[align=justify](ملحوظة هامة )

(هذه الورقة مازالت في المراحل الأولى للبحث، ولا يجب النظر إليها على أنها ورقة بحثية)
د.محمد السقا

القيت الورقة في سيمنار بكلية العلوم الادارية مارس 1999

غسيل الأموال واقتصاديات الجريمة المنظمة

إعداد
أ.د./محمد إبراهيم السقا
قسم الاقتصاد
كلية العلوم الإدارية

1/1 - الجريمة المنظمة

يستخدم تعبير الجريمة المنظمة ليعكس أكثر من معنى بواسطة الباحثين. فالبعض يستخدمه لكي يعكس مجموعة العلاقات بين المنظمات غير القانونية، بينما يستخدمه البعض الآخر لكي يعكس مجموعة الأنشطة غير القانونية التي تقوم بها مجموعات معينة. وبالرغم من أن الجريمة العادية تتم بهدف الاستيلاء على ممتلكات الغير وتهدف إلى عملية إعادة توزيع غير قانونية للموارد، فان الجريمة المنظمة تظهر بهدف القيام بمجموعة من الأنشطة التي يوجد لها طلب مستمر. ويمكن النظر إلى المنظمة الإجرامية على أنها تمثل منشأة محكمة التنظيم والتركيب، تتمثل أعمالها في إنتاج سلع أو خدمات غير قانونية لمجموعة خاصة من لمستهلكين .

وبشكل عام فان الفرق بين الجريمة المنظمة والعادية هو أن أصحاب الجريمة المنظمة يهدفون أساسا إلى السيطرة على الهيكل العام للاقتصاد التحتي. على أن المنظمة الإجرامية تتصف بأنه نشاطها يقوم على أساس احتكاري في منطقة النفوذ، سواء أكانت منطقة جغرافية أو اقتصادية، بالشكل الذي يمكنها من فرض الضرائب (إتاوات) أو فرض نظم معنية على مشروعات الأعمال القانونية وغير القانونية. من ناحية أخرى فان نشاط المنظمة الإجرامية يتطلب بالضرورة استخدام العنف أو التهديد باستخدام العنف بهدف فرض الوضع الاحتكاري للمنظمة على منطقة النفوذ. وعلى ذلك فان تركيز أعمال المنظمات الإجرامية في الأسواق غير القانونية لا يرجع بالدرجة الأولى لسيطرتها المباشرة على عمليات الإنتاج والتوزيع في تلك الأسواق، بقدر ما يرجع إلى أن المتعاملين في الأسواق غير القانونية لا يمكنهم اللجوء إلى السلطات الأمنية لحماية أنفسهم من العنف كما انهم لا تستطيعون أن يخفوا أنفسهم في ذات الوقت لحاجتهم إلى الإعلان عن أعمالهم لجذب المستهلكين إلى أسواقهم.

على أن Reuter (1983) (في Fiorentini, G & Peltzman, S (1995))، يرى أن الجريمة المنظمة تتكون من المنظمات التي لها القدرة على الاستمرارية وذات التسلسل الهرمي في هيكل الترتيب من حيث المسئولية أو القيادة، وتشترك في العديد من الأنشطة الإجرامية. على أن هذا التعريف للجريمة المنظمة يتسم بأنه عام ولا يوضح نوعية الأسواق أو الأنشطة الإجرامية ولا يشير إلى وجود العلاقات الوثيقة بين الجريمة المنظمة من جانب والأسواق غير القانونية من جانب آخر، أو الاتجاه نحو الاحتكار في الاقتصاد الخفي من الجانب الآخر، بالرغم من أن التعريف اكثر تحديدا حيث يخرج من إطار الجريمة المنظمة المنظمات الإجرامية التي لا تتسم بالاستمرارية أو ليس لها هيكل هرمي. غير أن هذا التعريف مقيد لان هناك دلائل على عمل بعض المنظمات الإجرامية في الأنشطة القانونية مثل إنتاج المدخلات الأساسية في بعض الصناعات أو تنظيم عمليات الاحتيال على نطاق واسع للاستفادة من خطط الدعم الحكومي مثلا.

1/2 - عصابات المافيا

يعتقد أن المافيا نشأت في سيسلي في أواخر القرون الوسطي في البداية من خلال قيام الإقطاعيين بتأجير مجموعات من الرجال أقوياء، والذين استقلوا فيما بعد وكونوا مجموعات مستقلة في المناطق الريفية. وفي شكلها الحالي فان المافيا عبارة عن مجموعات محلية صغيرة بينها نوع من الاتحاد، وغالبا ما تكون هناك علاقة قرابة بين أفراد المجموعة الواحدة، أو تتكون هذه الصلة بمجرد أن ينضم عضو جديد إلى المجموعة. ويتمثل الصمت المطلق عن أنشطة المافيا بالإضافة إلى الطاعة العمياء لنسق الترتيب القيادي في المجموعة أهم القواعد المتعارف عليها بين الأعضاء. وفي العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن ازدهرت أنشطة المافيا في المناطق الريفية في سيسلي، وقد حاول النظام الفاشستي القضاء عليها عندما اجتاح سيسلي في الحرب العالمية الثانية.

ومع هجرة السيسليين في نهاية القرن التاسع عشر بدأت تمارس المافيا أنشطتها في العديد من المدن الكبرى في الولايات المتحدة. وقد ترتب على عمليات المنافسة بين اسر المافيا إنشاء نوع من التقسيم المتعارف عليه حول مناطق النفوذ. وتتم عملية الاتفاق عادة أما بالتفاوض أو بالإرهاب. ويعتقد انه خلال الثلاثينيات تم إرساء الهيكل المؤسسي الذي يشكل الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة .

وتنتشر أنشطة المافيا عبر معظم دول العالم تقريبا. وقد يصل نفوذها مكانة عالية تهدد نفوذ الحكومات الرسمية، أو بالصورة التي تمكنها من السيطرة على مجريات الأمور في المقاطعات الجغرافية التي تفرض سيطرتها عليها. على سبيل المثال تسيطر المافيا حاليا على معظم أنشطة الأعمال والصناعة في مدن سيسلي. كذلك شكلت عصابة مافيا كالي Cali ( نسبة إلى مدينة كالي في كولومبيا ) المستلم الأساسي لإيرادات المخدرات من الولايات المتحدة. وحتى وقت قريب كانت تلك العصابة مسئولة عن 80% من الكوكايين الذي يباع في شوارع الولايات المتحدة. وتتم السيطرة على هذه الأموال من خلال هيكل من المحاسبين المهرة، والذي يتبعون القواعد المصممة بواسطة زعماء عصابة مافيا كالي لتتبع اثر كل دولار في الشبكة الدولية لعملية نقل الأموال التابعة لهم. ويتم نقل مليارات الدولارات سنويا إلى كولومبيا وبصفة خاصة كالي، والتي تستخدم في شراء أصول حقيقية في النهاية. على سبيل المثال فان ناطحات السحاب الحديثة تملأ سماء كالي والعديد منها ما زال خاليا. كما انه لم يتم بناء أي منها من خلال القروض العقارية.

وحينما اصدر قانون سرية البنوك في الولايات المتحدة والذي يقضي بضرورة ملأ تقرير عن المودعات التي تزيد عن 10000 دولار، قامت العصابة بتشكيل شبكة جديدة لعمليات غسيل إيرادات تجارة المخدرات. وفي البداية اتبعت العصابة أسلوب الـ smurfing حيث يتم تأجير العديد من الأشخاص للانتقال بين البنوك المختلفة وإيداع مبالغ نقدية تقل قليلا عن 10000 دولار. وبحسبة بسيطة فان مجموعة من عشر أشخاص smurfs يمكنها أن تنتقل بين عشرة بنوك يوميا وبالتالي إيداع مليون دولار يوميا، ومن ثم تحويلها بسهولة إلى الخارج. غير أن هذا النظام اصبح غير مناسب ومرتفع المخاطرة مع تحقيق عصابة كالي السيطرة على تجارة الكوكايين في الولايات المتحدة في التسعينيات، وارتفاع أرباح تجارة المخدرات بصورة كبيرة.

ولكي تحل جانبا من مشكلات التحويل لديها قام تجار المخدرات بشراء أسطول طائرات ضخمة مثل البوينج 727. وقد تم استخدامها في نقل الكوكايين إلى المكسيك وكندا والبرتغال وجنوب أفريقيا وكذلك للبيع في الولايات المتحدة وأوروبا. وعندما يتم تفريغ الكوكايين يتم شحن الطائرات بالدولارات من أرباح التجارة والتي تصل في بعض الأحيان بين 20-30 مليون عائدة إلى كولومبيا. وقد استمرت عمليات شحن الطائرات بالنقد باعتبارها الوسيلة الأساسية لنقل النقود. وقد استعملت العصابة وسائل أخرى مثل التحويلات البريدية وتزييف فواتير التجارة الخارجية وغيرها من الأساليب. إلا أن القبض على زعماء عصابة كالي في عام 1995 وإصدار قانون غسيل الأموال في كولومبيا أدى إلى التأثير على حجم الأموال التي تعود إلى كولومبيا، وان كان الأثر طويل الأجل لا يمكن تقييمه بعد

1/3 - أرباح الجرائم المنظمة:

وترتفع معدلات الأرباح على إنتاج المواد المخدرة بصورة كبيرة بالمقارنة بباقي الأنشطة الاقتصادية. على سبيل المثال فان سعر الجملة للكيلو جرام من الهيروين النقي يبلغ 400000 دولار في الولايات المتحدة ( عام 1990) يرتفع إلى 2.2 مليون إذا ما تم تخفيض درجة النقاوة إلى 6%. وفي دراسة عن أربعة مدن هي نيويورك ونابولي وباريس ولندن وجد أن هوامش الربح هي 370% للمستوردين، 135% لتجار الجملة، 90% للموزعين، 54% للمتعاملين في الشوارع street dealers و 40% للمتعاملين بالوزن weight dealers أما الموزعين على المستهلكين فيحققون معدلات ربح تصل إلى حوالي 12% .

وبسبب هذه الأرباح الضخمة أصبحت منظمات تجارة المخدرات ثرية وقوية بمرور الوقت بالدرجة التي جعلت منها منافسا للحكومات الشرعية في الكثير من الدول من حيث القدرة على التأثير والسيطرة. حيث تستخدم أموالها وثرواتها الضخمة في أضعاف الحكومات والمؤسسات التجارية. وهو ما يعبر عن حالة كولومبيا والى درجة كبيرة المكسيك. وتستغل الجريمة المنظمة الفساد الإداري لتحقيق الكثير من أهدافها. وهي مشكلة لا تقتصر على الدول النامية فقط بل تعاني منها أيضا الدول المتقدمة. ففي الدول النامية عادة ما تكون مرتبات رجال الأمن منخفضة، ويصعب على البعض مقاومة إغراء المال في ظل تلك الظروف، أو مقاومة سطوة عصابات المافيا. كما قد لا تتوافر للسلطات الأمنية في الدول النامية الخبرة أو الموارد الكافية التي تمكنها من تتبع أنشطة منظمات تجار المخدرات. وهو ما قد يجعل منها هدفا لتلك المنظمات الغنية. على سبيل المثال في نوفمبر 1995 تم ضبط طائرة شحن كبيرة في المكسيك تحمل 17 طنا من الكوكايين المهرب من كولومبيا، وقد تم التفريغ بمساعدة البوليس الفيدرالي والمحلي في Todo Los Santos في المكسيك. وقد ترتب على عمليات التحقيق القبض على 20 من موظفي البوليس. وفي يونيو 1995 تم القبض على لويس سالازار Luis Salazar أحد كبار رجال المخدرات في المكسيك في حادت تصادم طائرة وقد أثبتت التحقيقات أن 34 من رجال الأمن كانوا يوفرون الحماية له.

ويرى البعض أن نشاط غسيل الأموال يأتي كثالث اكبر صناعة على المستوى الدولي بعد تجارة العملات ومبيعات النفط . إذ تشير التقديرات إلى أن حجم عمليات الغسيل يصل إلى حوالي 300 مليار دولار سنويا. ومن الطبيعي انه لا يمكن إدخال مثل هذا الحجم الضخم من الأموال إلى النشاط المصرفي على المستوى الدولي بدون السؤال عن مصدره. ومن هنا تأتي أهمية عمليات غسيل الأموال بالنسبة للجريمة المنظمة. فلا يمكن استمرار الجريمة المنظمة بدون عمليات غسيل أموال. وبالرغم من ارتفاع تقديرات الأموال القذرة على المستوى الدولي فان عمليات ضبط مثل هذه الأموال محدودة جدا، بسبب الكفاءة العالية التي تتمتع بها المنظمات الإجرامية في عمليات الإخفاء.

ولقد ترتب على عملية تدويل النشاط المالي على المستوى الدولي إلى خلق سبل جديدة لنقل أرباح الجريمة المنظمة على المستوى الدولي. فمع ازدياد حجم التجارة الدولية ازداد الاعتماد على وسائل الاتصال المتقدمة تكنولوجيا، وبنفس الدرجة أيضا ازداد اعتماد عصابات الجريمة المنظمة على تلك الوسائل. وتعتمد الكثير من منظمات الجريمة حاليا على التحويلات السلكية لنقل الأموال بين البنوك المختلفة عبر العالم. على سبيل المثال فان اتحادات تجار المخدرات في أمريكا الشمالية على درجة عالية من التنظيم ويسلكون نفس سلوك الشركات عابرة الجنسيات.

ولا يمكن التصرف في كافة النقود التي يتم تكوينها من خلال عصابات الجريمة المنظمة في عمليات توزيع مباشرة للأرباح بين المشاركين في تلك العصابات. كذلك فان استخدام بطاقات الائتمان والشيكات لسداد قيم صفقات ضخمة قد يؤدى إلى لفت انتباه السلطات القانونية، ومن ثم فان أسرع أساليب التصرف في هذه الأموال هو استخدام التحويلات السلكية الدولية بالرغم من أن ذلك قد يتضمن استخدام خدمات البنوك الرسمية في هذه العملية. إذ يسهل مع ضخامة عدد التحويلات التي تتم يوميا إخفاء تلك التحويلات. وتعد هذه التحويلات أسهل واقل مخاطرة بالمقارنة بالنقل المادي للنقود الذي عادة ما يكون ناجحا، إلا انه بطيء ويحمل في طياته مخاطر غير مقبولة.

وحينما تخرج أرباح الجريمة المنظمة ويتم غسلها فإنها تعود في اغلب الأحوال إلى بلد الأصل لكي تستخدم في دفع التكاليف المختلفة مثل الأجور والرشاوى والعمولات وغيرها من التكاليف، أو قد تستخدم في الاستثمار في الأنشطة القانونية، أو في شراء العقارات أو في أسواق المال. وبالمقارنة فان عملية ضبط ومصادرة النقود القذرة عند الخروج تعد اسهل نسبيا من ضبطها أو تسجيلها في رحلة العودة لان التحويلات إلى الداخل تكون في هذه الحالة قانونية، ومن ثم يصعب توفير الدليل القانوني لتبرير الضبط والمصادرة في هذه الحالة.

1/4 - تجارة المخدرات.

تعد تجارة المخدرات من الأنشطة التي تدر دخولا بمليارات الدولارات، والتي تتم بصورة نقدية أساسا. وتعد نقود المخدرات أساسية بالنسبة لتلك العصابات. فبدون هذه النقود لا تستطيع العصابات الدولية تمويل عمليات التصنيع والنقل والتهريب والتوزيع والقتل والترويع، والتي تعد العمليات الأساسية لهذه التجارة غير القانونية. ولذلك تنشأ منظمات غسيل الأموال للتأكد من استمرار تدفق الأموال لهذه الأنشطة غير القانونية. وتعد تجارة المخدرات من اضخم أشكال التجارة على المستوى الدولي . خصوصا في السنوات الأخيرة.

وقد ساعد على زيادة الاتجاه نحو زراعة محاصيل تلك السلع الانخفاض في أسعار المحاصيل الزراعية التقليدية على المستوى الدولي خلال الثمانينيات. على سبيل المثال انخفضت أسعار السكر بنسبة 64% و البن بنسبة 30% و القطن بنسبة 32% والقمح بنسبة 17%. وقد مارس ذلك تأثيرا حادا على الدول النامية خصوصا الدول المدينة التي تعتمد على حصيلة صادراتها التقليدية في خدمة ديونها. فتحول المزارعون من إنتاج تلك المحاصيل التقليدية التي تحقق أرباحا اقل إلى المحاصيل الأكثر ربحية مثل الأفيون والماريجوانا لتفادي انخفاض الأسعار. والواقع أن انخفاض الأسعار لم يقتصر على السلع الزراعية بل امتد إلى باقي المواد الأولية. على سبيل المثال انخفضت أسعار الصفيح بنسبة 57%، والرصاص بنسبة 28% والنفط الخام بنسبة 53% و الحديد بنسبة 17% ومن ثم تأثر تدفق النقد الأجنبي لتلك الدول . وبنهاية 1991 مثلت صادرات المواد المخدرة حوالي 20% من الناتج القومي في بيرو، بينما مثلت صادرات المواد القانونية الأخرى فقط 1.5% من الناتج .

ولقد ترتب على عولمة تجارة المخدرات ضرورة توسيع ورفع مستوى عمليات الغسيل للأرباح غير القانونية للتجارة. كما جذبت عمليات الغسيل اهتماما كبيرا خلال السنوات الماضية بسبب أهميتها لعمليات تهريب المخدرات. وبما أن عمليات التهريب إلى الدول عادة ما تتم من الخارج، فانه ينظر إلى وقف عمليات غسيل الأموال على أنها أحد السبل الفعالة لوقف تجارة المخدرات بين الدول من خلال وقف تلك التحويلات ومصادرة أصول التجار.

2/1 - ما هو غسيل الأموال:

يعد غسيل الأموال ظاهرة قديمة نشأت منذ احتاج الإنسان إلى إخفاء مصادر الكسب التي حصل من خلالها على أموال غير مشروعة. غير أن عمليات غسيل الأموال قد تزايدت بصورة كبيرة في العصر الحديث، عندما اتسع نشاط الجريمة المنظمة والذي صاحبه في الوقت ذاته استخدام أساليب أكثر كفاءة في عمليات الإخفاء. حيث تحتاج عمليات الغسيل في العصر الحديث إلى مهارات خاصة واستخدام أساليب عدة للنجاح في الحصول على مستند رسمي لملكية الأموال بصورة قانونية.

ويرجع النمو في عمليات غسيل الأموال في العصر الحديث إلى عاملين:

الأول: نمو المراكز المالية في مناطق الاوفشور والتي تسمي في بعض الأحيان جنات الاوفشورoffshore heavens. حيث توفر مثل هذه المراكز فرصا سانحة للتهرب الضريبي. إذ غالبا ما تقل حدة الأطر القانونية التي تحكم مثل هذه المراكز بصورة كبيرة. كما أن الكثير من هذه المراكز يعمل مثل الصناديق السوداء، حيث توفر حماية للمجرمين من أضواء الكشف. وتوفر مثل هذه المراكز سهولة تكوين الشركات والحماية المطلقة لسرية الحسابات. ولذلك ينظر إلى تلك المراكز على أنها من العناصر الحيوية لعمليات غسيل الأموال على المستوى الدولي.

الثاني: تطور نظم التحويل الإلكتروني للأموال بسبب الثورة التي حدثت في عالم الاتصالات على المستوى الدولي، واستخدام شبكات الحاسب الآلي العملاقة التي تربط كافة الأسواق المالية والنقدية على المستوى الدولي، بحيث يمكن نقل الأموال بصورة هائلة عبر المراكز المالية في كافة أنحاء العالم.

وتهدف عمليات غسيل الأموال إلى إخفاء المصدر الأساسي للأموال، والبحث عن تغطية قانونية لأصل ما أو لملكية أموال تم الحصول عليها بصورة غير قانونية، بحيث تبدو في النهاية كأنها أموال تم الحصول عليها من مصادر قانونية، وبحيث لا تخضع هذه الأموال لقوانين المصادرة أو غيرها من القوانين التي تحارب إيرادات الأنشطة الإجرامية. وعلى ذلك فان عمليات غسيل الأموال هي في جوهرها عمليات غش للسلطات المختلفة حول مصادر الأموال.

ولا تقتصر عمليات غسيل الأموال على الأموال التي تم الحصول عليها من مصادر غير قانونية، فقد تتسع عمليات الغسيل لتشمل أيضا الأموال المكتسبة بصورة قانونية. حيث يسعى الغاسل إلى إعادة تعريف طبيعة الأموال ذاتها بسبب عدم خضوع الأموال لبعض النظم القانونية مثل قوانين الرقابة على الصرف الأجنبي أو الرسوم الجمركية أو الضرائب على الدخل مثال ذلك أرباح الشركات التي يرغب في إخفاءها عن السلطات الضريبية.

2/2 - مراحل عمليات غسيل الأموال

في البداية كانت عملية غسيل الأموال تتطلب جهدا ماديا في الأساس. فقد كانت عملية إخفاء المصدر غير القانوني للأموال وجعل النقود تبدو وكأنها ذات اصل قانوني تقتضي النقل المادي للنقود السائلة. ويتمثل المهمة الأساسية في هذه الحالة في كيفية تجنب لفت انتباه السلطات لتلك النقود. وفي ظل تخلف تكنولوجيا الأعمال المالية فان عملية غسيل النقود القذرة تصبح محدودة بالقدرة الإبداعية على التعامل مع النقود السائلة من الناحية المادية. على سبيل المثال من خلال نقل النقود خارج الدول وإيداعها في بنك أجنبي يعمل لي ظل قانون اسهل، أو من خلال تقديم رشوة إلى موظف مصرفي، أو شراء أصول حقيقية أو ممتلكات شخصية بصورة متفرقة.

وتمر الأموال القذرة بعدة مراحل قبل أن تصبح جاهزة للظهور على السطح كأموال نظيفة مثلها مثل أي أموال أخرى تم الحصول عليها من مصادر قانونية، وبحيث لا تصبح عرضة للمسائلة حول طبيعة ومصادر تلك الأموال. ويمكن تلخيص مراحل عمليات غسيل الأموال في الآتي:

أولا - التوظيف Placement.

تعد عمليات التوظيف الحلقة الأولى في سلسلة عمليات غسيل الأموال. ويتمثل جوهر عملية التوظيف في اختيار المكان الذي ستتم فيه عملية الغسل أما من خلال إدخال النقود في نظام مصرفي أو في تجارة قانونية أو غير ذلك من الأساليب. وتعد هذه المرحلة من اصعب مراحل عمليات الغسيل أهمها. إذ غالبا ما تكون إيرادات الجريمة المنظمة في صورة نقدية. ومن ثم فان هناك حاجة إلى توظيف كمية هائلة من الأوراق النقدية وذات وزن ضخم أيضا. على سبيل المثال فان الأموال الناتجة عن بيع المخدرات تأتي أساسا من موزعي المخدرات في الشارع، والذي يبيعون المخدرات نقدا وذلك بهدف تمويه طبيعة المتعاملين؛ البائع والمشتري. وغالبا ما تتم عمليات البيع بفئات نقدية صغيرة، 10 دولارات مثلا. وهو ما يمثل المشكلة الأساسية. على سبيل المثال إذا فرض أن أحد الموزعين يوزع بحوالي مليون دولار أسبوعيا. أن مليون دولار من فئات الـ 10 دولار يزن حوالي 200 رطلا. ويمثل مثل هذا الحجم من النقود مشكلة لسببين على الأقل :

الأول - تعرض هذه الأموال لمخاطر السرقة أو الاكتشاف بسهولة. إذ لا يمكن أن يقوم تاجر المخدرات ببساطة بإيداع هذه الحجم الضخم من الأموال في البنك بصورة أسبوعية دون أن يسترعي ذلك الانتباه أو الشك. خصوصا وان النظام المصرفي في بعض الدول يقضي بضرورة تعبئة استمارة معاملة نقدية لكل عملية إيداع تزيد عن حد معين، على سبيل المثال لكل عملية إيداع تصل إلى 10000 دولار في الولايات المتحدة. وعلى ذلك بالرغم من أن بائع المخدرات سوف يتعامل نقدا فقط مع عملاءه عند بيع المخدرات فانه لابد وان يتخلص من هذه النقود السائلة بأسرع ما يمكن، وبالشكل الذي لا يثير آدني شكوك لدى الغير. وتمثل البنوك في مركز الاهتمام الأساسي لغاسلي الأموال في هذه الحلقة.

الثاني - أن محاولة إنفاق كميات كبيرة من هذه النقود في أي وقت من أوقات السنة قد تثير انتباه السلطات الأمنية.

وللتغلب على هذه المشكلة فان الغاسل لابد وان يقوم بتدبير عملية إيداع تلك الأموال بحيث يتجنب المشاكل المرتبطة بالتصرف في مثل هذا الحجم النقدي الكبير. وقد تتم عملية الإيداع من خلال البحث عن شريك في البنك أو سمسار أوراق مالية أو وسيط لمساعدته في التخلص من هذه النقود السائلة. كذلك من الممكن أن تتم عملية التوظيف من خلال مشروع قانوني يبخس فواتير الشراء ويغالي في فواتير البيع. ويقدر أن حوالي 80-85% من إيرادات تجارة المخدرات تدخل إلى الاقتصاد القانوني بهذه الطرق. أما الباقي فعادة ما يتم تهريبها إلى الخارج للإيداع في البنوك الأجنبية الاوفشور ، خصوصا في الدول التي تحيط أعمال بنوكها بالسرية. وبمعنى آخر فان الإفصاح عن موقف عميل في البنك يعد عملا غير قانوني، كما هو الحال في سويسرا. ويشير Kehoe, M. (1996, p3) إلى أن هناك حوالي نصف طن من العملات الأجنبية النقدية تصل يوميا إلى مطار زيورخ لتتجه إلى البنوك السويسرية.

ويتم تدوير أرباح تجارة المخدرات من خلال استثمارات بأموال مغسولة والتي تتم عبر الكثير من الدول، وغالبا ما تضم عدة مؤسسات مالية دولية وبنوك ودور صرف العملات. ومع تعقد الأساليب المصرفية بما في ذلك عمليات التحويل الإلكتروني للأموال فانه ما إن يتم إيداع أموال في نظام مصرفي يمكن نقلها عبر عشرات البنوك في خلال 24 ساعة، مما يجعل عمليات تقفي اثر هذه النقود مسألة مستحيلة أو مستهلكة للوقت.

وعادة ما يختلف أسلوب التوظيف بحسب اختلاف الجريمة. على سبيل المثال فان إيرادات جرائم أصحاب الياقات البيضاء ( الاختلاس أو التهرب الضريبي أو التزوير )، غالبا مالا يتم توظيفها. حيث تتم عملية التجميع في حساب مصرفي ثم تحويلها لا سلكيا إلى بنك يتمتع بقانون يحمي سرية الحسابات. وبالنسبة لجرائم التزوير العقاري يقوم المجرمون بالحصول على قروض ضخمة، وتحويلها إلى الخارج سلكيا ثم إعلان إفلاسهم. وبالنسبة للإرهابيين وتجار السلاح، فان الهدف من العملية يكون إخفاء الوجهة الحقيقية للأموال وكذلك استخدامات تلك الأموال ومصادرها. وهكذا نجد بعض الفروق الاختلافية بين عمليات الغسيل باختلاف الجريمة، وهو ما يعقد عملية تحديد نمط محدد للتوظيف والذي يمكن من خلاله تحديد غاسلي الأموال. ويعتقد بشكل عام أن القائمين على عملية الغسيل على قدر عال من المرونة لأي تغيرات في أنماط عمليات الغسيل، بحيث يستجيبون لأي تغيرات في القوانين، وهو من العناصر التي تعقد عمليات المكافحة.
[/align]