[align=justify]الأساليب العلمية الحديثة في تحديد مرتكبي التفجيرات الإرهابية
أولا: المقدمــة
ليس هناك موضوع أكثر خطورة من موضوع الإرهاب والتطرف على الساحة العربية، حيث أصبح يشكل مصدراً من أهم مصادر التهديد للأمن الوطني، وقد اتسعت دائرته في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث شهد العالم العديد من الأعمال الإرهابية المخططة والمنظمة التي تسعى إلى تحقيق أغراض سياسية وتمتد عبر الحدود الوطنية للعديد من الدول منتهكة أمن وسلامة الشعوب وحقوق أفرادها (عيد، 2001م).
ومما يزيد من خطورة الإرهاب استخدام مرتكبيه أكثر الأسلحة تدميراً وهي المتفجرات، بالإضافة إلى قيامهم بأعمال انتحارية في بعض الأحيان (البشرى، 2004م). وهذا مما لاشك فيه يزيد التحدي أمام رجال الأمن للوصول إلى الحقيقة في سبيل التصدي لهم.
هذا وفي ضوء التغيرات الحتمية لنواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وما يرافقها من تطور حضاري مصحوب بتطور تقني وتأكيد قانوني وتطبيقي لحقوق الإنسان واحترام كرامته وحريته ـ في ضوء ذلك لم يعد بوسع الدول وأجهزتها الأمنية الاعتماد على الوسائل القديمة لكشف غموض الجرائم سواء من ناحية عدم شرعيتها أو من ناحية عدم كفاءتها.
وعليه فقد جندت الدول جميع إمكاناتها المادية والبشرية للاعتماد على أساليب جديدة لكشف مرتكبي الجرائم وضبطهم تتصف بالدقة والنزاهة، واحترام حقوق الإنسان في سبيل الوصول إلى الحقيقة والعدل وفق أسس علمية سليمة ومقبولة لدى الجميع.
لقد اتجهت أجهزة العدالة الجنائية والأمنية في دول العالم إلى التركيز على الآثار والأدلة المادية الملموسة والمحسوسة التي قال عنها أب علوم الأدلة الجنائية بول كرك Paul Kirk «ليس فقط بصمات أصابعه وطبعات حذائه، ولكن أيضاً شعره وألياف ملابسه .... إلخ، كل هذه وغيرها تمثل شهوداً صامتين ضده. إنها الأدلة المادية التي لا تنسى ولا ترتبك بالأحداث. إنها حاضرة دائماً وليست غائبة كما هو الحال في الشاهد البشري. إنها الأدلة الحقيقية التي لا يمكن أن تخطئ ولا تقسم يميناً كاذبة، ولا تغيب عن الحدث. فقط في تفسيرها تحدث الأخطاء. فقط الفشل البشري في البحث عنها أو في دراستها أو في فهمها هو الذي يقلل من قيمتها» (Kirk, 1974, P.6).
لم يعد ذلك التركيز من قبل الأجهزة الأمنية على الأدلة المادية كافياً بحد ذاته، بل لابد من متابعة التطورات التقنية الحديثة أولاً بأول، واستغلال تلك التطورات في خدمة الأمن والعدالة، وعن طريق تجنيد القوى البشرية المؤهلة تأهيلاً علمياً ملماً بما ذكره «كرك» من أهمية للآثار في مسارح الحوادث، بالإضافة إلى تأمين الأجهزة والتقنيات العلمية الحديثة وتدريب القوى البشرية المؤهلة عليها ـ عن طريق ذلك يتم إدراك ومعرفة أساليب علمية حديثة تساعد على تحديد مرتكبي التفجيرات الإرهابية.
ومن تلك الأساليب على سبيل المثال أسلوب تحديد نوع ووزن المادة المتفجرة، وأسلوب استخدام أشعة الليزر للبحث عن الآثار، وأسلوب رفع البصمات من على الجثث بواسطة أشعة الليزر (Wilgus, 2002)، وأسلوب إعادة هيكلة وتحديد نوع وموديل السيارة المستخدمة في التفجير، وأسلوب الفحص والربط بين المقاذيف والمظاريف الفارغة المعثور عليها في مسارح حوادث تفجير مختلفة وتحديد إذا ما كانت راجعة إلى سلاح معين وذلك عن طريق جهاز البولت بروف (Bullet Proof)، وأساليب إظهار السمات الوراثية عن طريق تقنيات الحمض النووي (DNA) Deoxyribo Nuclic Acid ومنها:
أ – تقنية تنوع أطوال المادة الوراثية المجزأة Restriction Fragment length polymorphism “RFLP” (Lincoln & Thomson, 1998) .
ب- تقنية التفاعل التسلسلي المبلمر Polymerase chain Reaction “PCR” (Epplen & Lubjuhn, 1999) .
ج- تحديد المادة الوراثية الموجودة في الميتوكوندريا (Mitochondrial DNA) (كينغستون، 1420هـ).
د- تحديد السمات الوراثية الموجودة على الكروموسوم الذكري Y-Chromosomal DNA (Epplen & Lubjuhn, 1999) .
هـ- تحديد السمات الوراثية على مستوى النيوكليوتيده الواحدة Single Nucleotide Polymorphism “SNPs” (Butler, 2001) .
ومن ثم فإن الباحث يرى أنه من الأهمية بمكان معرفة تلك الأساليب العلمية الحديثة المبنية على التعامل مع محتويات مسرح الحادث التفجيري، والبحث فيها، وتوضيح أنواعها، وأهميتها، ومعوقات تطبيقها، لكي يستفيد منها جميع منسوبي الجهات التي تباشر تلك الحوادث ويتمكنوا من أخذها في الحسبان وتطبيقها فور الانتقال إلى مسرح الحادث التفجيري، الأمر الذي سيؤدي ـ بإذن الله تعالى ـ إلى تحديد مرتكبي تلك الحوادث، ومن ثم الحد من عملياتهم الإرهابية وخطرهم على الأمم والشعوب.
ثانياً: مشكلة الدارسة
مع قدم العمليات الإرهابية، إلاَّ أنها أخذت تفرض نفسها على المجتمع الدولي في العصر الحديث وتهدد أمنه واستقراره، ومع ما حظيت به هذه العلميات من اهتمام إقليمي ودولي؛ حيث طرحت خلال العقود الثلاث الماضية العديد من المؤتمرات الدولية واللقاءات الإقليمية والتنظيمات التشريعية، وأبرمت العديد من الاتفاقيات الإقليمية والمعاهدات الدولية والاستراتيجيات الشاملة والخطط والبرامج لمواجهة مخاطر الإرهاب، إلاَّ أن تلك العمليات الإرهابية لا تزال تهدد أمن المجتمعات واستقرارها.
فبعد أخطر التفجيرات الإرهابية وأشنعها وهو اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001م الذي تمكن فيه الجناة من اختطاف أربع طائرات مدنية أمريكية والاصطدام باثنتين منها في برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك (World Trade Center) والاصطدام بالثالثة في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية (Pentagon)، بينما لم تتمكن الرابعة من إصابة هدفها وسقطت أو أسقطت في أرض فضاء نجد العديد من العمليات الإرهابية تقع في العديد من دول العالم ومنها على سبيل المثال:
1- التفجيرات الإرهابية التي وقعت في لبنان ومن أشنعها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في تفجير موكبه بتاريخ 14/2/2005م.
2- التفجيرات الإرهابية التي وقعت في العراق ولا تزال تقع بمعدل شبه يومي.
3- التفجيرات الإرهابية التي وقعت في جمهورية مصر العربية ومن أهمها تفجير فندق هيلتون طابا في 7 أكتوبر 2004م، وحادث تفجير خان الخليلي في 17 إبريل 2005م، وتفجيرات شرم الشيخ في 23/7/2005م.
4- التفجيرات الإرهابية التي وقعت في المملكة العربية السعودية ومنها:
أ – انفجار سيارة ملغومة بمجمع مخصص لسكن أمريكان بحي العليا في 13/11/1995م.
ب- انفجار أبراج الخبر في 25/6/1996م.
ج- انفجار عبوة ناسفة في منزل بحي الجزيرة في 18/3/2003م.
د- ثلاثة انفجارات متزامنة في ثلاثة مجمعات سكنية بمدينة الرياض في 12/5/2003م.
هـ- انفجار مجمع المحيا السكني في 7/11/2003م.
و- انفجار مبنى الإدارة العامة للمرور في 21/4/2004م.
ومما يزيد من مخاطر الإرهاب وانتشار عملياته ما طرأ على العالم من تطورات في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما صاحب هذه التطورات من إنجازات تكنولوجية استغلها الإرهابيون في مجال النقل والاتصالات والتسليح وترويج الأفكار والمعتقدات؛ وهو ما سهل تنوع أهداف عملياتهم الإرهابية وزيادة احتمالات وقوعها وزيادة خطورتها، ونتائجها السلبية وسهولة ارتكابها، وأهم من كل ذلك صعوبة تحديد مرتكبيها وتعقبهم وتقديمهم للعدالة.
يضاف إلى ذلك السبب المهم وراء تزايد مخاطر العمليات الإرهابية وصعوبة تحديد مرتكبيها سبب آخر وهو طبيعة مسرح الحادث التفجيري؛ فهو يعتبر من أعقد مسارح الحوادث معاينة وفحصاً للعديد من الأسباب التي من أهمها :
1- جسامة الآثار التدميرية الناتجة من تلك التفجيرات.
2- الوفيات والإصابات التي تصاحب حدوث التفجيرات.
3- الارتباك الشديد في الأوساط ذات العلاقة فور وقوع التفجير.
4- الحريق الذي غالباً ما يصاحب حدوث الانفجار.
5- الجمهور الفضولي لمشاهدة الأحداث عن قرب.
6- وسائل الإعلام المتنافسة على السبق في نشر الخبر.
7- تعدد الجهات التي تباشر الحادث التفجيري فور وقوعه ومنها على سبيل المثال: المباحث العامة، وقوات الطوارئ، وقوات الأمن الخاصة، والدفاع المدني، والمرور، والمحققون، والدوريات الأمنية، ووزارة الصحة، وشعب إبطال المتفجرات، والهلال الأحمر، وفرق الأدلة الجنائية.
والحق أن ما سبق هو تحديات واقعية تعترض سبل الجهات المختصة في الحد من العمليات الإرهابية، ولا سبيل إلى التغلب عليها من وجهة نظر الباحث إلاَّ باستخدام الأساليب العلمية الحديثة التي أشار إليها الباحث فيما سبق، وهي التي تؤدي إلى كشف الأدلة العلمية التي توجد الصلة بين الإرهابي وجريمته. فكل من يتعامل مع مسرح الحادث التفجيري ينبغي أن يكون ملماً بتلك الأساليب العلمية الحديثة ودورها في تحديد مرتكبي التفجيرات الإرهابية ومتطلبات تطبيقها؛ لأن الاعتماد على الطرق التقليدية أو العشوائية في إدارة مسرح الحادث التفجيري والتعامل مع آثاره لا تواكب ما توصل إليه الإرهابيون من استغلال للتطور العلمي والتقني في تنفيذ عملياتهم الإجرامية.
ويرى الباحث من واقع خبرته ومباشرته عدداً من الحوادث التفجيرية، ودراسته وملاحظته حوادث أخرى عالمية يرى أن بعض من يتعاملون مع مسرح الحادث التفجيري لا يولون تلك الأساليب العلمية الحديثة اهتماماً؛ وهو ما يشير إلى عدم إلمامهم بها، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إفلات مرتكبي تلك العمليات الإرهابية من أيدي رجال الأمن ولو لفترة بسيطة قد يرتكبون خلالها أعمالاً إرهابية أخرى. وخير دليل على ذلك ما وقع في مسرح حادث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 شباط 2005م، حيث أشار تقرير لجنة تقصي الحقائق 24 مارس 2005م (إمام، 2005م) إلى التالي :
1- إخفاق السلطات المعنية في إخلاء مكان التفجير من الناس وتوفير الحماية الكافية لحفظ الأدلة المتاحة.
2- إجلاء السيارات الست الخاصة بالموكب من ساحة الانفجار؛ وهو ما أدى إلى تعذر تحليل الانفجار وجمع الأدلة من الموقع.
3- تدخل الجنود والشرطة والمخابرات ومعهم خبراء المتفجرات وإزالتهم أشياء قد يكون لها قيمة كأدلة دون توثيقها توثيقاً ملائماً.
4- تدفق المياه على موقع الانفجار (الحفرة التي نشأت)؛ وهو ما أدى إلى تضرر بل إزالة الأدلة الحيوية.
5- إحضار قطع من شاحنة صغيرة ووضعها من قبل رجال أجهزة الأمن في وقت ما بعد الحادثة داخل الحفرة وتصويرها على أنها أدلة.
6- قيام عدد كبير من الأفراد والمدنيين بالسير حول مسرح الجريمة وعدم وجود سجل لتسجيل الأشخاص الذين اقتربوا من مسرح الجريمة أو دخلوه أو غادروه.
7- موقع الجريمة لم يدر إدارة سليمة ولم يتم المحافظة عليه؛ ولذلك أزيلت منه أدلة مهمة أو دمرت دون توثيقها.
وفي الحقيقة لم تكن تلك المشكلة وليدة اللحظة؛ فقد أصاب معدو الاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب التي أقرها أعضاء مجلس وزراء الداخلية العرب في دورته الرابعة عشرة في تونس طبقاً للقرار رقم 271 يناير 1997م، عندما أوردوا في «البند أولاً» السياسة الوطنية الفقرة (د) تحديث جهاز الأمن وتطوير أساليب عمله مثل توفير احتياجات جهاز الأمن من المعدات والتقنيات الحديثة في الكشف عن المتفجرات والتعامل معها. وكذلك عندما أوردوا في الفقرة (هـ) «البحث العلمي» من البند ذاته متابعة التطور العلمي لتوظيف التقنيات الحديثة في العمل الأمني (عيد، 2001م، ص5).
وأتضح من خلال ما سبق عرضه أن مشكلة هذه الدراسة يمكن صياغتها في السؤال الرئيس الآتي وهو: ما دور الأساليب العلمية الحديثة في تحديد مرتكبي التفجيرات الإرهابية ؟
ثالثا: أهمية الدراسة
تكمن أهمية هذه الدراسة في التوصل إلى الأساليب العلمية الحديثة لمعرفة مرتكبي حوادث التفجيرات الإرهابية، وتوضيحها مع إثبات أهميتها ومتطلبات نجاحها، وجعلها في متناول أيدي كل من يتعامل مع مسارح حوادث التفجيرات الإرهابية؛ وهو ما سيجعل من يتعامل مع مسارح حوادث التفجيرات الإرهابية على علم ودراية بتلك الأمور، ومن ثم أخذها في الحسبان فور الانتقال إلى مسارح حوادث التفجيرات، والتركيز عليها وتطبيقها في كل حادث تفجير إرهابي، الأمر الذي سيؤدي دوراً مهماً بإذن الله تعالى في تحديد مرتكبي تلك الحوادث، وبالطبع في معرفة انتمائهم وأهدافهم وحلقاتهم التنظيمية ومصادر تمويلهم ونحو ذلك من أجل السيطرة عليهم ودرء عملياتهم المستقبلية.
فالدراسة لها أهمية نظرية علمية، وأخرى تطبيقية عملية نلخص أهمها فيمـا يلـــي:
[/align]