّضَكُمُ اللهُ خَيْرًا 0
يُسْرِعُ نَحْوَ الْحُقُولِ ، مُسْتَدْعِيًا صُورَةَ سِتِّ الْحُسْنِ ، وَذَاتِ الْهِمَّةِ ، وَقَطْرِ النَّدَى 0
ـ قُلْتُ لَكَ لا تَبْكِ إِذَا ذَهَبْتُ لِمُلاقَاةِ جَدِّكَ ،
أَنَسِيتَ ذَلِكَ ؟

فِي وَجَعٍ لا يَنْتَهِي ، أَمَامَ قَبْرِهَا الدَّافِئِ بَيْنَ أَعْوَادِ الرَّيْحَانِ الْخَضْرَاءِ ـ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ ، غَارِسًا ـ فِي سَلامٍ ـ شَجَرَةَ صَبَّارٍ0