المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأثر النفسي لتطبيق الحدود الشرعية



هيثم الفقى
09-27-2010, 11:05 PM
الأثر النفسي لتطبيق الحدود الشرعية

moqatel.com

الصحة النفسية للفرد والأسرة والمجتمع

للصحة النفسية، بالنسبة إلى الفرد، تعريفات عدة، نورد منها ما يلي:
هي التوافق الداخلي بين مكوّنات النفس، المتمثلة في الغرائز ـ وهي الجزء الفطري، الذي يُولَد به الإنسان ـ وجهاز القِيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية داخل الإنسان، وهو ما يتم اكتسابه من العالم الخارجي خلال عملية التربية. وهذا التعريف يتفق مع الأصول الإسلامية، التي تشير إلى مكوّنات النفس بأنها "نفس أمّارة بالسوء"، وهي التي تقابل الغرائز، و"نفس لوامة"، وهي التي تقابل جهاز القِيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية، إذْ إِنها تلوم الإنسان، عندما يشذ عن تلك القِيم، فيعود إلى الانضباط، ويطابق بين أفعاله وقِيمه، عندئذ يتوافق نفسياً. فتصبح محصلة نفسه مطمئنة، ويوصف بأنه ذو نفْس مطمئنة. ولعل الوصول إلى تلك الحالة من الطمأنينة صعب المَنال، لأن طبيعة الحياة صراع بين الرغبة والحرمان. وحين يصل الإنسان إلى جِماع ( أي حل يوفّق بين المتناقضَين ) للرغبة ونقيضها، لا يلبث هذا الجِماع أن يتحول هو نفسه إلى رغبة، فيتولد داخل النفس ما يناقضه، ثم يتحقق التوافق بالوصول إلى جِماع. وهكذا يظل الإنسان في معاناة ومكابَدة طوال حياته. ولا يصل الإنسان إلى الاستقرار التام، إلا حين يتكامل ويشعر بالرضا. وتتوقف كل الرغبات ونقائضها، وهذا يحدث في المرحلة الأخيرة من مراحل النمو النفسي الاجتماعي، كما يراها إريك إريكسون Eric Erikson، حول مراحل عمر الإنسان المختلفة، بادئة من الطفولة حتى الشيخوخة، ثم يصل إلى الطمأنينة الكاملة بالعودة إلى الذات العُليا بعد الموت. واستطراداً، فإن التوافق الداخلي توافق نسبي، ولا يمكِن استمراره طوال الوقت، وتلك هي طبيعة النفس البشرية.
الصحة النفسية هي التوافق بين أحوال النفس الثلاث: حالة الأبوة (Parent)، وحالة الطفلية ( Child)، وحالة الرُّشد أو النضج (Adult) والمقصود بحالة الأبوة الحالة التي يتخذ فيها الشخص من الآخر موقف الأبوة ( أو الأمومة )، سواء كانت أبوة مُحِبةً وعطوفاً ومانحة ومشبِعة للحاجات، فهي تعطي الآخر كل ما يطلبه، مادياً ومعنوياً، وهو ما يوصف بالأبوة ( أو الأمومة ) الطيّبة، أو كانت ناقدة ولائمة، تصب عدوانها على الآخر. أمّا حالة الطفلية، فهي تصف موقف الضعف والعجز والحاجة إلى الآخر، وعدم القدرة على مواجَهة الواقع، أو تحمّل المسؤولية. لذلك، فإنها ترتبط باللجوء إلى الآخر، وطلب المساعدة. أمّا الراشد ( أو الناضج )، فهو الوسط بين الأب والطفل. فهو لا يدّعي المقدرة على كل شيء، ولا يجعل الآخرين يعتمدون عليه ( أي أنه ليس أباً ولا أماً )، وهو أيضاً لا يطلب الإشباع من الآخرين، ولا يعتمد عليهم ( أي أنه ليس طفلاً ). ومن ثَمّ، كان الناضج واقعياً أي مرتبطاً بالواقع، ومتحملاً للمسؤولية. ويتضح هذا التعريف من خلال التعامل مع الآخرين، فعندما يصاب شخص بكَرْب، وينتابه الشعور بالضعف والعجز وقِلْة الحيلة ( وهو موقف الطفل )، فإنه يلجأ إلى من هو أقوى وأقدر على مساعدته على مثل هذا الكَرْب، وهو الذي يمثّل موقف الأب ( أو الأم )، وهذا الأخير إذا ترك المكروب ( أي الطفل ) في اعتماده عليه، تكون تلك منفعة متبادلة، لأن أحدهما مستفيد من دور الطفل، والآخر مستفيد من دور الأب. وإذا لاحظنا هذا الموقف بعمق، نرى أنه ينُم على اعتمادية متبادَلة، وهي لا تُنمّي أيّاً من الطرفين. لا تنمّي الطفل، لأنه سوف يستسهل الاعتمادية المغدقة عليه، ولكنه سيدفع ثمنها، لأنه سوف يظل في حاجة إلى الأب، وعليه أن يطيع كل ما يفرضه عليه الأب من قيود، كي يستمر في تلقِّي المساندة، أي أن الثمن هو حرّيته وحرّية اختياراته. كما أنها لا تنمّي الأب لأنه سوف يتوقف عند مرحلة الاعتماد النفسي على من يوقّره، ويُشعِره بذاته من أَجْل العطاء الذي يقدّمه. وهو حين يعتمد، نفسياً، على آخر ( الطفل الذي يُعطيه )، فهو طفل بصورة أخرى في اعتماديته، وهذا يَنكُص به إلى موقف الطفل ولا ينمّيه. أمّا الأب الذي يريد أن ينمو، فهو الأب الذي يُنمّي مَنْ يلجأ إليه طلباً للمساعدة، وهو مَوقف الناضج ( الراشد )، إذْ لا يَدَع الآخر يستلقي ويستريح على كتفيه، بل يساعده على فَهْم الواقع وتقبّله وعدم التخلي عن مسؤوليته فيه. فلا يساعده على الهرب إلى الاعتمادية، بل يجعله يواجِه مسؤوليته ويتحملها، وهو في هذا يرفعه من موقع الطفل إلى موقع الناضج، الذي يستطيع مواجَهة هذا الموقف، وكذلك يتعلم كيف يواجه مواقف جديدة.
وهناك الرؤية الشاملة إلى الصحة، وهي رؤية جديدة لا تتجزأ إلى صحة نفسية وصحة جسمانية، لأن كلاً منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها. وهي تُعرِّف الصحة، بوجه عام، بأنها: ( حال الوجود الإيجابي للإنسان بنَواحِيه الثلاث، البيولوجية والنفسية والاجتماعية، والتناغم بين هذه النواحي الثلاث )، فالإنسان تتكامل فيه نَواحٍ ثلاث، هي: الناحية البيولوجية، التي تشمل الجسد وما يتعلق به من أعضاء وأجهزة، كالجهاز الدوري والجهاز التنفسي، والجهاز العصبي. وهذه الأجهزة تتكامل أيضاً بدورها، فلا يمكِن لأيّ منها أن يقوم بوظائفه من دون تكامله مع باقي الأجهزة. والناحية النفسية، وهي المعنوية للإنسان، وتشمل المشاعر والانفعالات والانتباه والتفكير، وغيرها من الوظائف النفسية. والناحية الثالثة، وهي الاجتماعية، ويُقصد بها علاقات الشخص الاجتماعية، وقدْرته على أداء دوره الاجتماعي، سواء على مستوى أُسرته، أو على مستوى مجتمَعه. فالإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه العيش بمفرده، وكما يُقال في المثل الشعبي: "جنة من غير ناس ما تنداس "، أي أن الشخص حين يوجد وجوداً إيجابياً فعالاً ومؤثراً في البيئة من حوله، من الناحية الجسدية والنفسية والاجتماعية، وتتناغم هذه النواحي الثلاث مُحقِّقة التكامل فيما بينها، فتلك هي الصحة بوجه عام

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:05 PM
دور العِقاب في تقويم السلوك الخاطئ

لِمَ وكيف يتجنّب الفرد سلوكاً ما، على الرغم مما قد يجلِبه هذا السلوك من لَذّة، أو يحقّقه من فائدة له ( ظاهراً )؟
يمرّ التجنب لسلوك ما بخطوات ثلاث، هي:
أولاً: المعرفة على المستوى العقلي.
ثانياً: الموقف الداخلي أو الاتجاهات.
ثالثاً: سلوك التجنب.

أولاً: المعرفة على المستوى العقلي

وهي أن يدرك الفرد أن هذا السلوك خاطئ، ونتائجه سيّئة، وعواقبه وخيمة. وهـذه مرحلة سطحية، لا تكفي لِردْع الإنسان عن إتيان سلوك ما، خاصة إذا كان هذا السلوك يحقق إشباعاً للَذّة بصورة مباشرة، أو فائدة للفرد. وليس أَدَلّ على ذلك من أن كثيرين من المدخّنين يعرفون أضرار التدخين، ولكنهم لم يُقلِعوا عنه، على الرغم مما هو مكتوب على علب السجائر، من أن التدخين ضارّ جداً بالصحة، وبما تأكد من علاقة وثيقة بين التدخين وأمراض جسمانية مُهلِكة، أهمها سرطان الرئة، ومع ذلك لم تكْفِ هذه المعرفة ليمتنع المدخّن عن التدخين. لذلك، كان لا بدّ من خطوة ثانية، تكون أعمق من المعرفة، ليتجنّب الإنسان سلوكاً ما. وهكذا، يأتي دور الجانب الانفعالي ( أو العاطفي )، أو ما يسمى بالاتجاهات الداخلية للفرد.

ثانياً: الموقف الداخلي أو الاتجاهات

وهي تنبُع من الجهاز القيَمي، الذي يتكّون داخل الإنسان منذ طفولته المبكرة، ويكتمل نموّه ببلوغ الإنسان سِنّ الرشد. ويتكوّن هذا الجهاز من خلال ما يتلقّاه الطفل من قِيم وأخلاقيات المُحيطِين به، خاصة الأم، التي تلقّنه الخطأ والصواب، ليس على مستوى الألفاظ فقط، ولكن على مستوى الفعل والقدوة. فيكُون التشجيع عند فعل الصواب، والنهيُ والزجْر والعِقاب عند فعل الخطأ، أول حدوثه. ولا شك أن الأم والمحيطين بها، يجسِّدون قِيم المجتمع الذي يعيشون فيه، فلا تلبث تلك القِيم أن تترسخ في ذِهن الصغير من خلالهم. وكلما اتّسقت سلوكيات القائمين على التربية، مع المعايير الاجتماعية السائدة ومع الجانب المعرفي، الذي يُلَقّن للصغير، ترسّخت القِيم، وأصبحت تؤدّي دورها بِيُسر وسلاسة في تعديل سلوك الفرد وضَبْطه. وتوجّه الاتجاهات سلوك الفرد في المواقف المختلفة طِبقاً لميولها، وبصِبغة انفعالية، مما يعطي السلوك قوة دافعة، مَنْشَؤها ذاتي ( أي نابع من ذات الفرد دون ارتباط بالواقع الموضوعي )، بمعنى أنه يتصرف بتأثير الاتجاهات أكثر من تأثّره بموضوعية الأشياء. ويمكن أن نُعرّف الاتجاهات بأنها المَيل الداخلي نحو الأشياء، وهي تُكتسب من البيئة، دون مراجعة لها أو البحث في منطقيتها. وليس سهلاً على الفرد أن يُميّز بين اتجاهاته أو معتقَداته أو آرائه الخاصة، لأنها جميعاً تنبُع من جهاز القِيم لديه. ولكن الاتجاه هو الأقرب إلى الموقف التنفيذي في السلوكيات؛ فالمعتقَد داخلي، والرأي منطق انفعالي، ( أو منطق فقط )، بينما الاتجاه هو الخطوة التي تسبق السلوك. ونظراً إلى أهمية الاتجاهات في السيطرة على السلوك أكثر من المعرفة العقلية، فإن البحث سوف يُفَصّل ما يمكن أن يؤثر فيها، وهو:
1. معتقَدات الفرد الدِّينية.
2. القِيم السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه.
3. وجود القدوة التي تجسّد صورة القِيم.
4. قوة البناء النفسي.
5. سَعة إدراك الفرد ومَدى اطّلاعه.
6. نتائج (عواقب) السلوكيات المختلفة.

1. دور المعتقدات الدينية

يُعَدّ التأثير الديني أحد العوامل المهمة في الاتجاه نحو سلوك ما، وذلك لِمَا يرتبط به من أصول عميقة في نفْس الفرد، غُرست فيه من صِغره. كما أن المعتقَدات هي الجذور الأساسية للاتجاهات داخل الأفراد، ومن ثَمّ، كان الإيمان العميق بالله، وما يتبع ذلك من إيمان بالغيبيات، يهيِّئ الفرد لقبول أوامر الدِّين، وتجنّب نَواهِيه، خاصة إذا ارتبط فعل الأوامر بالثواب ( أي بدخول الجنة ورضا الله، الخالق الرازق )، وارتبط إتيان النواهي بالعِقاب ( أي بدخول النار وعدم رضا الله )، مع التذكير بذلك، من خلال التربية المرتبطة بالقدوة، والمواعظ المتكررة، التي يحضّ عليها الدين. قال تعالى: ] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[ (الذاريات: 55). مما يدعم الاتجاه الداخلي للأفراد.

2. القِيم السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد

تنمّي قِيم المجتمع اتجاهات معينة دون أخرى، فإذا عاش فرد في مجتمع من اللصوص، فسوف يكتشف أنّ مَن يسرق أكثر، يصبح، في نظر هذا المجتمع، هو النجم والبطل. ومن ثَمّ، فإن نتائج سلوك السرقة من قِبل هذا المجتمع، سوف تبارِك هذا السلوك وتدعمه. ولذلك، ينمو مثل هذا الاتجاه لدى الفرد، ويصبح اتجاهاً نامياً لدى الآخرين، فيَنْحون مَنْحَى هذا الفرد، كي ينالوا المكانة نفسها بين أفراد مجتمَع اللصوص. أمّا إذا عاش لصٌّ في مجتمَع الشرفاء، فإنه سوف يُصبح شاذّاً بينهم، ويَدِينون تصرّفه، بل ينال العِقاب المتفق عليه في مجتمَع الشرفاء، فيكُون عِبرة لغيره من أفراد المجتمع، الذين يتخيلون النتائج التي سوف يجلِبها عليهم سلوك السرقة من عِقاب وضرر، فيجتنبونه. لذلك، كانت القِيم السائدة في مجتمع ما مُدَعِّمة لاتجاهات دون أخرى، طِبقاً لِمَا تعطيه من تعزيز أو ازدراء السلوك لدى الأفراد.

3. القدوة التي تجسّد صورة السلوك

لا يستطيع الطفل تجريد المبادئ ( أي فَهْم المبادئ المجرَّدة، مثل: العدل والخير والصدق )، في مرحلة اكتسابها، وذلك خلال الفترة من سِنّ السادسة وحتى البلوغ. ولكن يمكنه أن يتمثّلها عِياناً في فرد ما، تتوافر فيه تلك المبادئ أو المُثل. فيصبح هذا الفرد هو القدوة، وقد يكُون شخصاً حقيقياً، يعايشه الطفل، كالأب أو المدرّس أو أحد الأقارب، أو شخصية من التاريخ، وذلك من خلال نَعْت التاريخ لصفاته وسِيرته، مثل رسول الله ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ كقدوة للمسلمين، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[ (الأحزاب: 21)، أو أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو غيرهما ممَّن صنعوا التاريخ، وأثّروا في البشرية بشكل أو بآخر. وتجسيد القدوة يسهّل للطفل تقمّص سلوكياتها، من طريق التوحّد معها.

4. قوة البناء النفسي

ويُقصد بقوة البناء النفسي تكامل الذات، من حيث قيامها بوظائفها العقلية بصورة متّسقة، بما فيها الفهْم على المستوى المعرفي للعالم الخارجي، ومطابَقته برصيد الخبرة المختزَنة في الذاكرة والمرتبط بالوجدان، دون سطحية انفعالية، تقلب الشخص من النقيض إلى النقيض، بغير قناعة منطقية كافية. وذلك يرجع إلى ضَعف الذات، كما يرجع إلى زيف جهاز القِيم لدى الأشخاص القابلين للإيحاء وتغيير اتجاهاتهم.

5. سَعة إدراك الفرد ومَدى اطّلاعه

إن مقدار الفَهْم للواقع، ووضوح حقائقه في عقل الفرد يؤثران في اتجاهاته. ومن ثَمّ، فإن نقص الفَهْم للأمور، يكوّن لدى الفرد اتجاهات خاطئة دون أن يَعِي. وكثيراً ما لوحظ أن هذا هو الحال لدى بعض المتعصبين لاتجاهات معيَّنة، وضد آراء لا تتفق مع آرائهم.

6. العواقب المترتبة على السلوك

تشمَل ما يترتب على السلوك من مكافآت، أو ما يناله الفرد من عِقاب. فإذا كُوفِئ الفرد على سلوك ما، فسوف تدعم المكافأة ذلك السلوك، سواء كانت مادية أو معنوية، في صورة استحسان الآخرين لما قام به الفرد. وكذلك إذا عُوقِب الفرد على سلوك ما، فإن العِقاب يطفئ السلوك، ويجعل الفرد يتجنّبه، خوفاً من تكرار العِقاب، خاصة إذا كان للعِقاب جزء مادي وجزء معنوي، كما في تطبيق الحدود، إذْ إنها تكُون مُعلَنة، فيتحقق منها الإيذاء البدني والإيذاء المعنوي، الذي يهزّ صورة الفرد أمام ذاته وأمام الآخرين.

ثالثاً: سلوك التجنّب

وهو أن يتصرف الفرد بصورة تُبعِده عن السلوك غير المرغوب فيه، فيجنّب نفسه ما يترتب على هذا السلوك من نتائج.
ويختلف سلوك الإنسان، في دوافعه، عن سلوك الحيوان، إذْ يكمُن خلْف سلوك الحيوان الدافع الغريزي، أساساً. بينما يكمُن خلْف سلوك الإنسان جهاز القِيم، الذي في تفاعله مع الغرائز، يهذبها بما يتناسب وقِيم المجتمع. وإذا شذّت الغرائز، وَجَبَ العِقاب من جهاز القِيم، الذي هو مُمثّل لقِيم المجتمع وأخلاقياته داخل الفرد، حيث الشعور بالذنْب، والاعتراف بالخطأ، وطلبُ العِقاب. وكثيراً ما يحدث أن يعترف شخص بجريمته طالباً العِقاب، أو عِقاب النفس لاإرادياً أو الانتحار عقب الجريمة. ويتضح ذلك من حالة سيدة متزوجة، في الثلاثينيات من عمرها، ولديها طفلان في الخامسة عشرة والثانية عشرة من عمريهما، ومتزوجة برجل ذي منصب كبير، مشغول طوال اليوم، إلا من ساعتين عند الظهر، يتناول غداءه خلالهما، وينام قليلاً، ثم يرجع إلى عمله، فيعود منه عند منتصف الليل، لينام بعد تناول العشاء. وفي يوم الإجازة، إمّا أن يستريح، أو يخرج لقضاء بعض شؤونه. شعرت هذه السيدة بالفراغ العاطفي، وجمعَتْها المصادفة برَجل أعطاها رقم هاتفه، وتبادلا المكالمات الهاتفية، ثم طلب منها أن تقابله، وتقابلا مرتين في مكان عام. ثم طلب منها أن يلتقيا في مكان خاص (شقّته)، وأخذ يُلِحّ عليها. في هذه الأثناء، كانت قد اشتدت عليها الكوابيس، التي فحواها أنها تعاني ورماً سرطانياً قاتلاً، وهي في صدد إجراء جراحة لاستئصاله، مع معاناة شديدة أثناء الكابوس، إلى درجة جعلتها تتجنب النوم لعدة أيام خوفاً من هذا الكابوس. وعندما كان يباغتها النوم، دون إرادة منها، تستيقظ فَزِعَة من الكابوس نفسه. وفي الحقيقة لم يكُنْ هذا الكابوس سوى الشعور بالذنْب ومعاقبة النفس، إذْ بدأت الكوابيس مع بداية علاقتها بهذا الرجل، والذي أصدر العِقاب هنا، هو جهاز القِيم لدى هذه السيدة، الذي نشأ داخلها بتأثير تربيتها وقِيم أُسرتها، وهو ما يمكِن أن يُطلق عليه "الضمير"، وهذا العِقاب يتمّ على مستوى لاشعوري.
وإذا لم يوجد لدى الإنسان السلطة الداخلية، لتردعه وتقوّم سلوكه وتصرفاته، كان لا بدّ من أن تتولى السلطة الخارجية، وهي سلطة المجتمع، تقويم سلوكيات الفرد، حفاظاً على الفرد والأُسرة والمجتمع، فتضع عقوبات للمجاوزين لحدودهم، إذا لم يَرِدْ فيها نَصٌّ قرآنيٌّ. وهذه العقوبات هي الحدود الشرعية، في المجتمعات الإسلامية.



تطبيق الجزاء في الحدود الشرعية

لكي يطبَّق الجزاء في الحدود الشرعية، يُراعَى أن يكُون الشخص، مقترِف الإثم أو المخالفة، المجاوز للحدِّ، مكلفاً، أي مسؤولاً عن تصرفه، في ضوء الآتي:
العقل : أي أن يكُون الشخص عاقلاً، ويؤدِّي عقله وظائفه بصورة سَوِيَّة، من خلال سلامة القوى الإدراكية والإرادة، إذْ إن سلامة القوى الإدراكية تُتِيح الفَهْم الصحيح للعالَم من حوله. فإذا كانت مُختلّة، بما يجعله يدرك أشياءَ ليست حقيقية أو غير موجودة، فإن تمييزه سوف يختلّ، ويأخذ عقله قرارات خاطئة، طِبقاً للمُعطَيات الخاطئة. وإذا كانت الإرادة مسلوبة بضلالات المرض العقلي، وهي الأفكار الخاطئة الثابتة، التي لا يمكِن تصحيحها بالحجة والمنطق، ولا تتناسب مع ثقافة الشخص وبيئته، فإن تصرفاته سوف تكُون تحت سيطرة تلك الإرادة المَرضية. ومن ثَمّ، فهو لا يحاسب على تلك التصرفات، حتى لو كانت مجاوزة للحدود الشرعية. وهي مستمدة من سُنَّة المصطفى ـ r. فقد ورد في سنن أبي داود، في باب الحدود، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ] رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِم[ (صحيح البخاري وسنن أبي داود).
البلوغ: يُقصد به، من الناحية النفسية، القُدرة على فَهْم الأمور المجرّدة، وتمثّل أحكام الشرع الحكيم، واكتمال العقل. ويُلاحظ أن طفولة الإنسان ليست كطفولة الحيوانات، إذْ إِنه يحتاج إلى عام كاملٍ من الزمن حتى يَستَوِي واقفاً، ثم يحتاج إلى عامين آخرين حتى يستطيع الجَرْي، بينما صغير الحيوان، في خلال ساعات قليلة، يستطيع الوقوف والجَرْي. ويلزم الطفل وقت طويل حتى يَصِل إلى البلوغ ( من الحادية عشرة حتى السابعة عشرة من عمره )، ولا يُعَدّ راشداً، إلاّ إذا بلغ الواحدة والعشرين من عمره. والرشد يُقصد به اكتمال العقل، وحُسْن التصرف، لقوله سبحانه وتعالى: ] وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ... [(النساء: 6) وهذه ميزة حَبَا الله بها الإنسان، حتى يكتسب قَدْراً كبيراً من الخبرات، التي تُيَسِّر له سُبُل العيش، وتحمُّل المسؤولية وأداء الأمانة، التي أَعَدّه الله لها، كما جاء في قوله تعالى: ]إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[ (الأحزاب: 72).
ومن سمات الحدود الشرعية، العَلانِيَة في تطبيقها، لأنها تحقِّق الردع للآخرين، إذْ يكُون ذلك أمامهم مؤكداً جِدّيّة الالتزام بإقامة الحدود، وفيه العِبرة والعظة لِمَن تُسوِّل له نفسه ارتكاب أيٍّ من المخالفات الشرعية.
والحدود، في الاصطلاح، هي العقوبات المقدَّرة شرعاً. والحدّ، في اللغة، هو الفصل بين شيئين، حتى لا يختلط أحدهما بالآخر، أو يتعدّى أحدهما على الآخر. وأصل الحدِّ، هو المنع. ويُطلق على المعاصي، لقوله تعالى: ] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا[ (البقرة: 187) و]وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [.(الطلاق: 1)
ويُطلق الحدُّ على جرائم الحدود وعقوباتها، فيُقال: ارتكب الجاني حدّاً، وعقوبته، حدّاً. وعندما يُطلق الحدُّ على الجريمة، فذلك يعني تعريف الجريمة بعقوبتها، أي أنها جريمة ذات عقوبة مقدَّرة، شرعاً، فتسمى الجريمة بالحدِّ، من باب المجاز

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:06 PM
أثَر تطبيق الحدود الشرعية في الصحة النفسية للفرد والأُسرة والمجتمع

لكل فرد مساحة من الحرية يتمتع بها، ولكن يجب ألاّ تتعدى حريته إلى الإضرار بالآخرين، سواء كان هذا الإضرار يتعلق بذات الآخر أو ماله أو عِرضه، أو بما يسيء إلى المجتمع ويَضُر بأمنه واستقراره. ومن ثَمّ، كان تطبيق الجزاء على من يتجاوز الحدّ في تصرف من سلوكياته، التي تضُر بالآخرين أو تسيء إليهم. فجزءٌ مهمٌّ من الصحة النفسية، أن يشعر الفرد في المجتمع، الذي يعيش فيه، بالأمان على نفسه وماله وعِرضه. كما أن الردع، الذي تحقِّقه الحدود الشرعية، يُحكِم السيطرة على الغرائز، ويوجهها الوُجهة الصحيحة. فمثلاً، حين يعرف الفرد أنه إذا وَجَّه طاقته العدوانية تجاه آخر بقتله، فإنه سوف يُقتل، قِصاصاً، فإن هذا يجعله يفكر، مَلِيّاً، قَبْل ارتكاب جريمته. وبذلك، تُرَشّد طاقة العدوان، وتتمّ السيطرة عليها وتطويعها، كما تُسهِّل احتمال الآخرين وقبولهم، وهو ما هدفت إليه الحضارات وقامت عليه، فلولا كبْت طاقة العدوان والسيطرة عليها، لتقاتل الأفراد، وانتهت تجمعاتهم إلى أنانية فردية، يتصرف فيها كل فرد كما يحلُو له، من دون مراعاة للآخرين. ولتحولَت المجتمعات الإنسانية إلى غابات يأكل القوي فيها الضعيف. لذلك، كان لا بدّ للمجتمعات من تشريعات تنظّم العلاقة بين الأفراد، ومن بين تلك التشريعات الحدود الشرعية. وهي، وإن كانت توفّر الأمان للفرد، وتُشيع السكِينة بين أفراد المجتمع، فإنها تعالج، في الوقت نفسه، الشخص المجاوز للحدّ، إذْ إنه حين يُقام عليه الحدّ، يكُون قد تطهّر وتخلّص من شعوره بالذنْب، فيعود إلى توازنه النفسي، ويبدأ صفحة جديدة من حياته، من دون لَوْم لنفسه ومعاداة لها على ما ارتكبتْه في حق الآخر، وفي حق المجتمع، وفي حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي شَرَع هذه الحدود؛ لأن الصحة النفسية، هي التوافق بين مكوّنات النفس، من غرائز ( وهي النفس الأمّارة بالسوء )، والأنا العليا، التي تمثّل الضمير ( وهي النفس اللوامة ).
إن المجتمع مسؤول عن أَمْن أفراده وسلامتهم، وكذلك هو مسؤول عن صحتهم، الجسدية والنفسية. ولذلك، كان لا بدّ من الضرب على أيدي المنحرفين من الشخصيات، التي تهدد أَمْن الآخرين وسلامتهم، مِثل الشخصية "المضادّة للمجتمع"، والتي تتّسم بالسلوك المضادّ للمجتمع، والمستمر بَدْءاً من الطفولة، أو من بداية المراهقة. وتكون مؤشرات مثل هذه الشخصية في الطفولة، هي الكذب والسرقة والهروب من البيت أو المدرسة، وانتهاك حقوق الآخرين، والشجارات والاعتداءات الجسمانية على الآخرين. وتستمر السلوكيات المضادّة للمجتمع في الكِبَر، فيفشل صاحب هذه الشخصية في العيش شريفاً، كفرد مسؤول في المجتمع، ويفشل في الالتزام بقوانين المجتمع أو تنفيذها، إذْ يكرِّر انتهاك هذه القوانين، ويكُون عُرضة للمساءلة القانونية. والشخص المضادّ للمجتمع سريع الاستثارة، عدواني، ويتصرف بإهمال وعدم مبالاة، ومن دون مراعاة لسلامة الآخرين، ولا يحافظ على عَلاقة زوجية أو أُسرية لمدة طويلة، ولا يشعر بِوَخْز الضمير، عندما يسيء إلى الآخرين. وغالباً ما يكُون مُدمِناً متوتراً، لا يتحمّل الإحباط، سيئ العَلاقة بالآخرين، وليس له عَلاقات حميمة.
إن العِقاب، الذي فرَضه الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الحدود الشرعية، يتّسق تماماً مع النفس التي خلقها الله، وهو أعلم بطبائعها. لذلك، كان العِقاب في كل حدّ بما يكفي لردْع الآخرين، وتحقيق الأمن لأفراد المجتمع. وسنفصّل ذلك في السطور التالية، من خلال عرض موجز لكل حدّ على حِدَة

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:06 PM
1. حدّ القَتْل
وهو يُطبق في القتل العَمْد، ( والقتل العَمْد هو: أن يُقصد القتل، وباستخدام أداة مما يقتل غالباً كالسلاح مثلاً، فالقتل هنا يختلف عما عُرف بالقتل الخطأ، فالأول عمادُه النية والقصد، أما الثاني، فلا نية فيه ولا قصد، كمَن يضرب بيده، فتُفْضي ضربته إلى القتل، مع أن اليد عادة ليست من أدوات القتل)، إذْ إن من يَقصد ويتعمّد أن يَقْتل، إنما هو، ضمناً، يقبل أن يُقْتل، لأن الأصل هي المساواة بين البشر، من حيث حق الوجود والحياة والحفاظ على النفس. وقتْل إنسان هو أفظع جُرم، يمكِن أن يرتكبه إنسان في حق نفسه، وفي حق المقتول، وفي حق المجتمع، لأنه يطلِق العنان لطاقة التدمير في داخله، أن تُمْحُو وجود إنسان آخر. وهذه الطاقة التدميرية، لو أُطلِق لها العِنان، على مستوى المجتمع، لانهدمت أسُس المجتمع، وضاعت معالم حضارته، وأصبحت كل نفس مهدَّدة بالفَناء من قِبَل آخر، عدواني النزعة والسلوك. وهذا القاتل، قبل أن يصير قاتلاً، كان لديه سيطرة على طاقته العدوانية ( التدميرية )، تَمْنعه من قَتْل الآخرين، تشبه حاجزاً نفسياً داخلياً، يحمي البشر منه. هذا الحاجز هو جزء من القِيم والضمير. ولكن حين يقصد القتل مرة واحدة، ويكسر هذا الحاجز في داخله، يصبح القتل لديه سهلاً، وتتعدد ضحاياه من البشر. وقد كان في بعض القرى أناس يحترفون القتل، لأن حاجز السيطرة في داخلهم قد انهار، وماتت لديهم أي قيمة عُليا، تَمْنعهم من التفكير في إنهاء الآخر وتدميره. بل قد يصبح القتل في هذه الحالة "احترافاً"، لذلك سُمِّي صاحبه بـ "المجرم المحترف".
لذلك، كان الحَلّ الأمثل لهذا القاتل المتعمد، هو قَتْله، قِصاصاً لِمَا اقترفت يداه. وعلى الرغم من كَوْن ذلك حفاظاً على المجتمع من شروره، وأخْذاً لحقِّ من قتَله، إلاّ أنه، في الوقت عينه، تطهير له من الشعور بالذَّنْب، الذي قد يستشعره يوماً ما، حين يَصْحو ضميره، وقد ينتحر وقتها. ويقول المولى ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه الكريم: ]وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لِعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ (البقرة: 179).
ويقول الأستاذ الدكتور محمود عبدالرحمن حمودة، أستاذ الطب النفسي: " حين جلست إلى قاتل محترِف، بعد أن تاب، أخبرني أن أول مرة قَتَل فيها، كانت أصعب مرة، بعدها أصبح ينظر إلى الأجر الذي سوف يتقاضاه، لا إلى الضحية ومعاناتها. لقد شبّه نفسه بأنه أصبح آلة قَتْل، لا تَحْكُمه المشاعر ".
ويقول العزيز الحكيم في القرآن الكريم: ]ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَاِلداً فِيهَا وغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [ (النساء: 93). ويقول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ] أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء[ (متفق عليه). ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ:]لنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا[ (صحيح البخاري، ومسند أحمد).
أمّا في القتل الخطأ، وشبه العَمْد، فإن الأمر يختلف، إذْ إن القصد غير موجود، ولا الأداة التي تقتل غالباً ( فالقتل الخطأ لا يوجد فيه قصْد أصلاً، كأن يقصد صيداً، فيصيب إنساناً فيقتله. أمّا شِبه العَمْد، فهو أن يقصد القتل غالباً ). لذلك، انتفى القصد المرتب، الذي يستلزم إحضار أداة القتل، بل انتفي القصد أصلاً، وهو ما يعني أن القتل حدث كحالة أو رد فعلٍ مفاجئ، من دون إعمال كافٍ للعقل. فقد تكون لحظة انفعال، أفلتت خلالها سيطرة القاتل على سلوكياته، فاندفع في فعل القتل بأداة لا تقتل غالباً. وعلى الرغم من أن هذا الشخص القاتل، قد يكُون لديه جهاز للقِيم، وضمير يَحْكُم تصرفاته في المواقف الأخرى، ولكن تَنقصه السيطرة على سلوكياته في لحظة الانفعال، وليس لديه خلل عقلي. لذلك، كان عليه أن يدفع دِيَة باهظة لأَهْل القتيل، وعليه كفارة، تطهيراً لنفسه من الشعور بالذنْب، الذي اقترفه في حق نفسه، بأن قبِل، في لحظة انفعال، أن يدمر حياة إنسان آخر مثله. ويقول الدكتور حمودة : " لا أنسى تلك السيدة، التي حضرت تشكو أعراض اكتئاب نفسي، شديدة، بدأت لديها قبل ستة أشهر، في صورة ضِيق وملل وحزن، وكراهية الحياة، وشعور شديد بالذنْب، وامتناع عن تناول الطعام، ورغبة في قَتْل نفسها. واتّضح من الجلسات النفسية، أنها قَتلت، من دون أن يعرف أحد أنها قاتلة. فلقد طلبت منها جارتها أن تسترها، وتسعف معها ابنتها، التي حملت سِفَاحاً. وكانت الجارة قد أخفَت عن زوجها وأولادها سِرّ ابنتها، حين عرفت به في الشهر السادس، وانتظرت حتى اكتمل الحَمْل، وجاء وقت الولادة، واستدعت جارتها ( المريضة ) لتساعدها. وحين وُضع المولود، وقبْل أن يتنفس، كتمت السيدة ( المريضة ) أنفاسه، خوفاً من أن يخرج بكاؤه، ويسمعه والد الفتاة وإخوتها، الذين لا يَدْرون ما يحدث في البيت، داخل حجرة الفتاة. ولم تَدْرِ ( المريضة ) ما فعلت، إلاّ بعد أن تعطلت واختفت معالم الحياة في الوليد، بفعلها، فاسودت الدنيا في عينيها، حين أدركت حقيقة ما فعلت من قَتْل لنفس حرّم الله قَتْلها إلاّ بالحق، فكان الشعور بالذنْب، الذي لم تستطع البَوح به، إلاّ للطبيب النفسي، والذي كان يكمُن خَلْف الاكتئاب الشديد، الذي كانت تعانيه".
أمّا القتل الخطأ، فهو إزهاق الروح من دون قصْد، أصلاً، ومن طريق الخطأ غير المقصود. مثل الشاب الذي كان يركب، مع أخيه، قطاراً ذا أبواب آلية، وكان يستند بظهره إلى أحدها، وأخوه يتدلى إلى الخارج ممسكاً بيديه أحد الأعمدة. وعندما تحرك الشاب إلى الداخل فجأة، اندفع الباب الذي كان يستند بظهره إليه فطاشت يد أخيه، ولم يستطع إمساكها، وسقط الأخ ومات. ولم يتهمه أحد، ولم يكُن يقصد ما حدث، ولكن قتْل أخيه، من جراء خطأ شارك هو فيه، أشعره بالذنْب، وأصابه الاكتئاب، وفشِل في دراسته الجامعية عامين متتاليين، إذْ كان طَيف أخيه يطيح بتركيزه وبقدرته على الاستذكار، وكان شعوره بالذنْب يقتله كل يوم، مما دفعه إلى طلب العلاج النفسي.
إن القتل الخطأ يُوجِب الدِّيَة، ولكن ـ في هذه الحالة ـ لم يطالبه أحد بها، فالقتيل أخوه، ومن ثَمّ، كانت الكفارة، التي وجبت عليه، تخفيفاً لهذا الشعور بالذنْب، الذي لم تخِفّ حِدّته إلاّ بعد عدة جلسات من العلاج النفسي.

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:07 PM
2. حدّ السرقة
في البلاد التي تطبِّق القوانين الوضعية ( أي غير الشرعية )، يُحبس السارق عدة أشهر أو عدة سنوات، وحين يفرَج عنه، كثيراً ما يعود إلى السرقة، إلى درجة أن المشتبه فيهم معروفون لدى رجال الشرطة، ويستدعونهم عند حدوث السرقات الجديدة لاستجوابهم، بحثاً عن السارق. وهذا يؤكد ترجيح عودة بعضهم، إن لم يكُن أغلبهم، إلى السرقة من جديد. وقد يتكرر حبْس السارق، ومع ذلك يستمر في اقتراف السرقة عدة مرات، بل إن بعضهم يَعُدّها مهنته التي يحترفها ولا يرضى عنها بديلاً. ولكن عند قطْع يد السارق، فإن الخوف على يده الأخرى، سوف يوقفه عن السرقة تماماً. والأهم من ذلك، أن كل فرد يفكر في السرقة، سوف يخاف من مثل هذا العِقاب الرادع ( قطْع اليد )، ولن يَقْرَب السرقة أصلاً، حفاظاً على جزء مهم من جسده، وهو يده التي يقضي بها حاجته، والتي هي جزء مهم من صورة الجسد لديه. إذْ إن لكل منا صورة في عقله عن جسده، هذه الصورة تبدأ في التكون منذ بَدْء إدراك الطفل لنفسه ووَعْيِه بأجزاء جسده، تلك البداية المبكرة لصورة اليد حين كان يضع جزءاً منها في فمه، ليشعر بالأمان، وحين كان يرفعها أمام عينيه، لينظر إليها، ويحركها، ويرى اهتزازها، ليتأكد أنها جزء منه، يخضع لسيطرته، بل يحرك بها الأشياء، مُحدِثاً تغييراً في ما حولَه، أو يمدها طالباً العون من الآخرين لحَمله والاهتمام به. إنها الجزء الذي يمثّل التفاعل مع ما حولَه، وأداة مهمة للتواصل غير اللفظي بين البشر. وقد لوحظ في رسوم مَرضَى الفصام العقلي للأشخاص، أنها تنقصها الأيدي، ومن ثَمّ، فإن قطْعها يمثل تهديداً عظيماً لسلامة الإنسان، جسدياً ونفسياً، الأمر الذي يَحْدُو بِمَن يفكر في السرقة على أن يتجنبها، حفاظاً على هذا الجزء المهم من الجسد.
والسرقة في الطفولة عَرَض مَرضي لاضطراب السلوك، الذي ينتشر بين الأطفال بنسبة تُراوِح بين 5 و15%، وذلك لأسباب عديدة، ( منها: نَقْص الإحساس بحقوق الملكية، أو إنها طريقة لإعادة الأم المفقودة، أو فعْل عدواني، أو رغبة في الامتلاك، أو بَحْث عن شيء مفقود من جسد الأنثى، أو خوف من فقْد جزء مهمّ من الجسد لدى الذكر، أو وسيلة للبحث عن العِقاب، أو نوع من البحث عن الإثارة واستبدال لفعل جنسي، أو الانتقام من الوالدين، أو ثورة ضد سلطة الوالدين، أو الإحباط والشعور بالفشل، أو هَوَس السرقة ). أمّا السرقة في الحياة البالغة، فإنها جزء من اضطراب الشخصية "المضادة للمجتمع"، أو هوس السرقة. والفَرْق بين الحالين أن المصاب بداء هوس السرقة، يكُون لديه جهاز القِيم، الذي يشتمل على الضمير، فيلومه على فعل السرقة، ويحاول إعادة الشيء المسروق، إذْ إنه سرق تحت تأثير نزعة مَرضية، فشِل في مقاومتها، وسرق أشياءَ لا يحتاج إليها، وهو ليس في حاجة إلى قيمتها، بل قد يُلقِي بما سرقه في سلة مهملات عامة في الطريق. وغالباً ما يكُون الشخص ثَرِيّاً، ويستطيع شراء الأشياء التي سرقها. ذلك أن النزعة المَرضية التي دفعته إلى السرقة، هي الشعور بالمتعة أثناء ارتكاب فعْل السرقة. وهذا النوع من السرقة، يتمّ من دون تخطيط، ولا تُؤخَذ التوقعات في الحسبان، ومن دون مساعدة من الآخرين. بينما السرقة الإجرامية، التي يرتكبها الشخص المضادّ للمجتمع، مخطَّطة، وتُؤخَذ التوقعات في الحسبان، وقد يشترك معه آخرون، وهو يسرق أشياءَ ذات قِيمة، ينتفع بها، ولا يحاول إعادة الشيء المسروق، وحين يواجَه بفعله، فإنه يكذب وينكِر ما فعل، ولا يلوم نفسه على فعْل السرقة، ولا يشعر بالذنْب تجاه من يسرقهم. فالسرقة، في هذه الحالة، تعكس خللاً كبيراً في تركيب الشخصية، وهو نَقْص وخلل في جهاز القِيم والأخلاقيات لدى السارق.
ويحكي أحد أساتذة علم النفس، في كتابه، قصة تلك السيدة، التي كانت على قدْر كبير من الجَمال، حين حضرت ومعها زوجها، وأجهشت بالبكاء وهي تحكي عن نزعة السرقة، التي تباغتها وهي في المحالّ التجارية، فتسرق ما تصل إليه يدها. ولكنها عَقِب السرقة تَحَار كيف تُعيد ما سرقته، خوفاً من أن تشير إليها أصابع الاتهام. فتعود بمسروقاتها إلى المنزل، وهي في حالة نفسية سيئة، من الشعور بالذنْب، ولوم النفس والبكاء. وحين علِم زوجها، أحضرها للعلاج النفسي، الذي كشف أن هوس السرقة لدى تلك السيدة، كان استبدالاً بمتعة حسية مفقودة في عَلاقتها الزوجية.
ويحكي الأستاذ نفسه قصة فتاة في العشرين من عمرها، أحضرتها أمها، لأنها تسرق النقود من شقّة أخيها، الذي يسكن الطابق الذي يعلوهم. فقد صنعت مفتاحاً للشقّة، وأصبحت تنتهز فرصة غياب أخيها وزوجته، وتصعد لسرقة نقود أخيها شخصياً، دون نقود زوجته أو أشيائها. واكتُشِف أمرُها، لأنها كانت تصرف النقود على صديقاتها بإسراف شديد، وتشتري أشياءَ تافهة بمبالغ باهظة، فأحضرتها أمها للعلاج النفسي، الذي تبيّن خلاله، أن هذا الأخ هو الابن الوحيد لأُسرة تتألف من خَمس بنات، غير المريضة. وكانت الأم، طوال الوقت، تحب هذا الابن، وتفضّله كثيراً على أخواته البنات، وتُردِّد على مَسامعهن دائماً، أن "ظفره برقبة البنات الست"، وأنه رَجل الأُسرة وسيدهن جميعاً. لذلك، كان عداء الفتاة لأخيها يتزايد يوماً بعد يوم، خاصة أنها الأخيرة في ترتيب الأخوات. فتمّ التعبير عن العدوان تجاه أخيها برغبتها في سَلْبه ما يملك من مِيزات الرجولة ( أي عضو الرجولة )، وإزاء استحالة ذلك، استعاضت عنه بسَلْبه النقود، التي تُبرِزه كرجل قادر على الإنفاق. وفي فعْل السرقة تنفيس لمعاناتها بسبب تفضيل أخيها عليها.
من القصتيْن يُلاحظ، أن فعْل السرقة المَرضي، يبحث مُقترِفه عن العلاج تحت وطأة الشعور بالذنْب وعدم الراحة النفسية. أمّا مُقترِف السرقة الإجرامى، فإنه يخطّط، ولا يكشف نفسه، وأحياناً يستيقظ ضميره، ويبحث عن التكفير، الذي قد يتمثّل في التصدق على الفقراء، أو بناء مسجد، ويتمّ ذلك سِرّاً. ويكُون الشعور بالذنْب، أحياناً، باعثاً على الاكتئاب والأَرَق ليلاً، والكوابيس وعدم الشعور بالراحة، كما حدث للشاب الذي جاوز الثلاثين بسنوات قليلة، وكان يعمل محاسباً، بأحد فروع المصارف الموجودة في أحد الفنادق الكبرى، ولجأ إلى حيلة يستولي بها على نقود النزلاء، وظل يمارسها إلى أن أصبح ثَرِيّاً. وبعد فترة من توقّفه عن السرقة وصَحْوَة ضميره، باغته الشعور بالذنْب والاكتئاب، فلجأ إلى التكفير، بالإحسان والإمعان فيه والغلوّ في الشعائر الدينية، وما إلى ذلك. ولكن سِرّه ظَلّ جاثماً على صدره، يَقُضّ مَضْجَعه بالكوابيس والأَرِق ليلاً، فكان لجوؤه إلى الطبيب النفسي

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:07 PM
3. حدّ الزنا
تُعَدّ الغريزة الجنسية إحدى الغرائز الأساسية لدى الإنسان، وهي التي تحفظ له البقاء والاستمرار، من خلال التناسل. والإنسان بعد البلوغ، تتفجّر لديه هذه الطاقة، وتصبح مُلِحّة في أن تُشْبَع. وأحد التحديات في مرحلة المراهقة، هو كبْت تلك الطاقة، وإعلاء الغريزة، تفرغاً للإجادة في التعلم أو اكتساب مهنة، حتى يصل الإنسان إلى مرحلة الرشد، ويصبح قادراً على اختيار شريكه من ***** الآخر، يقِيم عَلاقة دائمة به، من خلال الارتباط برباط مقدّس، هو الزواج، كي يَجِد الأبناء، الذين سوف يُولَدون من خلال العَلاقة الزوجية، ظروفاً ملائمة، لرعايتهم وتنشئتهم في كَنَف أُسرة تُعِدّهم ليكُونوا أفراداً صالحين في المجتمع. وبذلك، تَكُون الأُسرة نِواة للمجتمع، تُشبِع حاجات أفرادها، وتُوفّر لهم الشعور بالأمان، وتعطيهم الرعاية اللازمة، وتُعِدّهم لحَمْل أمانة المستقبل للأُسرة والمجتمع والدولة. أمّا إذا تم إشباع الغريزة الجنسية بعد البلوغ، من خلال عَلاقة غير مشروعة، فإن هذا سوف يتبعه ميلاد أطفال السِّفَاح، غير الشرعيين، الذين لن يجدوا أُسراً في انتظارهم، وسوف يصبحون لُقَطاء، ويَكثُر أطفال الشوارع والمشردون، وغالباً ما يضطرب سلوكهم، ليهدِّدوا أمْن المجتمع واستقراره. وإذا سلّمنا بأن وسائل مَنْع الحَمْل المختلفة، قد تنجح في مَنْع الإنجاب، والحدّ من هذه الظاهرة، فإنها من ناحية أخرى، تبدد طاقة الحب في عَلاقات غير مثمرة سوى اللَّذة الوقتية، وتؤجّل العَلاقات المشروعة، التي تقِيم الأُسر، وتَهَب المجتمع أبناء يحملون أمانة مستقبله. فيتهدَّد المجتمع بالفَناء، كما هو الحال في كثير من الدول الغربية، التي يتناقص عدد سكانها، ويمثّل تعداد سكانها بيانياً، بهَرَم مقلوب قمته، وهم كِبار السِّنّ، أكثر من عدد أطفاله، وهم قاعدة الهرم. ولعلّ ما تقدّمه تلك الدول الغنية إلى دول العالم الثالث، من دَعْم لبرامج تنظيم الأُسرة، قد يكْمُن خلْفه خوفها من التفوّق العددي، الذي قد يغزوها يوماً ما. ومن ثَمّ، فإن العَلاقات الآثمة المحرّمة، تبدِّد طاقة الحب لدى الفرد، دون عائد، أو ينتج منها ولادات السِّفَاح، ويَكثُر في المجتمعات فاقِدو الأب واللُّقَطاء، فيهتز استقرار المجتمع.
كما أن هذه العَلاقة المحرّمة مع امرأة متزوجة، ارتضت الارتباط بزوج، وقبِلت أن تكُون أمّاً لأولاده، وشريكة له، يجعلها تتمرد على حياتها مع زوجها، بل ترفضه جنسياً، اكتفاء بما تحقِّقه من إشباع، من خلال عَلاقة آثمة، مما يترتب عليه مشكلات، تهدِّد استقرار الأُسرة وراحة أطفالها. ويروي أحد الأطباء النفسيين قصة سيدة كانت راضية بعَلاقتها الزوجية، على الرغم من عدم الارتواء من زوجها، إذْ كانت العَلاقة الزوجية بينهما رتيبة، غير باعثة على الإثارة. استدرجها زميلها، في العمل، برضاءٍ منها، لإقامة عَلاقة به، حركت الإثارة لديها، وشعرت بالإشباع، فبدأت في رفض زوجها، عاطفياً، وافتعال المشاكل معه لأَتْفَه الأسباب، وهدَّدت بتَرْك البيت، بل تركته عدة مرات، على الرغم من أن لديها ثلاثة من الأبناء. وانعكس عدم استقرار البيت، وتوتر جوّ الأُسرة، في مرض أحد الأبناء الثلاثة، نفسياً، وتطلَّب علاجه النفسي البحث عن السبب، الذي تمثَّل في عصبية الأمِّ، وسرعة استثارتها، وعدم تحمّلها. وكان لا بدّ من علاج السبب، وهي الأمّ، التي اعترفت، خلال العلاج النفسي، بعَلاقتها غير المشروعة. ومن خلال تقوية الذات، والاستبصار بالواقع الذي تعيشه، وبتحقيق قَدْر من النضج والشعور بالمسؤولية، وَاتَتْها القدرة على قَطْع عَلاقتها غير المشروعة، حفاظاً على بيتها وأولادها. ومن خلال بعض الإرشادات المساعدة، حققت الإشباع في عَلاقتها بزوجها، وكان لذلك تأثير إيجابي في نفسيتها، إذْ إنها كانت في صراع نفسي تجاه تلك العَلاقة غير المشروعة، وكثيراً ما كانت تكتم صوت ضميرها، وتغالط نفسها. وكانت في اندفاعها وراء الغريزة، في غربة عن نفسها، وعن قِيمها التي تربّت عليها، ومن ثَمّ، بعيدة عن رَبِّها. فاللجوء إلى المتعة الوقتية، على الرغم من أنه حقق لها الارتواء الجنسي، إلا أنه أفقدها التوازن النفسي، إذْ مالت إلى الغريزة على حساب القِيم، متناسية الواقع الذي تعيشه، فاختل أداؤها لهذا الواقع، وهو حياتها الزوجية كزوجة، واختل أداؤها لدورها كأمّ، وظهر ذلك في مرض أحد أطفالها، نفسياً.
وإذا كان هذا مثالاً لزنا المرأة المتزوجة، فهناك أمثلة عديدة لزنا الرجال المتزوجين، وللأسف إن بعضهم يَعُدّ هذا تأكيداً لرجولته، وأن امرأة واحدة لا تكفيه. وقد جعل الإسلام علاجاً لهذه القضية، بأن أحلّ للرجل أربعاً من النساء، يجمع بينهن. ولكن، يكُون لدى الزاني، أحياناً، عقدة الميل إلى المرأة التي تكُون في عِصمة رَجل آخر، وتلك عقدة قد تكُون من بقايا الطفولة، حين كان يتطلّع إلى أمّه ( التي هي النموذج الأول للمرأة في حياته )، وهي في عِصمة أبيه. ومن ثَمّ، فإن الإغراء، الذي يحسه تجاه المتزوجة يكُون لديه أقوى من الذي يحسه تجاه غيرها، لأن العَلاقة بها، تمثل انتصاراً على رجولة رَجل آخر، وهو ما كان يشعر بافتقاده عندما كان صغيراً، يقارن نفسه برجولة أبيه، فكان يُحْبِطه أنه ليس كفؤاً لمنافسة هذا الأب القوي. لذا، فإن عَلاقة الزنا بالمتزوجات بشكل خاص، هي إشباع وتعويض لهذا النقص، وتأكيد للرجولة المشكوك فيها، مقارنة برَجل آخر، وبحثاً عن انتصار على رَجل آخر، تعويضاً عن الانهزام السابق في الطفولة.
وبافتراض وجود المجتمع، الذي يبيح الزنا، ويُعْلِي قِيمة اللّذة الوقتية على قيمة الأُسرة، فلا شك أن روابطه سوف تتفكك، ولن يعرف الأبناء آباءهم، والعكس صحيح أيضاً. الأمر الذي يترتب عليه عدم شعور الآباء بالمسؤولية تجاه هؤلاء الأبناء أو رعايتهم والعمل على رفاهيتهم، فما الذي يَدفع الرَّجل إلى الارتباط بعمل، إذا لم يشعر بمسؤولية وأهمية وجوده واستمراره من خلال أُسرة أو أبناء يرعاهم!
والزنا، إضافة إلى ما يُحْدِثه من خَلَل في عَلاقة الأفراد بعضهم ببعض، ينشر الأمراض السارية، مثل الزهري والسيلان والإيدز، فيؤثر، سلباً، في الصحة الجسدية، كما يؤثر، سلباً، في الصحة النفسية. لذا، كان تحريمه ووضْع الحدّ لِمَن يخالف هذا التشريع، حتى يتجه الأفراد إلى إقامة عَلاقة مشروعة يرضى عنها الخالق ثم المجتمع، تثمر الأبناء، الذين يَجدُون من يرعاهم، ويوفر لهم الأمان، من خلال جوّ الأُسرة، التي تربّي قيماً، في أبنائها، وتُعِدّهم، من ثَمّ، للسعي مسلحين بقِيَم ومُثلٍ في حياتهم. وهكذا، تنتقل أمانة المسؤولية بين الأجيال في المجتمع الإسلامي من خلال القدوة والإعداد الملائمين للأجيال التالية.
إن الإسلام بوضع حدّ للزانية والزاني، وإباحة الطلاق، وتشريع تَعدُّد الزوجات، لم يترك ثَغرة، تُبيح للإنسان اقتِراف هذا الإثم، فقد أقفل أمامه كل ما يمكِن أن يتعلّل به، تحقيقاً لراحة الإنسان النفسية، فلا يتهدَّد عرضه من رَجل آخر، ولا يُهدِّد هو عِرض رَجل آخر، ليتفرغ أفراد المجتمع لأداء أدوارهم بالمَوَدَّة والرحمة، داخل الأُسرة لرعاية أطفالها، وخارجها بإجادة أعمالهم، وبناء حضارة راقية. ولا عَجَب أن الحضارات تقُوم عندما تُرشّد الغريزة بالطُّرق المشروعة، ويتمّ التسامي، إعلاءً للقِيم، وعملاً من أَجْل المستقبل.
الشُّــذوذ
وهو الخروج عن الفطرة السَّوِيَّة، وهو عمل كان يفعله قوم لوط، من إتيان الرَّجل للرَّجل. ولكنه لا يقتصر على *** الرجال فقط، فالنساء أيضاً قد يأتين النساء، في ما يسمى بالمساحقة. ولذا، كانت تسمية ( الجنسية المِثْلِيَّة ) أو ( الجَنُوسِيَّة ) أكثر دِقَّة، لأنها تشمَل وصفاً لما يقع بين أفراد كل من الجنسين ( الرجال والنساء ) من شذوذ. وفي الجنوسية الكاملة بين الرجال، تنتقل إلى الفاعل الإيجابي، من طريق الميكروبات والفيروسات والفِطريات، أمراض عدة، أخطرها، حتى الآن، مرض الإيدز ( مرض نَقْص المناعة المُكْتَسَب )، الذي ينتقل بين الجنوسيين بصفة خاصة. وهناك تأثيرات نفسية للأفعال الجنوسية، تعتمد على الموقف النفسي للجنوسيّ من الفعل، إذْ إن بعض الجنوسيين قد يفعلون ذلك بدافع نفسي لاشعوري، ثم يلوم الشخص نفسه على الفعل بعد انتهائه، ويندم، ويعاقب نفسه على ذلك، ويَصِل عِقاب النفس، أحياناً، إلى محاولات الانتحار، وأحياناً الانتحار فعلاً. وهذا النوع من الجنوسيين هم غير المتوافقين مع الجنوسية، إذْ يرغب كل منهم أن يكُون طبيعياً في ميوله، ولكن تَغْلِبه ميوله المِثلية ( أي تجاه أفراد جنسه )، ويسبب له ذلك معاناة نفسية فيشعر أنه ليس كبقية أفراد جنسه، ويشعر بأنه شاذّ، ويُكثِر من لوم نفسه، وينعزل ويَكتَئِب، ويفشل في إقامة عَلاقة مشروعة، من خلال الزواج، على الرغم من أن لديه رغبة في الزواج وإنجاب أبناء وتكوين أُسرة.
وهناك أمثلة عديدة لشباب عانوا هذا الاضطراب، ومَثُلوا للعلاج النفسي. ويذكر أحد أساتذة علم النفس، مِثالين، من هذا الاضطراب:
شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، ومن أُسرة محافظة ومتديِّنة، وحاصل على مُؤَهّل جامعي، ويعمل في وظيفة مناسبة، تُلِحّ عليه أُسرته أن يرتبط بفتاة في خطوبة تمهيداً للزواج، وهو يرفض كل فتاة تُعرَض عليه، باختلاق عيب فيها، أو يتعلّل بعدم الارتياح إليها. وإزاء كَثْرَة إلحاح أُسرته عليه، حضر للعلاج النفسي، سِرّاً، من دون عِلم أُسرته، فأَفْضَى بسِرّه إلى الطبيب النفسي، وهو أنه لا يميل إلى *** النساء، ويفضّل عليهن الرجال، ولكنه يعلم أن هذا الميل حرام، وغير مقبول، أخلاقياً واجتماعياً، فكان يكتم ميوله هذه وكان صراعه داخلياً ومعاناته ذاتية، ولا يقدر على الارتباط بأيّ من الفتيات، اللائِي عُرِضْنَ عليه. وهو وإن لم يرتكب عملاً جنوسياً بعد البلوغ، ولكن كان له خبرات جنسية مِثلية في الطفولة مع رفاقه من الصِّبْيَة، وعندما وصل البلوغ، عرف أن الجنوسية حرام، وأنها من فعل قوم لوط، الذين خُسِفَت بهم قريتهم من جرّاء تلك الفَعْلَة، فلم يَقْرَبها على الرغم من ميله إليها. ونظراً إلى قوة بناء جهاز القِيم لديه، ورغبته في العلاج، كان علاجه النفسي ميسوراً، وشُفِي، وتزوج فعلاً، وكوّن أُسرة.
شاب في السابعة والعشرين من عمره، يحمل مُؤَهّلاً متوسطاً، ويعمل موظفاً في إحدى المصالح الحكومية، يقف على محطات الحافلات، ينظر إلى الرجال بصفة خاصة، حتى إذا وجد من لديه ميول مشابهه، ظَلاّ يتبادلان النظرات، ثم يتبع أحدهما الآخر إلى مكان يناسب الجنوسية الكاملة، التي يمارسها، حتى إذا ما انتهي من فَعْلَته، لا ينظر إلى وَجْه رفيقه، ويمضي مسرعاً، شاعراً بالخجل والمهانة والذلة. وعلى الرغم من ذلك، يعود مرة أخرى، ليكرّر فَعْلَته بعد فترة من الزمن. وبعد عدة أشهر، بدأ يَضِيق بهذا السلوك الجنوسي الرخيص، خاصة عندما بدا له أن زميلة في العمل، تميل إليه، وترغب في الاقتران به، وهو لا يجِد في نفسه ميلاً تجاه النساء. وعلى الرغم من أنه حضر للعلاج، إلا أن اللقاءات الشاذّة، كانت تُضعِف من إرادته واستمراره في العلاج. لأن الزواج يتطلّب منه عملاً موجباً، لا يقدِر عليه، ولا يشعر بميل إلى أدائه.
ولعلّنا نتساءل: ما الذي يَحدُث في البناء النفسي للشخص، ويجعله جنوسياً بهذا الشكل؟
إن الإنسان يمرّ، في نموّه النفسي، بمرحلة حُبّ الذات والانشغال بها وبحاجاتها، بعيداً عن العالَم، وهو ما يطلق عليه النرجسية الأولية. ثم ينمو إلى مرحلة أخرى، وهي حُبّ المَثيل أو الشبيه، وهي مرحلة الانتماء إلى الجماعات من ***** نفسه، في المرحلة الابتدائية. فيلعب الصبيّ مع الصبيان وتلعب البنت مع البنات. وقد يمارس الشذوذ في هذه المرحلة، وقد يجلب لذّة للطفل، وقد يعتادها الطفل في غياب التوجيه من الأهل. ويزيد الأمر سوءاً أن يكُون من يمارس الشذوذ مع الطفل شخصاً بالغاً، فيُوصِل إلى الطفل رسالة مفادها أن هذا الشذوذ أمر مرغوب فيه من الأشخاص البالغين، ولكنه يتمّ سِرّاً. ويحاول أن يظهر للطفل حُبّاً واهتماماً هو في حاجة إليهما، فيرتبط فعل الجنسية المِثلية بالحصول على الحُبّ والاهتمام. وبتكرار ذلك، يَثْبُت في نفس الطفل هذا الارتباط، ويصبح جزءاً من تكوينه النفسي، ويتوقف النمو النفسي للحُبّ لدى الطفل عند هذه المرحلة، والذي كان يجب أن ينتقل إلى المرحلة الثالثة، وهي حُبّ ***** الآخر ( المغاير )، الذي يبزغ مع بداية البلوغ، تحت تأثير الهرمونات الجنسية. ولكن التوقف عند المرحلة السابقة، كما هو واضح، يُثبّت مشاعر الغريزة تجاه ***** عينه، ويظل الفيصل بعد ذلك جهاز القِيم لديه، هل يتوافق مع طريقة الإشباع هذه للغريزة ؟ أو أنه لا يقبَل بذلك؟
وإذا كان جهاز القِيم لدى الشخص لا يقبَل بذلك، فهذا هو النوع غير المتّسق مع الذات، إذْ يرفض الشخص شذوذه، وهو ما تَحدَّثنا عنه في السطور السابقة. أمّا إذا كان جهاز القِيم لدى الشخص قابلاً لهذه الطريقة الشاذّة لإشباع الغريزة، فهذه هي الجنوسية المتّسقة مع الذات. والمُصابون بها ليس لديهم مشكلة مع أنفسهم، ولكن مشكلاتهم مع المجتمع، الذي يَصِمهم بالشذوذ، ويرفضهم. وقد تكوّنت لهم جماعات في بعض دول العالَم، بل أصبحوا يمارسون ضغوطاً انتخابية لِكَسْب التأييد من السلطة المرشَّحة، بل أصبح لضغطهم صدًى إلى درجة أن شذوذهم ( الذي من هذا النوع ) تم حَذْفه من نطاق الانحرافات الجنسية النفسية في بعض التصنيفات للأمراض النفسية، كخطـوة للاعتراف بأن ممارستهم الجنوسية طبيعيـة، وليست شـاذة. وهـذا النوع من الجنوسيين لا يَشْكُون ولا يطلبون العلاج، إلا إذا اصطدموا بتشريعات المجتمع.
إن إقامة الحدود في كل حالات الزنا أو الشذوذ، تساعد الفرد على تجنّب تلك الجرائم، وتُعِينه على أن يسيطر على الغريزة الجنسية، التي تُعَدّ من أقوى الغرائز، وذلك لأن الإنسان يُمكِنه أن يزين لنفسه طريق الفضيلة، كما يُمكِنه أن يزين لها طريق الرذيلة، وذلك من طريق تفكيره الهادف، الذي يتجه به إلى ما يشاء. فتفكير الإنسان السَّويّ يخضع لإرادته، ويُمكِنه أن يوجهه إلى تخيّل الحلال ومعايشته بدلاً من الحرام، خاصة إذا حافظ على المدخلات الحسية إلى عقله، من طريق السمع والبصر وباقي الحواس الخمس، بعيدة عما يؤدّي إلى المحرّمات. وإذا أَمكَن أن يتجنب الفرد ما يَضُرّ بصحته النفسية، ففي ذلك حفاظ أيضاً على وحدة بناء المجتمع، وهي الأُسرة، وسوف ينعكس هذا، بلا شك، على المجتمع ككل. ويأمن المسلمون على أعراضهم، ويَسْمُون بالغريزة، فتتجه طاقاتهم إلى بناء الحضارة المرجوّة لأُمّة هي "خير أُمّة أخرجت للناس

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:08 PM
4. حدّ شُرب الخمر

ويُقصد بالخمر الموادّ الكحولية ذات التأثير في العقل، وهي تُخامر العقل إلى درجة تذهب به، إذْ إنها تؤثر في الوعي وتُثَبّطه. وهي إن كانت بجرعاتها القليلة تُثَبّط مراكز الكَبْت ( التحكّم والسيطرة ) لدى بعض الناس، فتُطلِق عِقالهم بعض الشيء، أي تعطي شعوراً مبدئياً بالنشاط، إلا أن تثبيط مراكز التحكّم والسيطرة هذا، يؤدّي إلى سوء تقدير الأمور، وضَعف الضبط الداخلي، والاندفاع إمّا في سلوكيات طائشة، أو الإفراط في التعاطي والوصول إلى حدّ أعلى من الثمالة. وليس مقياساً في ذلك مَن اعتادوا شرب الخمور بكميات قليلة، وبشكل منتظِم، في المجتمعات الغربية، أو من يُحَاكونهم في المجتمعات الشرقية، لأن هؤلاء أصبح لديهم إطاقة لجَرعات متزايدة من الخمور، حين تعوّدت مراكز الدماغ لديهم الكحول فأصبحت الجَرعة لا تعطي التأثير المطلوب، وبات الشخص محتاجاً إلى زيادتها ليصل إلى التأثير نفسه. وهذه الإطاقة تجعل الفرد يتدرج في زيادة الجرعة، من دون أن يدري، فيَصل إلى الإدمان.
وللكحول بصفة خاصة تأثيرات في الإنسان، يُورِدها الدليل التشخيصي الإحصائي الأمريكي الرابع للأمراض النفسية (Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders) (DSM-IV) كما وردت في كتاب "النفس أسرارها وأمراضها" للدكتور محمود حمودة، في الصورة التالية:
الاعتماد على الكحول، فسيولوجياً ونفسياً، والإسراف في تعاطيه، بزيادة الجَرعة الناتجة من الإطاقة لجَرعات متزايدة منه.
الانسمام بالكحول: ويتميز بالسلوك غير المُتكيّف، الناتج من تعاطي الكحول، في صورة العدوان واضطراب الحُكم على الأمور، وعدم الانضباط الاجتماعي والوظيفي، مع احمرار الوجه، وترنّح المِشْيَة، ورَأْرَأَة العينين، والثرثرة غير واضحة المقاطع، وسرعة الاستثارة، والتقلب الانفعالي.
الاضطراب الانسحابي للكحول: ويتميّز برَعشة اليدين واللسان، وجُحوظ العينين، والغَثَيَان والقيء والضَّعف الجسماني، مع زيادة ضربات القلب، والعَرَق، وارتفاع ضغط الدم، والقلق، واضطراب النوم مع الكوابيس، وهي أعراض ناتجة من وقف تعاطي الكحول، بعد فترة تم خلالها الاعتماد الفسيولوجي عليه.
هذيان الانسمام بالكحول: يَحدُث الانسمام الكحولي، السابق وصفه، مسبباً الهَذيان، وهو اضطراب الوَعْي، الذي يترتّب عليه خَلل الانتباه وعدم القدرة على التركيز، وعدم اتّساق التفكير وعدم ترابطه، مع هلوسات بَصَرية، واعتقاد بواقعيتها، فيستجيب المريض، انفعالياً وسلوكياً، لتلك الهلوسات. مثل من يَحتَسي الكحول، وعند درجة معيّنة، يرى قِطة، هي غير موجودة أصلاً ( هلوسة )، ثم يبدأ في مطاردتها، لاعتقاده بواقعيتها. وقد تكُون الهلوسة في صورة قِطة، وربما تكُون طَبقاً طائراً، أو عفاريت أو مخلوقات من الفضاء البعيد، غريبة الهيئة. ويُقْسِم الشخص على صحة ما يرى وما يروي.
الهذيان الناتج من انسحاب الكحول: ويكُون الهذيان السابق وصفه بسبب وقف تعاطي الكحول أيضاً. وضحاياه يَرَون الأطباق الطائرة والعفاريت والكائنات الفضائية، ويُقْسِمون أنهم لم يتناولوا كحولاً في هذا اليوم أو اليوم الذي قبْله، وهم صادقون في ما يَرَونه من خلال الهلوسة والاقتناع بأنه حقيقة.
خَرَف الكحول الثابت (الدائم) : وهو نَقْص القُدرات الذكائية، التي تؤثّر في أداء الشخص، الوظيفي والاجتماعي، مع خَلل الذاكرة، واضطراب الحُكم على الأمور، وخَلل التفكير، وتغيّر الشخصية في اتجاه التفكك والتدهور. وذلك بسبب تعاطي الكحول لفترة طويلة، وبكميات كبيرة. ويظل هذا الخَرَف ثابتاً، حتى بعد التوقف عن التعاطي.
نساوة الكحول الدائمة: وفيها يَفقِد المريض القدرة على تذكّر الأحداث، خاصة الأحداث القريبة، أي التي حدَثت منذ فترة قصيرة، وهذا راجع إلى نَقْص الفيتامين، المُصاحِب لتعاطي الكحول لفترة طويلة من الزمن. وتصاحِبه اضطرابات عصبية، في صورة التهاب الأعصاب الطرَفية، ونَقْص الإحساس أو الحركة المنقولة بتلك الأعصاب، مع الرَّنْح، الذي يتميز بترنُّح المِشية، وعدم القدرة على حفظ التوازن أثناء الحركة، وبالعجز عن ضبطها بدِقّة، مع الرعشة الشديدة أثناءها، إلى درجة أن المريض لا يستطيع وضْع طرف إصبعه، مثلاً، على طرف أنْفه، وإذا أغمض عينيه، سقط على الأرض، لِفَقْد قدْرته على الاتزان.
اضطراب ذهاني، ناتج من الكحول، ومُصاحَب بضلالات: إذْ يختلّ أداء الشخص العقلي، فيضطرب إدراكه وفَهْمه للواقع، ويضطرب تفكيره وإدراكه للعالَم من حولِه. ويترتب على ذلك سوء تصرفاته أو غرابتها وشذوذها، وهو ما يُعرف بين عامة الناس بالمرض العقلي. وأمّا الضلالات المُصاحِبة، فهي الأفكار، التي يقتنع المريض بصحّتها، على الرغم من أنها زائفة. ويكُون الاقتناع إلى درجة لا يَرْقَى إليها الشك. وهذه الأفكار لا تتناسب مع ثقافة الشخص وبيئته، مثل المريض الذي يعتقد أنه رسول من عند الله، وأنه يحمِل رسالة من خلال وَحْي إِلهي يتنزّل عليه. ولا يستطيع أيّ شخص إقناعه بزَيف تلك الفكرة.
اضطراب ذهاني، ناتج من الكحول ومُصاحَب بهلوسات: وفيه الخلَل السابق عينه، ولكن تسيطر الهلوسات على الاضطراب، وهي الإدراك من دون مُثير، أي إدراك أشياءَ غير موجودة أصلاً، مثل سماع صوت يناديه أو يسبّه. وهذه الهلوسات، تتشكل حسب مدخل الإدراك القادمة منه، قد تكون سمعية أو بَصَرية أو شمّية أو لمسية أو تذوّقِية.
اضطراب الوجدان، الناتج من الكحول: ومظاهره أن يضطرب الوجدان بالهوس أو الاكتئاب، أو كِلَيهما بتأثير تعاطي الكحول.
اضطراب قلق، ناتج من الكحول.
اضطراب الوظيفة الجنسية، الناتج من الكحول: وذلك في صورة ضَعف الرغبة الجنسية أو فقْدها تماماً. ويظهر ذلك لدى الرَّجل في ما يُعرف باسم العُنَّة. ويظهر لدى المرأة في البرود ******.
اضطراب النوم، الناتج من الكحول: ومَظاهِره أن يضطرب النوم، إمّا بالأَرَق ونَقْص النوم، أو زيادة النوم، أو اختلال إيقاع النوم واليقظة، أو الإصابة بالكوابيس والمُخِلاّت بالنوم الأخرى.
وإذا كانت الخمر تُحدِث كل تلك الاضطرابات، وتُخِلّ بأداء عقل الإنسان، تلك الهبة الإلهية، التي فضّل الله بها الإنسان على سائر الكائنات، فإن تحريمها يعني حماية الفرد من أضرارها السابقة. ولكن هذا الفرد يعيش في أُسرة، وتنعكس كل تلك الاضطرابات على عَلاقته بالأُسرة، وتُخِلّ بتعامله معها، حيث يكُون العنف الزوجي وإيذاء الأبناء، وفقْد العمل. وتنعكس على الجيران والأقارب من خلال سوء السلوك، الناتج من سوء الفَهْم وسوء التقدير للأمور. وقد يسرق الشخص لشراء الخمر، وقد يَقتل الآخرين للسرقة، أو يعاني اضطراب الإدراك الذي تسببه الخمر. هكذا، كانت الخمر ضرراً بالمجتمع، كما هي ضرر بالفرد وبالأُسرة. ومن ثَمّ، كان التحريم حماية، والحدّ الذي يُطبَّق على شاربها هو زَجْر له ووقاية لغيره من الوقوع في براثنها. والتهاون في تطبيق حدّ شرب الخمر، يُعَدّ السبب في انتشار ظاهرة الإدمان في بعض المجتمعات الإسلامية، إذْ إن إباحة الخمر في بعض البلاد الإسلامية، وتحريم الموادّ المُخدِّرة الأخرى، كالأفيونات ومشتقاتها، والأمفيتامينات ومشتقاتها والمهدئات والحشيش، التي حُرِّمت إسلامياً قياساً على الخمر، يوقِعان الشباب في دائرة من التناقض، إذْ كيف تباع الخمر، المُحرَّمة شرْعاً، ويتمّ تداولها علناً، بينما الحَظْر كل الحَظْر على الحشيش، الذي هو أدنى منها ضرراً بصحة الفرد العقلية والجسدية! هذا التناقض ربما يعكس سيطرة الغرب المتقدِّم على قوانين الشرق الإسلامي، ولكنه على أي الأحوال، يُربِك الشباب، ويُشكِّكهم في مصداقية المجتمع، الذي يعيشون فيه، فيتمردون عليه، إمّا بالإدمان أو بالتطرف الدِّيني، فَهُما وجهان لعملة واحدة، هي التمرد. لذلك، فإن إقامة حدّ شرب الخمر، ينعكس أثره النفسي في الفرد، من خلال الحفاظ على عقله وصحته، وفي الأُسرة بالحفاظ على صحة أفرادها والعَلاقات داخلها، والحفاظ على مستواها الاقتصادي، وصورتها بين الأُسَر. والحفاظ على سلامة الفرد والأُسرة، يحقق مجتمعاً، يجد طاقة لدى أبنائه بسواعدهم القوية وعقولهم السليمة، يبني بها مجداً ومستقبلاً لأجياله المقبلة.
وحدّ شارب الخمر أربعون أو ثمانون جلدة، فعن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قَالَ: ]جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ[ (سنن ابن ماجه، ومسند أحمد). ولم يَرِد، في القرآن الكريم، نصٌّ صريح على جَلْد شارب الخمر، بل ورد نص على حرْمتها والامتناع عن شرْبها. لذلك، قال العلماء إن جَلْد شارب الخمر ليس حدّاً في حقه، إنما هو تعزير له

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:09 PM
5. حدّ الإفساد في الأرض

الإفساد في الأرض هو الذي يُطلَق عليه: الحَرابة، أو قَطْع الطريق وتَرْويع الناس، بإحداث الفوضى وقَتْل الناس أو إيذائهم جسدياً، أو اغتصاب أموالهم أو أعراضهم، أو تدمير الممتلكات عَمْداً. والمفسدون هم من حدّدهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ في قوله: ] إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (المائدة: 33). ويُدخِل "السيد سابق"، في مفهوم الحَرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الأطفال، وعصابة لصوص السَّطْو على البيوت والمصارف، وعصابة خطف العذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الأمن، وعصابة إتلاف الزرع وقَتْل المواشي والدواب وكلمة الحَرابة مأخوذة من الحرب، لأن هذه الطائفة الخارجة على النظام تُعَدّ مُحارِبة للجماعات من جانب، ومُحارِبة للتعاليم الإسلامية، التي جاءت لتحقق أَمْن الجماعة وسلامتها، بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر.
وفي هذا النوع من الجرائم ما يهدِّد أَمْن الفرد والأُسرة والمجتمع، ويسلب الأفراد الشعور بالأمان، فيُصابون بالقلق والتوتر، ثم ينتابهم الإحباط والشعور باليأس، والقنوط من المستقبل، مع فَقْد الثقة بالنفس وبالآخرين، ويتوقف الأفراد عن الإنجاز والبناء، فيُصاب المجتمع بالشلل والعجز. والعلاج لا يكُون إلاّ بإزالة السبب، وتحقيق الأمان.
وهذا مثال لما يمكِن أن يُحدِثه هذا النوع من الجريمة على نفسية الفرد. كانت السيدة، التي تبلغ من العمر ثلاثين عاماً، عائدة من زيارة والدتها، التي تقِيم معها في المدينة عينها. فوقفت تنتظر الحافِلة، التي تركبها في كل مرة، وهي "الميكروباص"، لِتُقِلّها إلى بيتها. فتوقف أمامها ميكروباص، فيه رجلان وسيدتان، فركبت معهم، بعد أن تأكدت أن مَساره يمر بطريق بيتها. وبعدما ركبت، دار الحديث بينها وبين السيدة، التي تجلس إلى جوارها. ثم أعطتها الأخرى كوباً من العصير. وما أن شربته حتى غابت عن وَعْيها، وأفاقت لِتَجِد نفسها تنزل من " الميكروباص " في مكان بعيد. وشعرت بأن يداً عَبَثَت بجسدها وانتهكته، وسُرِق ما معها من حُلِيّ ونقود، بل انتُهك عِرضها، فتماسكت حتى عادت إلى بيت أمها ثانية، وهناك أصابها الانهيار، العصبي والنفسي، فلم تحتمل أن يَحدُث لها مثل هذا الاغتصاب، ونُقلت إلى المستشفي في حالة سيئة. وكانت عندما تفيق، ينتابها الغَثيان والقَيء، حتى تفقِد وَعْيها من جديد. وظلت على هذا الحال يومين في المستشفي، تحت العلاج بالمُهدِّئات. وبعد أن خرجت من المستشفي، كانت تعانى الشعور بفَقْد الثقة بكل شيء حولَها، مُحبَطة وخائفة ويائسة. وكانت ترعبها أيضاً فكرة أن تصير حاملاً، من جرّاء هذا الاغتصاب، خاصة أنها متزوجة من ستة أعوام، ولم تُنجِب بسبب ضَعف الحيوانات المنوية لدى زوجها. فلم تهدأ، على الرغم من جلسات العلاج النفسي، إلاّ بعد أن أتاها الحَيض. ولكنها ظلت، بعد ذلك، لفترة، تعاني حلماً يتكرر فيه الحادث، مع إعادة معايشة لِمَا حَدَث، فيصيبها الهَلَع من جديد، إلى أن اكتمل علاجها النفسي. لذا، يُلاحظ أن أثر تلك الجريمة في الفرد، الذي تعرّض لها، أمرٌ خطير، وكذلك مَن يسمع بها يشعر بعدم الأمان، والسبب يعود إلى وجود مثل هؤلاء المُفسِدين في الأرض. ولكن حين يعرف أمثال هؤلاء أن الشرع سوف يُطبَّق عليهم، وأن القتل أو الصلب، أو قطْع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النَّفْي من الأرض، سوف يكُون جزاءهم، لن يقربوا مثل تلك الجرائم. وبذلك، نَقِي الفرد والمجتمع شرورهم، فيطمئن الفرد، ويأمن على نفسه وماله وعِرضه، فيتفرّغ للإنجاز والعمل، من أَجْل رفاهية نفسه ورَفَاه الآخرين

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:09 PM
6. حدّ الرِّدَّة

حدّ الرِّدَّة، قَتْل المُرتدّ[1]، وهو حدٌ حاسمٌ يهدف إلى إغلاق الباب أمام إعادة التفكير في أمر العقيدة، خاصة إذا كان الشخص مسلماً. إن الإسلام، كرسالة خاتمة، يهدف إلى استقرار الإنسان وتَفرّغه للعمل والعبادة، وصولاً بالمجتمع إلى أعلى درجات الرُّقيّ. ويهزّ هذا الاستقرار فكرة فتح باب التفكير في الاختيار بين الإسلام والكفر، بل قد يأخذ الفرد من ذلك ذَرِيعَة لعدم الالتزام بقواعد الإسلام وحدوده، فيكفر حين يشاء، ويُسْلم حين يشاء، فيصبح غير ملتزم بوضع عقائدي ثابت، يحاسَب على أساسه. إضافة إلى أن الإسلام، كدين، يُعَدّ نمُوّاً في تاريخ البشرية والأديان، بينما العودة إلى أيٍّ من الأديان السابقة، بعد اعتناق الإسلام، يُعَدّ نُكُوصاً إلى مرحلة سالفة من نُمُوّ البشرية. وكما نعالج مريض الفِصام وغيره من المَرضى، الذين يَنكُصُون إلى سلوكيات مبكرة من سلوكيات مراحل النمو، ونَعُدّ هذا أمراً غير مقبول، فإن النكُوص إلى أديان سابقة، بعد اعتناق الإسلام، يُعَدّ أيضاً أمراً غير مقبول. ولهذا، كان الردع بحدّ القتل أمراً يهدف إلى دعم استقرار الفرد نفسياً، فلا يتذبذب في عقيدته الإسلامية، التي يلتزم بها أمام مجتمعه، كما يهدف إلى استقرار المجتمع، تَبعاً لاستقرار أفراده.


[1] يقول رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلاّ بِإِحْدَى ثلاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. متفق عليه

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:09 PM
7. حدّ البَغْي
وهو قتال الطائفة الباغية، كما جاء في القرآن الكريم: ]وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ (الحجرات: 9).
وتُمثّل هذه الجريمة التهديد الخارجي لأمن الجماعة الإسلامية واستقرارها، حين تَبغي عليها جماعة أخرى، تعتنق الإسلام مثلها. وخير مثال على ذلك، ما وقع من بَغي العراق على دولة الكويت، فهزّ أمنها واستقرارها، وروّع أفرادها، فأصاب الكثيرين منهم مرض نفسي، في صورة قلق واكتئاب، ولا يزال الكثيرون منهم، حتى الآن، يُعانون الانعصاب التابع للحادث، من جرّاء هذا البَغي والعدوان.
لذلك، كان حدّ قتال البُغاة ورَدْعهم، إلى أن يَثُوبوا إلى رُشدهم ويتوقفوا عن بَغْيهم وظُلمهم للطائفة الأخرى، هو من أَجْل أَمْن الجماعات على أفرادها ومُنجَزاتها ومستقبلها. إن الحروب تكلّف الشعوب الكثير من أَمْنها، وتدمّر إنجازاتها، وتوقف تَقدُّمها، وتترك آثاراً نفسية سيئة، تَظَل لسنوات عديدة لدى أفرادها. لذلك، كان هذا الحدّ حماية لصحة الجماعات النفسية، ولتتفرّغ الشعوب الإسلامية للبناء من أَجْل الإنسانية، ولا تنشغل بالحروب فيما بينها.

هيثم الفقى
09-27-2010, 11:10 PM
8. حدّ القَذْف (القَذْف هو الاتهام بغير بَيّنة أو دليل، سواء أكان المُتَّهم ذكراً أم أنثى)

وحدُّه جَلْد القاذف ثمانين جَلْدة، وعدم قبول شهادته بعد ذلك، والحكم بفِسْقه. ولكنه يكُون أشد ضرراً في حق المرأة، إذْ قال ـ سبحانه تعالى ـ في كتابه الكريم: ] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ (النور: 4). ويهدف هذا الحدّ إلى صَوْن أفراد المجتمع، ووِقايتهم من الإساءة إليهم بالقول، وقذْفهم بما ليس فِيهم من سِمات سيئة، أو نسبة أفعال فاضحة إليهم. وعدم تنفيذ هذا الحدّ يعطي الفرصة لضِعاف النفوس، ومَن تسوِّل لهم أنفسهم قذْف الآخرين بالتُّهم، الأمر الذي يترتب عليه عدم أَمْن الفرد على سمعته، مما يصيبه بالتوتر وتوقّع المَكاره. وقد يدفعه هذا إلى الرد بالمِثل على مَن قذَفه، فتكُون حرب تقاذفية بين أفراد المجتمع، لا يأمن، من جرّائها، أحد على سُمعته.
إن لكل شخص صورة عن نفسه، يكوّنها من خلال رحلة نموّه النفسي، ويعتز بتلك الصورة. فإذا قذَفه أحد بما ليس فيه، فإن هذا الافتراء يؤلمه نفسياً، ويجعله عدوانياً. فإذا أخذت الشريعة له حقه، فإن هذا يطيّب خاطِره، ويُرِيحه، ويجعله آمناً على صورته لدى نفسه ولدى الآخرين. ولكن إذا تُرِكَ يتألم، دون أن يُؤخذ له حقه، فإن عدوانه سوف يتوجه إلى مَن قذَفه، وسوف يتوقف عن إنجازاته، ويتجه إلى تدبير المَكائد للنَّيل ممّن قذَفه. وإذا ساد هذا الحال مجتمعاً من المجتمعات، فإن جُلّ اهتمام أبنائه سوف يتوجه إلى نَيل بعضهم من بعض، دون وحدة هدف تجمَعهم. كما أن القذف سوف يؤثّر في ثِقة كل منهم بالآخر، فيبدأون في التشكك وعدم الثقة بالتعامل فيما بينهم، فتتقطع الصِّلات، ويصل الأمر إلى طلاق الزوجات، وشكِّ الابن في الانتساب إلى أبيه، وشكِّ الأب في نسب الابن إليه. وهكذا، تُفْقَد المَوَدَّة والرحمة بين أفراد الأُسرة الواحدة، وتتمزق الأُسرة من جرّاء تهمة، قَذَفَ بها شخص مضادّ للمجتمع، قرر أن يقتل الآخرين بلسانه، وظن أنه سيفلت بفَعْلته. ولكن الشرع كان واعياً له، ومعالجاً لشروره، فحين يتمّ جَلده على المَلأ، ويعرف الناس كذبه وافتراءه، ولا تُقبَل له شهادة في القضاء أو في أيّ أمر من الأمور، ويُعرف عنه أنه فاسق، فإن خطره سوف يَنحسِر، فلن يستطيع النَّيل من الآخرين، وهذا حاله. كما أنه إذا كرّر القذف، تكرّرت العقوبة. كما يكُون في إقامة الحدّ عليه رَدْع لكل مَن تسوِّل له نفسه الإساءة إلى سُمعة المسلمين أو النَّيل من أَعراضهم.
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تقتله كلمة، وكلمة القذف حين تصيب شخص المقذوف تؤلمه، وقد تسبّب له اكتِئَاباً نفسياً لا يَشفَى منه، وقد ينتهي الاكتئاب بالانتحار أو الفشل والضياع. وكم تكرَّرت حادثة تلك الفتاة الشريفة، العذراء، التي قذفها أشخاص بارتكاب جريمة الزنا، وهم كاذبون، ولكن لحساسيتها الشديدة وشدة انفعالها، لم تتمالك نفسها، واندفعت إلى تَناوُل مادة سامّة، وفقدت حياتها من جرّاء تهمة باطلة! وكم اندفع أب من البسطاء إلى قَتْل ابنته حين ردَّد بعض الناس، دون بَيِّنَة، أنها زانية! لذلك، كان حدّ القذف حِفاظاً على صورة الإنسان أمام نفسه وأمام الآخرين، فلا معنى لحياة الإنسان مع معاناة، تتناول صورته عن نفسه وتهزّها.
ولعل في قصة حديث الإفك، التي تحكي قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بنت الصديق - رضي الله عنه- وزوج الرسول - عليه الصلاة والسلام - دليلاً عملياً، ملموساً ومحسوساً، على أن لا أحد محصن ضد ألسنة السوء، ولو كان في طهر أم المؤمنين وعفّتها. ولِعِظَم هذه الجريمة، كانت براءة السيدة عائشة من فوق سبع سماوات، قرآناً يتلى إلى يوم الدين، في قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)[ (النور: 11-17).
وليكن في هذه القصة عبرة، لمَن تسوِّل له نفسه الخوض في الأعراض، وصبر واحتساب، لمن يُبتلى بهذا البلاء العظيم، فالعرض مداد عزة الإنسان وكرامته.


المصادر والمراجع
محمد شعلان، `الاضطرابات النفسية في الأطفال`، الجهاز المركزي للكتب الجامعية والمدرسية والوسائل التعليمية، القاهرة، ط1، 1977.
'السيد سابق، `فقه السنة`، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407هـ، ط 8، 1987م.
3. American Psychiatric Association ( 1980): Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, pub. by Am. Psych iat. Assoc., Washington D.C., 4th Ed.