المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "بَيْنَ مَعْمَلِ الْكِيمِيَاءِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ " قصة قصيرة للدكتور عزت سراج



صفاء عطاالله
11-29-2010, 09:40 PM
بَيْنَ مَعْمَلِ الْكِيمِيَاءِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ


لَمْ تَكُنْ تَدْرِي ـ وَهِيَ فِي طَرِيقِهَا إِلَى مَطَارِ الْقَاهِرَةِ الْمُزْدَحِمِ بِمَلايِينِ الْمُسَافِرِينَ ـ أَنَّهَا سَتُوَاجِهُ مَصِيرَهَا الْمَحْتُومَ مَرَّتَيْنِ 000
عِنْدَمَا كَانَتْ فِي الْعِشْرِينَ ، وَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ ـ تَحَسَّسَتْ ـ مُرْتَعِشَةً ـ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ النَّاضِجَةَ ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ الصَّيْفَ قَادِمٌ لا مَحَالَةَ ، وَسَوْفَ تَسْقُطُ الثِّمَارُ0
أَخْرَجَتِ الأَرْضُ بُرْتُقَالَهَا وَخَوْخَهَا اللَّذِيذَ ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ حَمَلَتْ شَجَرَتُهَا 0
فِي مَوْسِمِ الْحَصَادِ ـ اسْتَوَتْ عَلَى سُوقِهَا ثِمَارُ الْمَنْجُو شَهِيَّةً لِلْقَاطِفِينَ 0
كَانَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَحَبَّهَا فَقِيرًا كَسَحَابَةِ صَيْفٍ ،
رَقِيقًا كَنَسْمَةٍ رَبِيعِيَّةٍ سَاعَةَ الْغُرُوبِ مَرَّتْ ،
وَقَدِ ارْتَفَعَ السَّحَابُ الأَحْمَرُ فِي الأُفُقِ ، كَاسِيًا خُيُوطَ الشَّفَقِ النَّاعِسِ 0
000000
000000
000000
اخْتَارَتْ ـ فِي زَهْوٍ ـ أَنْ تَتْبَعَ ظِلَّ الآَخَرِ الَّذِي مَا أَحَبَّ سِوَى أَنْ يَحْرُثَ الْحَدِيقَةَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً عِنْدَمَا تَجِئُ أَمْطَارُ الشِّتَاءِ صُدْفَةً 0
كَانَ فِي الثَّلاثِينَ ، قَصِيرَ الْقَامَةِ ، تَلْتَصِقُ رَأْسُهُ الصَّغِيرُ عَلَى كَتِفَيْهِ الْعَرِيضَيْنِ فِي مُفَارَقَةٍ لافِتَةٍ ، كَثِيفَ الْحَاجِبَيْنِ ، غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ ، تَنَاثَرَتْ بَيْنَ سَوَادِ شَعْرِهِ خُصَلٌ بَيْضَاءُ بَدَأَتْ تَتَجَمَّعُ فِي غَزَارَةٍ كَالِحَةٍ تَفْجَأُ النَّاظِرِينَ 0
تَظْهَرُ أَمَارَاتُ الثَّرَاءِ الْمَوْرُوثِ مِنْ أَجْدَادِهِ الَّذِينَ رَحَلُوا عَنْ تُرْكِيَا فِي زَمَنِ الْحَرْبِ الأُولَى فِي حُمْرَةِ خَدَّيْهِ الْغَلِيظَيْنِ ، وَبُرُوزِ بَطْنِهِ ، وَبَدَانَةِ وَرِكَيْهِ ، كَبَطَّةٍ تَسْبَحُ فِي بِرْكَةِ مَاءٍ
آَسِنٍ 0
مَا بَيْنَ الْمَعْمَلِ وَالْبَيْتِ ـ صَبَاحَ مَسَاءَ ـ ضَاعَتْ مَلامِحُ وَجْهِهِ 0
000000
000000
000000
الآَنَ وَبَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مَرَّتْ مِنْ عُمْرِهَا الْجَرِيحِ ، وَبَعْدَ أَنْ تَحَوَّلَتْ إَلَى مَعْمَلٍ صَغِيرٍ تَتَزَاحَمُ فِي جَنَبَاتِهِ زُجَاجَاتُ الْكِيمِيَاءِ ـ عَادَتْ إِلَيْهَا الرُّوحُ مِنْ جَدِيدٍ 000
فَتَحَتْ نَوَافِذَ حُجْرَتِهَا لِلْهَوَاءِ الَّذِي لَمْ تُلَوِّثْهُ أَبْخِرَةُ الْعَنَاصِرِ الْمُتَفَاعِلَةِ الْكَرِيهَةُ 0
كَأَنَّهَا اكْتَشَفَتْ أَنَّ الأَرْضَ تَدُورُ فِي دَيْمُومَةٍ مِنْ فَصْلٍ إِلَى فَصْلٍ ، وَكُلَّمَا سَئِمَتْ دَوْرَتَهَا ـ انْفَجَرَتْ بُرْكَانًا لا يَهْدَأُ ، وَأَنَّ السَّمَاءَ ـ فِي عَصْرٍ رَبِيعِيٍّ ـ صَافِيَةٌ كَوَجْهِهِا الْمَرْمَرِيِّ ، وَأَنَّ النُّجُومَ تَتَأَلَّقُ سَاطِعَةً كُلَّ مَسَاءٍ 000
لِلْمَرَّةِ الأُولَى أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ فِرَاشَهَا الْقَمَرُ مُتَسَلِّلاً عَبْرَ النَّافِذَةِ ، مُنْحَنِيًا لِيُقَبِّلَ يَدَيْهَا فِي خُشُوعٍ ، وَأَنْ تَفْتَحَ صَدْرَهَا لِحَرَارَةِ الشَّمْسِ لَحْظَةَ الشُّرُوقِ 000
تَمَنَّتْ أَنْ تُطْلِقَ ـ مُنْتَشِيَةً ـ سَاقَيْهَا فِي حُقُولِ البِّرْسِيمِ ، وَقَدْ غَمَرَتْ شُقُوقَهَا الْمِيَاهُ مِنْ كُلِّ جَدْوَلٍ حَفَرَتْهُ فَأْسُ فَلاحٍ يَكْدَحُ مُبْتَهِجًا ، بَسِيطٍ كَوَرَقَةِ خَسٍّ نَاضِرَةٍ 0
هَذَا الْوَلَدُ الأَسْمَرُ ذُو الْعَيْنَيْنِ السَّمْرَاوَيْنِ يُلْهِبُ ـ عِنْدَمَا يَأْتِيهَا كُلَّ مَسَاءٍ ـ خَلايَا جَسَدِهَا الْهَامِدِ خَلْفَ زَنَازِينِ الْمَكْتَبِ وَالْمَعْمَلِ وَالأَوْرَاقِ الْمُبَعْثَرَةِ عَلَى طَاوِلَةِ الرُّوحِ 000
يُحَرِّكُ مَا سَكَنَ مِنْ عَنَاقِيدَ فَوْقَ تَكْعِيبَةِ الْعِنَبِ فِي مَدْخَلِ الْبَيْت ِالْقَدِيمِ 000
يُعِيدُ لِجَسَدِهَا الْخَامِدِ طَزَاجَتَهُ 000
وَيُشْعِلُ النَّارَ الْمُقَدَّسَةَ فَوْقَ مَا تَبَقَّى مِنْ حُطَامِ السَّنَوَاتِ الذَّابِلَةِ 0
تَأْتِي كَلِمَاتُهُ مِنْ أَعْمَاقِ جَزِيرَةٍ سِحْرِيَّةٍ يَسْكُنُهَا يَمَامُ الرُّوحِ الْبَّرِّيُّ ، لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَطَأَ زَعْفَرَانَ تُرَابِهَا مُنْذُ أَلْقَتْ بَقَايَا جَسَدِهَا ـ دَاخِلَ الْمَعْمَلِ ذِي الرَّائِحَةِ الْخَانِقَةِ ـ تَحْتَ قَدَمَيْهِ 0
الْوَلَدُ الأَسْمَرُ يُحَلِّقُ بِهَا كَفَرَاشَةٍ تُهَدْهِدُ خَيَالَهَا تَحْتَ شُعَاعِ الشَّمْسِ ، وَقَدْ غَادَرَتْ قَفَصَهَا الذَّهَبِيَّ فِي لَحْظَةٍ خَاطِفَةٍ كَالْجُنُونِ 000
يُدْخِلُهَا مُدُنَ الأَحْلامِ 000
تَتَوَجَّعُ كَعُصْفُورٍ فِي عُشٍّ ، يُحَاوِلُ أَنْ يَطِيرَ لِلْمَرَّةِ الأُولَى وَلَمْ يَقْوَ زَغَبُ جَنَاحَيْهِ 0
000000
000000
000000
عِنْدَمَا وَجَدَتْ نَفْسَهَا فِي وَسَطِ صَحْرَاءِ الرُّوحِ
الْقَاحِلَةِ ـ وَحِيدَةً ـ لا تَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ السَّيْرِ فِي الظَّهِيرَةِ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الْحَارِقَةِ الَّتِي تُلْهِبُ خُطُوطَ وَجْهِهَا الرَّقِيقِ ـ دَفَنَتْ رَأْسَهَا فِي الرِّمَالِ كَنَعَامَةٍ حَائِرَةٍ يُطَارِدُهَا أَسَدَانِ دُونَ هَوَادَةٍ 000
تَصَبَّبَ صَدْرُهَا عَرَقًا كَعُنْقُودِ فُلٍّ تَعْصِرُهُ كَفَّانِ ، وَلَسْعَةُ اللَّهِيبِ تَلْفَحُ مَا ظَهَرَ مِنْ جَسَدِهَا الْبَضِّ نَاصِعِ الْبَيَاضِ كَحَقْلِ قُطْنٍ عَلَى شَطِّ تُرْعَةٍ فِي مَوْسِمِ الْحَصَادِ 0
000000
000000
000000
كَعِبَارَةِ صُوفِيٍّ هَامَ وَرَاءَ الْكَلِمَاتِ ـ هَبَطَ ظَلامُ اللَّيْلِ دَافِئًا فِي الْعُرُوقِ 000
نَفَضَتْ غُبَارَ الطَّرِيقِ الطَّوِيلِ 000
قَامَتْ شَامِخَةً000
وَاصَلَتِ الْمَسِيرَ 000
قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي الصَّرْحَ !!
كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا 000
قَالَ : " إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ "0
دَخَلَتْ خَائِفَةً 000
تَرْتَجِفُ كَشَجَرَةِ تُوتٍ 0
تُلْقِي حَجَرًا 000
تَتَأَجَّجُ كَجَمْرَةٍ مُتَّقِدَةٍ تَنْفُخُ رَمَادَهَا رِيحٌ جَنُوبِيَّةٌ عَاصِفَةٌ 000
تَتَطَايَرُ خُصَلُ شَعْرِهَا الْبُنِّيِّ الْكَثِيفِ كَرِيشِ طَاوُوسٍ يَنْفُضُ جَنَاحَيْهِ فِي خُيَلاءَ 000
000000
000000
000000
فِي مُحَاوَلَةٍ أَخِيرَةٍ لِلْهُرُوبِ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ الْمُؤَجَّلَةِ ، مُكْرَهَةً اسْتَسْلَمَتْ لِلنَّوْمِ فِي مَعْمَلِ الْكِيمِيَاءِ ، وَهِيَ تَنْتَظِرُ لَحْظَةً يَهْبِطُ فِيهَا شُعَاعٌ يُرْسِلُهُ الْوَلَدُ الأَسْمَرُ ، وَيُمْكِنُهَا أَنْ تُحَلِّقَ مَعَهُ فَوْقَ جَزِيرَةِ الْيَمَامِ 0