المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " بالأبيض والأسود تكون اللوحة دافئة " قصة للشاعر الكبير الدكتور عزت سراج



صفاء عطاالله
10-26-2010, 09:56 AM
بِالأَبْيَضِ وَالأَسْوَدِ تَكُونُ اللَّوْحَةُ دَافِئَةً


انْتَبَهَ أَهْلُ الْحَارَةِ الطَّيِّبُونَ لِلسَّيَّارَةِ الْقَادِمَةِ ،
حَامِلَةً هَذَا الصُّنْدُوقَ الْوَرَقِيَّ ، فِي دَهْشَةٍ مِنْ
ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي دَفَعَ تِلْكَ النُّقُودَ الَّتِي تَعْدِلُ
رَاتِبَهُ فِي عَامٍ كَامِلٍ أَوْ يَزِيدُ مُقَابِلَ ذَاكَ الصُّنْدُوقِ الْمُغْلَقِ 0
تَتَبَاطَأُ السَّيَّارَةُ أَمَامَ الأَطْفَالِ الْمُنْدَفِعِينَ فِي
فَرَحٍ ، مُهَرْوِلِينَ يَمِينًا وَيَسَارًا ، قَافِزِينَ لأَعْلَى يُمْسِكُونَ الْهَوَاءَ ، ضَاحِكِينَ فِي بَرَاءَةٍ ، يَتَّجِهُونَ نَحْوَهَا ، يُقَهْقِهُونَ ، لا يُصَدِّقُونَ أَنَّ الصَّنْدُوقَ قَدْ أَوْشَكَ عَلَى الْوُصُولِ 0
الشَّارِعُ ضَيِّقٌ لا يَسْمَحُ لِلسَّيَّارَةِ إِلا أَنْ تَظَلَّ مُتَنَقِّلَةً فِي بُطْءٍ كَحِمَارٍ أَعْرَجَ ، خَوْفًا مِنَ الصِّدَامِ فِي الْبُيُوتِ الطِّينِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الْمَرْصُوصَةِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ ، كَنِسَاءٍ عَاقِرَاتٍ بَعْدَ السَّبْعِينَ يَجْلِسْنَ أَمَامَ الأَبْوَابِ الْخَشَبِيَّةِ الْكَبِيرَةِ بِثِيَابِهِنَّ السَّوْدَاءِ ، وَقَدْ أَسْنَدْنَ الْخُدُودَ الْخَشِنَةَ الْمُجَعَّدَةَ فَوْقَ أَيْدِيهِنَّ فِي انْكِسَارٍ يَنْتَظِرْنَ فِي يَأْسٍ مَا لا يَجِيءُ 0
000000
000000
000000
فِي نَهَارِ أُغُسْطُسَ ، لا يَشْعُرُ الْجَالِسُ ـ دَاخِلَ هَذِهِ الْبُيُوتِ الطِّينِيَّةِ الْمَسْقُوفَةِ بِجِذُوعِ
الأَشْجَارِ ، وَالْغَابِ ، وَأَعْوَادِ الْحَطَبِ وَالْقُطْنِ ـ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ الْحَارِقَةِ 000
فِي لَيَالِي يَنَايِرَ يَكُونُ الدِّفْءُ بَيْنَ أَحْضَانِ الْجَدَّاتِ الطَّيِّبَاتِ الْهَادِئَاتِ كَضَوْءِ الشُّمُوعِ الْحَزِينَةِ فِي لَيْلَةٍ طَوِيلَةٍ مُظْلِمَةٍ 000
الْحَيَاةُ تَتَوَاصَلُ بَيْنَ الْحُقُولِ وَالْبُيُوتِ فِي
دَعَةٍ ، دَافِقَةً كَالنِّيلِ حِينَ يَتَهَادَى مِنْ أَقْصَى جَنُوبِ الصَّعِيدِ بَيْنَ غِيطَانِ الْقَصَبِ رَاوِيًا ظَمَأَهَا سَاعَةَ الظُّهْرِ ، جَارِيًا نَحْوَ فَدَادِينِ الْقُطْنِ سَاعَةَ الْغُرُوبِ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ ، مُلْتَقِيًا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ بِمِيَاهِ الْبَحْرِ الْكَبِيرِ 000
000000
000000
000000
ارْتَفَعَ صِيَاحُ الأَطْفَالِ عِنْدَمَا نَزَلَ السَّائِقُ ، حَامِلاً فَوْقَ كَتِفِهِ الصُّنْدُوقَ 000
يُسْرِعُ الرِّجَالُ يَحْمِلُونَ عَنْهُ ، مُتَسَابِقِينَ نَحْوَ الصُّنْدُوقِ 0
ـ انْتَبِهْ يَا شَيْخُ مَحْمُودُ !!
ـ حَاضِرٌ يَا شَيْخُ عَبْدَ الْوَهَّابِ 0
ـ ارْفَعْ يَا وَلَدُ 000
ـ امْسِكِي يَا بِنْتُ 000
يَتَجَمَّعُ أَطْفَالُ الْحَارَةِ فِي الْبَهْوِ الْوَاسِعِ ، مُتَرَقِّبِينَ اللَّحْظَةَ الْحَاسِمَةَ 0
ـ هَيَّا يَا أَبِي 000 أُرِيدُ أَنْ أَرَى شَكْلَ الأَسَدِ ، وَكَيْفَ سَيَأْكُلُ غِزْلانَ الْغَابَةِ 000
وَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْزِمَ الْفِيلَ الضَّخْمَ إِنْ أَقْبَلَ
نَحْوَهُ 000
هَيَّا يَا أَبِي لَقَدْ وَعَدْتَنِي أَنْ أُشَاهِدَ النُّمُورَ ،
وَهِيَ تُطَارِدُ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ ، وَتُمْسِكُ بِعُنُقِ الزَّرَافَةِ 000
ـ سُكُوتٌ 000
لا أُرِيدُ كَلامًا 000
الْتَزِمُوا الصَّمْتَ 0
يُثَبِّتُ الْكَبْلَ فِي مَوْضِعِ التَّيَّارِ 000
يَضْغَطُ زِرَّ التَّشْغِيلِ 000
تُضِيءُ الشَّاشَةُ 000
يَرْتَفِعُ الصَّوْتُ 000
التِّمْسَاحُ يَبْتَلِعُ الطِّفْلَ عَلَى الشَّاطِئِ ، وَهُوَ جَالِسٌ يَصِيدُ الأَسْمَاكَ 000
وَالأَرْنَبُ الْبَرِّيُّ يَجْرِي مُخْتَبِئًا بَيْنَ حَشَائِشِ التُّرْعَةِ ، يَتَعَقَبُهُ نَسْرٌ كَاسِرٌ 000
يَكْتُمُ الأَطْفَالُ أَنْفَاسَهُمْ ، خَائِفِينَ ، مَسْرُورِينَ ، يَتَرَقَّبُونَ الْمَشْهَدَ التَّالِي 000
ـ يَكْفِي هَذَا الْيَوْمَ 000 لِيَذْهَبْ كُلُّ طِفْلٍ إِلَى بَيْتِهِ فِي هُدُوءٍ !!
000000
000000
000000
يَتَسَلَّلُ بِلالٌ فِي دَهَاءٍ بَعْدَ أَنْ يَنَامَ الأَطْفَالُ
إِلَى الْبَهْوِ ضَاغِطًا زِرَّ التَّشْغِيلِ ، مُخَفِّضًا صَوْتَ الدَّجَاجِ ، وَهُوَ يَصِيحُ مُسْتَغِيثًا مِنْ هَذَا
الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ الَّذِي دَخَلَ الْحَظِيرَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا 000
مَشْدُودًا يَتَرَقَّبُ فِي خَوْفٍ مَكْتُومٍ كَيْفَ سَيَنْجُو الْبَطَلُ مِنَ الأَقْزَامِ السَّبَعَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَ وَحِيدًا فَوْقَ الْجَزِيرَةِ الْمَسْحُورَةِ 000
يَقْرِضُ أَظَافِرَهُ الرَّقِيقَةَ 000 لا تَتَحَرَّكُ ـ فِي ذُهُولٍ ـ عَيْنَاهُ 000
ـ كَفَى يَا بِلالُ 000 أَتَظُنُّ أَنَّنِي نَائِمٌ ؟
ـ حَاضِرٌ يَا أَبِي ، سَأُكْمِلُ فَقَطَ مُسَلْسَلَ الرَّحِيلِ
000000
000000
000000
فِي سِنِّ التَّاسِعَةِ ـ بَدَأَ بِلالٌ يَنْتَبِهُ إِلَى حَلَقَاتِ مُصْطَفَى مَحَمُودٍ ، وَالشَّيْخِ الشَّعْرَاوِي ، مُتَرَقِّبًا إِيَّاهُمَا ، مُنْتَظِرًا مِنْ عَامٍ لآخَرَ أَنْ يَرَى جَاسُونَ وَآلِهَةَ الْحَرْبِ ، وَالسِّنْدِبَادَ ، وَقَاهِرَ التَّتَارِ ، وَكِلاي 000
مَا بَيْنَ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ ـ تَشَكَّلَ كَجِذْعِ نَخْلَةٍ يَتَطَلَّعُ لِلسَّمَاءِ 000 يَحْلُمُ بِالثَّوْرَةِ ، وَالْعَوْدَةِ إِلَى غِرْنَاطَةَ ، وَرُجُوعِ صَلاحِ الدِّينِ 000
حِينَ يَنَامُ يَأْتِيهِ ـ فَوْقَ الرُّبَى ـ جَوَادٌ أَبْيَضُ يَصْهِلُ بَيْنَ الأَعْشَابِ الْخَضْرَاءِ ، يَصْعَدُهُ مُنْطَلِقًا نَحْوَ الأَدْغَالِ 000
وَحِينَ يَعُودُ مِنَ الْمَدْرَسَةِ يَرْسُمُ صُورَةَ عَبْدِ النَّاصِرِ يُعَانِقُهُ السَّادَاتُ 000
كَتَبَ الشِّعْرَ 000
أَحَبَّ بِنْتَ الْجِيرَانِ 000
وَذَاقَ الشَّوْقَ إِلَى الْمَجْهُولِ 000
ـ غَدًا يَا بِلالُ سَيَأْتِي السَّائِقُ يُغِيِّرُ الصُّنْدُوقَ ، تَسْتَقْبِلُهُ ، وَتَقُومُ مَقَامِي 000
ـ لِمَاذَا يَا أَبِي ؟
ـ الْحَيَاةُ تَتَقَدَّمُ ، وَرَأسُ الْمَالِ يَتَحَرَّكُ ، وَالسُّوقُ جَدِيدٌ يَفْتَحُ لِلدُّنْيَا الأَبْوَابَ 000
000000
000000
000000
السَّيَّارَةُ تُسْرِعُ نَحْوَ الْبَيْتِ ، وَالأَطْفَالُ لا يُهَرْوِلُونَ وَرَاءَهَا 000 يَطُلُّونَ مِنَ النَّوَافِذِ ، يَبْتَسِمُونَ ، يُحَيُّونَ بِلالاً 0000
ـ يَا أَبَتِي 000 الصُّورَةُ صَارَتْ بِالأَلْوَانِ 0
ـ أَلَيْسَتْ أَفْضَلَ ؟
ـ لَكِنِّي تَعَوَّدْتُ الأَبْيَضَ وَالأَسْوَدَ 000
ـ الصُّورَةُ صَارَتْ أَغْنَى وَأَكْثَرَ تَأْثِيرًا
بِالأَلْوَانِ 000
تَتَنَوَّعُ الْوُجُوهُ 000
تَتَلَوَّنُ الأَشْكَالُ 000
وَسَوْفَ تَتَعَوَّدُ 0
ـ يَا أَبَتِي أَمْسَى الْبَرْدُ شَدِيدًا فِي الْبَهْوِ
الْوَاسِعِ 000
نُدْخِلُهُ فِي الْحُجْرَةِ حَتَّى يَجِيءَ الصَّيْفُ ؟
ـ لا بَأْسَ أَدْخِلْهُ فِي حُجْرَةِ جَدِّكَ 0
000000
000000
000000
تَضِيعُ الْبِنْتُ الْمَسْكِينَةُ فَوْقَ الأَوْرَاقِ ، وَيَمُوتُ الْقَائِدُ بَيْنَ جُنُودِهِ ، كَجَمَلٍ مَذْبُوحٍ بَيْنَ قَطِيعِ خِرَافٍ 0000
000000
000000
ـ لِمَاذَا لا أَرَاكَ فِي الْبَيْتِ إِلا قَلِيلاً ؟
ـ سَئِمْتُ حَفَلاتِ الرَّبِيعِ الْكَالِحَةَ ، وَهَذَا الْوَلَدَ الْعَارِيَ كَالْخُنْثَى ، وَتِلْكَ الْبِنْتَ الرَّاقِصَةَ
كَدَاعِرَةٍ 000
ـ يَا وَلَدِي لا تُتْعِبْ رَأْسَكَ !!
ـ أَشْعُرُ بِالْبَرْدِ يَا أَبَتِي ، وَكَأَنَّ الْجُدْرَانَ الْقَدِيمَةَ تَأْبَى أَنْ تَمْنَحَنَا الدِّفْءَ 000
شَيْءٌ مَا يَتَغَيَّرُ فِي الأَرْوَاحِ ، يُسْرِعُ خَلْفَ السَّيَّارَةِ ، لا يَتَوَقَّفُ ، الْحُرِّيَّةُ وَرَاءَ الأَبْوَابِ عَاجِزَةٌ تَنْتَظِرُ اللَّحْظَةَ ، وَالْعُمْرُ قَصِيرٌ 000
ـ هَلْ رَأَيْتَ كَيْفَ دَخَلَ الرَّجُلُ الْمَجْنُونُ ؟
ـ سَيِخْرُجُ ثَانِيَةً يَا أَبَتِي ، وَسَتَسْقُطُ بَغْدَادُ 0
ـ لِمَاذَا لا تُرَاسِلُ نَانِسِي ، وَرُوبِي وَهَيْفَاءَ ؟ اكْتُبْ لَهُنَّ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِكَ !!
ـ تَبْكِي لُبْنَانُ يَا أَبَتِي ، وَالْحَرْبُ ضَرُوسٌ 0
ـ لِمَاذَا تُجْهِدُ رُوحَكَ ، وَتُجْهِدُنَا ؟
ـ الصُّورَةُ يَا أَبَتِي صَارَتْ بَارِدَةً ، وَالرُّوحُ
تَضِيقُ 000
000000
000000
000000
تُغْلَقُ الأَبْوَابُ ، وَتُطْفَأُ الْمَصَابِيحُ ، وَصَوْتُ الرَّصَاصِ وَقَذْفُ الْمَدَافِعِ وَأَزِيزُ الطَّائِرَاتِ وَبُكَاءُ النِّسَاءِ يَسُدُّ الآذَانَ 000
ـ سَوْفَ نُحْكِمُ الْحُدُودَ 000 لا تَقْلَقُوا ، فَالرَّجُلُ فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ يُدَخِّنُ السِّيجَارَ ، وَيُدَبِّرُ الأُمُورَ 000
الأَطْفَالُ يُهَرْوِلُونَ فِي الشَّوَارِعِ ، مَفْزُوعِينَ ، وَأَهْلُ الْحَارَةِ الطَّيِّبُونَ يَحْمِلُونَ الْعِصِيَّ وَالْفُؤُوسَ ، وَبِلالٌ ـ وَحْدَهُ ـ يَظَلُّ قَابِعًا حَزِينًا فِي الْبَهْوِ ، مُسْتَسْلِمًا لِدُمُوعِهِ ، فِي انْكِسَارٍ ، يَرْسُمُ ـ مُحْبَطًا فَوْقَ الْجِدَارِ ـ أَوْجَاعَ الْمَخَاضِ 000
يُدْرِكُ ـ فِي قَلَقٍ ـ أَنَّ اللَّوْحَةَ الأَخِيرَةَ بِالأَبْيَضِ وَالأَسْوَدِ تَكُونُ دَافِئَةً 0