المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " الحماماتُ تغادر أقفاصها راضية" قصة قصيرة للشاعر الكبير الدكتور عزت سراج



صفاء عطاالله
10-26-2010, 01:51 PM
الْحَمَامَاتُ تُغَادِرُ أَقْفَاصَهَا رَاضِيَةً

عَلَى نَاصِيَةِ شَارِعِ السَّمَّاكِينَ ، وَبَعْدَ انْعِطَافَةٍ
قَلِيلَةٍ يَسَارًا ـ تَفْتَحُ مَحِلاتُ بَيْعِ الطُّيُورِ
فِي السَّادِسَةِ صَبَاحًا بَعْدَ أَدَاءِ صَلاةِ الْفَجْرِ
فِي جَامِعِ الْقَرْيَةِ الْكَبِيرِ ، حَتَّى مُنْتَصَفِ
اللَّيْلِ ، مُغْلِقَةً أَبْوَابَهَا سَاعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ
لِتَنَاوُلِ الْغَدَاءِ 000
تَخْتَلِطُ رَائِحَةُ السَّمَكِ الْمَشْوِيِّ بِرَائِحَةِ الدَّجَاجِ
الْمَذْبُوحِ عِنْدَ مُلْتَقَى الطُّرُقِ ، حَيْثُ يَعُودُ
الصَّيَّادُونَ بَعْدَ كُلِّ عَصْرٍ بِصَيْدِهِمُ
الْوَفِيرِ ، وَيُلْقُونَ بِالطَّاوِلاتِ أَمَامَ مَحِلاتِ بَيْعِ
السَّمَكِ 000
فِي الْيَوْمِ التَّالِي يَحْصُلُونَ عَلَى جُنَيْهَاتٍ زَهِيدَةٍ ، لِيَذْهَبُوا ثَانِيَةً إِلَى الْمَلاحَاتِ بِشِبَاكِهِمُ
الْمَغْزُولَةِ فِي إِحْكَامٍ ، وَقَوَارِبِهِمُ الْخَشَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ ، مُجَدِّفِينَ ـ فِي تَحَدٍ لِلرِّيَاحِ الْمُعَاكِسَةِ ـ
نَحْوَ لُقْمَةِ الْعَيْشِ الْمَمْزُوجَةِ بِرَائِحَةِ
السَّمَكِ ، سَالِكِينَ طَرِيقَ التُّرْعَةِ الْمُؤَدِّي
إِلَى مَلاحَاتِ الْقَرْيَةِ الْمُحِيطَةِ بِحُقُولِ الْفُولِ
الْخَضْرَاءِ ذَاتِ الْعَبَقِ النَّفَّاذِ ، دَاخِلاً فِي
الصُّدُورِ كَسِكِّينٍ سَاخِنٍ يَمْضِي بَيْنَ الضُّلُوعِ سَاكِنًا رُوحًا مُتْعَبَةً 0
000000
000000
000000
بَعْدَ كُلِّ مَغْرِبٍ ـ يَلْتَقُونَ فِي الْمَقْهَى ،
يَتَسَامَرُونَ بِمَا حَدَثَ فِي الْمَلاحَاتِ طُولَ
الْيَوْمِ ، وَكَيْفَ تَمَكَّنَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَصِيدَ
هَذِهِ الْبُلْطِيَّةَ الْمُمْتَلِئَةَ ، وَكَيْفَ سَقَطَتِ الثَّانِيَةُ
مِنْ شِبَاكِهِ !!
000000
000000
000000
حِينَ تَدْخُلُ الْعِشَاءُ يَتَّجِهُونَ إِلَى بُيُوتِهِمُ
الطِّينِيَّةِ ، فِي رِضًا ، مُسْتَسْلِمِينَ ِلأَحْضَانِ
الزَّوْجَاتِ الدَّافِئَةِ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ
الطَّوِيلَةِ 0
000000
000000
000000
تَتَنَقَّلُ سَلْمَى بَيْنَ أَقْفَاصِ الطُّيُورِ فِي حَيَوِيَّةٍ
بَالِغَةٍ ، مُتَمْتِمَةً بِبَعْضِ الأُغْنِيَاتِ الشَّعْبِيَّةِ
الْقَدِيمَةِ 000
وَجْهُ سَلْمَى كَالْبَدْرِ الْمُنَوِّرِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، يَجْذِبُ كُلَّ شَبَابِ الْقَرْيَةِ ، لَكِنَّهَا لا تُلْقِي لأَحَدِهِمْ بَالاً ، وَلا تَعْبَأُ بِنَظَرَاتِهِمُ الْمَسْنُونَةِ 000
تَسْرَحُ بِخَيَالِهَا الشَّرِيدِ ، تُرِيدُ ثَرَيًّا مِنَ الْمَدِينَةِ
وَلَوْ كَانَ عَجُوزًا يَتَّكِئُ عَلَى عَصَاهُ ،
تُطَارِدُهَا الأَطْيَافُ مُخَدَّرَةً ، كَأَنَّمَا لَدَغَ ـ جَسَدَهَا النَّحِيلَ اللامِعَ فِي بَيَاضِهِ ـ ثُعْبَانٌ ، ثُمَّ اخْتَفَى فِي شَقِّهِ 0
000000
000000
000000
أَشَارَ إِلَيْهَا أَمِيرٌ أَنْ تَضَعَ فِي قَفَصٍ كَبِيرٍ مِنْ كُلِّ الطُّيُورِ وَاحِدًا 0
ـ مَاذَا تَصْنَعُ بَهَذِهِ الطُّيُورِ كُلَّ يَوْمٍ يَا أُسْتَاذُ
أَمِيرُ ؟
ـ أُرَبِّيهَا يَا سَلْمَى حَتَّى تَكْبُرَ 0
ـ لَكِنَّهَا تُكَلِّفُكَ كَثِيرًا ، وَأَخْشَى أَنْ يَنْفَدَ مَالُكَ قَبْلَ أَنْ تَبِيعَهَا 0
ـ لَنْ أَبِيعَهَا ، وَالْمَالُ كَثِيرٌ 0 لا تَشْغَلِي بَالَكِ !
ـ إِذَنْ لِمَاذَا تُرَبِّيهَا ؟
ـ سَتَعْرِفِينَ فِي اللَّحْظَةِ الْمُنَاسِبَةِ 0
000000
000000
000000
حَمَلَتْ سَلْمَى الْقَفَصَ الْمُمْتَلِئَ بِكُلِّ
أَنْوَاعِ الطُّيُورِ ، وَأَمِيرٌ ـ كَأَنَّهُ مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ ـ
يَمْشِي خَلْفَهَا ، مُتَابِعًا خُطُوَاتِهَا الْمُشْتَعِلَةَ ،
وَالْقَفَصُ يَهْتَزُّ مَائِلاً فِي إِيقَاعٍ مُنْتَظِمٍ يَمِينًا وَيَسَارًا كَشَجَرَةِ مِشْمِشٍ أَثْقَلَتْهَا الثِّمَارُ فَمَالَتْ
مُرْتَجَّةً دَانِيَةً لِمَنْ يُخَفِّفُ عَنْهَا أَوْجَاعَهَا
الْمَكْتُومَةَ 0
مُتَأَمِّلاً هَذِهِ الْخُطُواتِ الْمَرِنَةَ ـ ارْتَبَكَ ، وَكَادَ يَسْقُطُ فِي الْحُفْرَةِ 0
000000
000000
000000
ـ هَيَّا احْمِلْ عَنِّي ، وَأَخْرِجِ الطُّيُورَ !!
ـ أَخْرِجِيهَا أَنْتِ ، وَأَدْخِلِيهَا فِي الْحُجْرَةِ !!
ـ أُلاحِظُ أَنَّكَ لا تَلْمَسُهَا مَعَ أَنَّكَ تَدْفَعُ
كَثِيرًا 000
أَلا تُحِبُّ رِيشَهَا النَّاعِمَ كَحَرِيرٍ هِنْدِيٍّ ؟
ـ أُحِبُّ يَا سَلْمَى ، لَكِنْ 000
ـ لَكِنْ مَاذَا ؟
ـ سَتَعْرِفِينَ فِيمَا بَعْدَ 0
000000
000000
000000
تَذَكَّرَ الآنَ وَهُوَ فِي الثَّالِثَةِ مِنْ عُمْرِهِ حِينَمَا
أَرَادَتْ جَدَّتُهُ أَنْ تَنَامَ ، أَطْفَأَتِ الْمِصْبَاحَ
الزَّيْتِيَّ ، وَأَحْضَرَتْ لَهُ عِفْرِيتَةً تَحْمِلُ
عُصْفُورَةً مَذْبُوحَةً ، وَأَقْسَمَتْ أَنْ تُلْقِيَهَا بَيْنَ صَدْرِهِ إِذَا لَمْ يَنَمْ فِي الْحَالِ 0000
أَدْخَلَ رَأْسَهُ تَحْتَ اللِّحَافِ الْقُطْنِيِّ ، وَكَتَمَ أَنْفَاسَهُ حَتَّى لا تَسْمَعَهُ ، مُسْتَسْلِمًا لِدَقَّاتِ قَلْبِهِ
الْمُتَسَارِعَةِ ، وَأَحْضَانِ سِتِّ الْحُسْنِ الَّتِي
تَهُبُّ لِنَجْدَتِهِ 0
كَانَ الْمَشْهَدُ يَتَكَرَّرُ كُلَّ مَسَاءٍ كُلَّمَا أَرَادَتْ جَدَّتُهُ النَّوْمَ ، وَخَوْفُهُ مِنَ الْعُصْفُورَةِ الْمَذْبُوحَةِ يَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ 0
000000
000000
000000
فِي السَّابِعَةِ مِنْ عُمْرِهِ كَانَ يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَجْرِيَ وَرَاءَ ثُعْبَانٍ ، وَيُمْسِكَهُ
جَيِّدًا ، ثُمَّ يَلُفَّهُ حَوْلَ عُنُقِهِ ،
مُطَارِدًا أَطْفَالَ الشَّارِعِ الَّذِينَ يُهَرْوِلُونَ
أَمَامَهُ مَفْزُوعِينَ ، يَتَخَبَّطُونَ فِي مَخَاوِفِهِمِ
الْقَدِيمَةِ هَرَبًا مِنَ الثُّعْبَانِ
الرَّجِيمِ 0
000000
000000
000000
فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ عُمْرِهِ ، فَجْأَةً ، وَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ ـ خَشُنَ صَوْتُهُ ، وَنَضَجَتْ أَعْضَاؤُهُ قَبْلَ
أَقْرَانِهِ 0
لَكِنَّ خَوْفَهُ مِنْ مُلامَسَةِ الْعَصَافِيرِ
وَالطُّيُورِ الضَّعِيفَةِ كَانَ يَكْبُرُ مَعَهُ ، دُونَ أَنْ
يَفْهَمَ لِمَاذَا تُرْعِبُهُ نُعُومَةُ أَجْسَامِهَا ، وَيَرْتَعِشُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا !!
هَمَسَتْ إِحْدَى جَارَاتِهِ إِلَى الأُخْرَى :
ـ انْظُرِي إِلَى عَضَلاتِهِ الْمَفْتُولَةِ كَثَوْرٍ فِي
السَّاقِيَةِ !
ـ وَصَدْرِهِ الْعَرِيضِ كَشَجَرَةِ نَبْقٍ وَارِفَةٍ !
ـ وَطُولِهِ الْفَارِعِ كَنَخْلَةٍ شَاهِقَةٍ تَشُقُّ السَّحَابَ !
ـ لا بُدَّ أَنَّهُ 000
ـ اسْكُتِي يَا لَئِيمَةُ !!
فِي ضَحِكَاتٍ خَبِيثَةٍ ـ انْطَلَقَا نَحْوَ الْحُقُولِ يَمْرَحَانِ
ـ لا أَسْتَطِيعُ يَا سَلْمَى ، تَفَهَّمِي ذَلِكَ !!
ـ إِذَنْ مَاذَا أَفْعَلُ ؟
ـ تَفْتَحِينَ الْقَفَصَ ، وَتُدْخِلِينَ الطُّيُورَ إِلَى
حُجْرَتِهَا 000
ـ وَأَنْتَ تَتَفَرَّجُ عَلَيَّ 000؟
ـ أَنَا أَدْفَعُ لَكِ مَا تُرِيدِينَ 0
ـ حَاضِرٌ يَا أُسْتَاذُ أَمِيرُ 0
000000
000000
000000
بِكُلِّ أَنْوَاعِ الطُّيُورِ الْمُلَوَّنَةِ ـ أَصْبَحَ الْبَيْتُ مُمْتَلِئًا بِتَغْرِيدِهَا ، وَأَهْلُ الْحَارَةِ يَتَعَجَّبُونَ فِي صَمْتٍ ، مُنْتَظِرِينَ مَاذَا سَيَفْعَلُ بِهَا 000
الصَّيَّادُونَ ـ وَحْدَهُمْ ـ لا يَأْبَهُونَ بِمَا يَفْعَلُهُ ، وَيَقُولُونَ فِي هُدُوءٍ :
ـ إِنَّهَا مُجَرَّدُ هِوَايَةٍ 0
ـ بَلْ غِوَايَةٍ 0
ـ لا يَا رَجُلُ ، لا تَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ 0
ـ الأَيَّامُ بَيْنَنَا 0
000000
000000
000000
دَخَلَتْ سَلْمَى الْحُجْرَةَ ، وَهِيَ تَكَادُ تَخْتَنِقُ
مِنْ رَائِحَةِ الطُّيُورِ الَّتِي تَتَزَاحَمُ فِي أَنْحَاءِ
الْبَيْتِ ، تُرِيدُ أَنْ تَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ الطَّلْقِ حُرَّةً
كَمَا تَشَاءُ 0
ـ هَيَّا يَا سَلْمَى ، افْتَحِي الْحُجْرَةَ ، بِسُرْعَةٍ يَا سَلْمَى000
ـ يَا مَجْنُونُ 000 مَاذَا تَفْعَلُ ؟
ـ أَصْنَعُ لَهَا أَقْدَارَهَا الْمَحْتُومَةَ 0
ـ كَفَى إِنَّكَ تُسْقِطُهَا بِطَلَقَاتِكَ الَّتِي لا تَرْحَمُ كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ لأَعْلَى ، فَتَقَعُ مُلَطَّخَةً فِي دِمَائِهَا 0
ـ هَذَا مَصِيرُهَا الْمَحْتُومُ 0
ـ لِمَاذَا تُعْطِيهَا الأَمَانَ ، فَتَتْرُكَهَا تَطِيرُ ، ثُمَّ تُسْقِطَهَا غَادِرًا ، وَقَدْ سَكَنَتْ طَلَقَاتُكَ قَلْبَهَا
الضَّعِيفَ ؟
ـ أَنْتِ لا تَفْهَمِينَ شَيْئًا 0
ـ كُفَّ عَنْ هَذَا يَا مَجْنُونُ !!
ـ أَلَيْسَتْ يَدَاكِ ـ أَنْتِ أَيْضًا ـ مُلَطَّخَةً
بِدِمَائِهَا ؟ أَلا تَذْبَحِينَهَا كُلَّمَا دَفَعَ لَكِ أَحَدُهُمْ ؟
تَتَتَابَعُ الطَّلَقَاتُ مُدَوِّيَةً لأَعْلَى حَتَّى سَقَطَتْ ـ
فَوْقَ سَطْحِ الْمَنْزِلِ الْمُجَاوِرِ ـ آخِرُ يَمَامَةٍ
خَرَجَتْ ِمْن حُجْرَتِهَا ، تَظُنُّ أَنَّهَا نَالَتْ حُرِّيَّتَهَا ، وَتُرِيدُ أَنْ تُجَرِّبَ التَّحْلِيقَ ، وَتَضْرِبَ الْهَوَاءَ بِجَنَاحَيْهَا لِلأَبَدِ 0
000000
000000
000000
ـ هَيَّا يَا سَلْمَى الْجَمِيلَةُ دَوْرُكِ الآنَ 000
افْتَحِي الْقَفَصَ 000
هَيَّا أَخْرِجِي الْحَمَامَةَ الأَخِيرَةَ !!
000000
000000
000000
تَمَدَّدَتْ مُسْتَسْلِمَةً فِي ذُهُولٍ لِرَائِحَةِ السَّمَكِ الْمَشْوِيِّ ، وَفَتَحَتِ الْقَفَصَ لِتَطِيرَ آخِرُ حَمَامَةٍ وَجْهُهَا كَالْبَدْرِ الْمُنَوِّرِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ 0

كان اسمه حبيبي
11-20-2010, 08:19 PM
سلم القلم وصاحبه ليصنع لنا هذه الدرر الغالية
الشاعرة شيرين علي