المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليونان والمتأغرقون والمصريون في "ريف" مصر



هيثم الفقى
06-15-2010, 11:39 AM
أشرنا من قبل إلى أن الرومان اتخذوا من أداء ضريبة الرأس مقياسًا لتقسيم سكان مصر إلى طبقات وفئات، وأن هذا التقييم ـ على ما يظهر فيه من نزعة رومانية واضحة نحو التقنين ـ قد كان صادرًا عن سياسة رومانية عملية تمامًا . ذلك أن لارومان كانوا محتاجين احتياجًا ماديًا إلى تعاون العنصر اليوناني معهم، سواء أكان هذا العنصر من مواطني المدن اليونانية الثلاث أم من المقيمين في خارجها، فرأوا أن يميزوا اليونان عن سائر سكان مصر الذين كان يعبر عنهم على اختلاف جنسياتهم باسم عام هو المصريون Aegyptioi فأما مواطنوا المدن اليونانية فقد أسقطوا عنهم الضريبة المذكورة بأن أعفوهم منها إعفاء تامًا، على افتراض أنهم ظلوا يونانًا خالصين. وأما من دونهم من اليونان في الأقاليم، فلم يكن الرومان يستطيعون افتراض ذلك فيهم بعد أن ظلوا يخالطون العنصر المصري الوطني على مدى ثلاثة قرون دون أن يكون هناك قيد قانوني أو عرفي ما يحول دون هذا الاختلاط. لكن القانون الروماني ـ خدمة منه لأغراض رومانية عملية ـ كان يستطيع أن يفترض أن هناك عناصر بعينها من هؤلاء وهم سكان عواصم الأقاليم، أعنى سكان كبريات البلدان في "ريف" مصر، يمكن اعتبارها على قدر من "التأغرق" أي من تلقى التعليم اليوناني وتحصيل الثقافة اليونانية، بحيث تكون قادرة على النهوض بأعباء وظيفية إدارية. ومن هنا كان اتجاه الرومان إلى تقوية هذه العناصر بتمييزها تمييزًا اقتصاديًا هو منحها إعفاء جزئيًا من دفع ضريبة الرأس.

وهذه الفئات اليونانية أو المتأغرقة المتميزة هي التي ننظر الآن في أوضاعها وبعض أحوالها العامة، ثم ننظر بعد ذلك إلى وضع سائر المصريين الذين تدفعوا الضريبة كاملة غير منقوصة.

(1) فئة سكان عواصم الأقاليم Hoi metropolitai :

علمنا من الوثائق البردية بعض معدلات للتخفيض الذي تمتعت به هذه الفئة وإن لم نعلم دائمًا نسبته المئوية من الضريبة الكاملة. ففي إقليم أوكسيرينخوس (البهنسا) كان المعدل المنخف هو 12 دراخمة ولذلك عرفت هذه الفئة هناك باسم سكان عاصمة الإقليم دافعي الاثنى عشرة دراخمة Metropolitai Dodekadrachmoi وفي هرموبوليس Hermopolis (الأشمونين) وهيراكليوبوليس Heracleopolis (اهتاسيا) كان المعدل المنحفض ثماني دراخمات وبالتالي عرفت الفئة هناك باسم دافعي الثماني دراخمات Metropolitai أما في إقليم أرسينوي (الفيوم) فكانت ضريبة الرأس الكاملة تزيد قليلاً عن أربعين دراخمة، أما المعدل المنخفض الذي كانت تدفعه الفئة الممتازة فكان عشرين دراخمة أي بمقدار النصف تقريبًا. ولعلنا نلاحظ ارتفاع مقدار ضريبة الرأس الكاملة في إقليم الفيوم ومن الأرجح أن يكون ذلك راجعًا إلى ارتفاع مستوى المعيشة في هذا الإقليم بالذات. غير أننا لا نعلم مقدار الضريبة الكاملة في بقية أقاليم مصر لكي نحدد نسبة الإعفاء الذي تمتعت به فئة مواطني عواصم الأقاليم وإن كانت هناك بعض الشواهد الخاصة بإقليم أكسيريتخوس تجعلنا نرجح أن الضريبة الكاملة ك انت 16 دراخمة أي أن نسبة الإعفاء هناك كانت أربع دراخمات فقط باعتبار أن المعدل المنخفض كان 12 دراخمة كما سبق أن ذكرنا.

وتشير الوثائق التي وصلت إلينا والخاصة بعملية فحص مستندات الأفراد الذين كانوا ليتقدمون لإدراج أسمائهم في فئة سكان عواصم الأقاليم Epikrisis تشير إلى أن امتياز هذه الفئة المالي كان متوارثًا، وأنه لم يكن من اليسير على أفراد من خارج هذه الفئة التسلل إلى صفوفها. لكن لا يبدو في هذه الوثائق ما يشير إلى أن هذه الفئة كانت تؤلف طبقة اجتماعية مغلقة كما كان الحال بالنسبة إلى الفئة الأخرى التي وحدت في داخلها وهي فئة الرجال من خريجي الجمنازيوم، والتي يرد ذكرؤها في الوثائق صراحة على أنها Tagma وهي كلمة يونانية مرادفة للكلمة اللاتينية Ordo بمعنى طبقة. ذلك أنه كان يمكن أن تمنح السلطات شخصًا ما لقب متروبوليتس Metropolotes (أي مواطن في عاصمة الأقاليم) تشريفًا له لقاء عمل من أعمال الخبر قام به أو فوز رياضي أحرزه وفي هذه الحالة لا يكون هناك شروط لمنحه هذا اللقب. ومن الأمور ذات الدلالة فيما يتعلق ببعد هذه الفئة عن أن تكون "طبقة" مغلقة ما نلاحظه من أن بعض أسماء أفرادها الواردة في الوثائق تبدو أسماء يونانية مصرية مختلفطة، مما يشير إلى أن بعض أفرادها كانوا يونانًا تمصروا أو مصريين تأغرقوا.

(2) خريجو الجمنازيوم:

وأما فئة خريجي الجمنازيوم Hoi Apo Gymnasiou فإن كثيرًا من القرائن في الوثائق تؤكد أن أفرادها كانوا يؤلفون طبقة Tagma اجتماعية مغلقة بكل ما في كلمة الطبقة من معنى مدد وأن النفاذ إلى داخل الدائرة المغلقة على هذه الطبقة كان أمرًا بالغ الصعوبة فنحن نحس مثلاً أن إجراء فحص مستندات الأفراد Epikrisis المتقدمين بطلبات من صاحب الطلب المقدم إبراز مستندات أدق من ناحية إثبات الوراثة وأكثر مما كان مطلوبًا من طالب القيد في قوائم مواطني عواصم الأقاليم. وقد كان الهدف العملي من وراء سياسة الرومان في خلق هذه الطبقة هو أن يحصلوا على رجال أكفاء قادرين بفضل تعليمهم اليوناني الذي سبق أن تلقوه في الجمنازيوم، على أن ينهضوا بأعباء الوظائف المحلية في عواصم الأقاليم بل أعباء مناصب أعلى في الإدارة الحكومية كوظيفة مدير الإقليم Strategos أو الكاتب الملكي Basilicogrammateus وليس من شكل في أن أفراد هذه الطبقة كانوا شديدي الإحساس بتميزهم الطبقي بين سكان العواصم. ولا يسع الدارس إلا أن يخرج بهذا الانطباع وهو يطالع الوثائق البردية الخاصة بعملية فحص طلبات المتقدمين لإدراك أسمائهم فيها. ففي بعض هذه الوثائق التي ترجع إلى القرن الثالث الميلادي نجد أسرًا يونانية قادرة على أن ترجع بأنسابها عبر سبعة أجيال سابقة وعلى مدى قرنين ونصف قرن تقريبًا إلى جدها الأول الذي توارثت عنه هذه الأجيال صفة الانتماء إلى هذه الطبقة، أي منذ الوقت الذي قام فيه أوغسطس باختيار أفراد هذه الطبقة اختيارًا وذلك في السنة الرابعة والثلاثين من حكمه كما تشير القرائن أي في عام 4-5 ميلادية. غير أن امتياز هذه الطبقة كان امتيازًا اجتماعيًا لأنهما كانوا يدفعون ضريبة الرأس بمعدلها المنخفض كسائر أفراد فئة مواطني عواصم الأقاليم ولم يكونوا يعفون تمامًا منهم.

(3) طبقة المستوطنين في إقليم الفيوم:

ونحن نملك معلومات عن وجود "طبقة" خريجي الجمنازيوم في داخل فئة مواطني العواصم في بعض أقاليم مصر، لكن ما يسترعى النظر هو عدم ورود ذكر هذه الطبقة في إقليم الفيوم بالرغم من كثرة ما وصلنا من وثائق هذا الأقاليم وتشير بعض الشواهد إلى أن الأرجح أن الطبقة التي كانت تقابلها من حيث الوضع الاجتماعي في هذا الإقليم كانت هي طبقة المستوطنين Hoi Katoikoi. ومن المعلوم أن هذه التسمية ترجع إلى العصر البطلمي لكن مدلول المصطلح اختلف اختلافًا أساسيًا في العصر الروماني. وينبغي أن نذكر أن مرجع ظهور هذه التسمية في اصطلاحات الوثائق في العصر البطلمي كان هو الرغبة في التفرقة بين أصحاب الاقطاعات الأصليين من المقدونيين واليونان الذين كانوا أقدم من منحهم البطالمة حق الانتفاع بالإقطاعات العسكرية، وبين أصحاب الإقطاعات الآخرين من دون المقدونيين واليونان، وقد كان من أسس نظام الخدمة في قوات البطالمة أن يمنح الجندي أقطاعًا عسكريًا Kleros في مقابل أن يلبي احتياجات الملك العسكرية كلما طلب منه ذلك في أي وقت. وقد حمل أصحاب الاقطاعات الآخرين من دون المقدونيين واليونان. وقد كان من أسس نظام الخدمة في وقات البطالمة أن يمنح الجندي إقطاعًا عسكريًا Kleros في مقابل أن يلبى احتياجات الملك العسكرية كلما طلب منه ذلك في أي وقت وقد حمل أصحاب مثل هذه الإقطاعات البطلمية في بداية الأمر اسم كليروخوي Klerouchoi، لكن عندما بدأ المصريون يحصلون على حق الانتفاع بمثل هذه الإقطاعات وذلك نتيجة لإشراكهم في الخدمة العسكرية في الفرق الأساسية بالجيش البطلمي خاصة بعد واقعة رفح في عام 217 ق.م أخذ اصطلاح ثان في الظهرو وهو اصطلاح كاتويكوي Katoikoi لكي يدل بالتحديد على أصحاب الاقطاعات القدامى من المقدونيين واليونان، ويفرق بين هؤلاء ومن سواهم من أصحاب الاقطاعيات الجدد، وهم الذي أصبح يطلق عليهم وحدهم الاسم القديم "كليروخوي".

وعندما احتل الرومان مصر وجدوا أراضي الاقطاعات العسكرية تؤلف قسمًا عامًا من الأراضي الزراعية. وكان من الممكن لأوغسطس أن يصادر كل هذه الأراضي ويضمها إلى قسم بعينه من الأراضي عرف باصطلاح الأراضي العامة Demosia ge ذلك أن كلا من الكانويكوي والكليروخوي قد فقدوا علة وجودهم كفئات متميزة، وبالتالي سقط أساس انتفاعهم باقطاعاتهم، لأن أساس الخدمة العسكرية البطلمي الذي كان يعتمد على استدعاء الجند للخدمة العسكرية عند الحاجة فقط قد انتهى بسقوط النظام البطلمي، وأصبح جيش الاحتلال الروماني في مصر جيشًا محترفًا تدفع الأجور لأفراده الذي يقيمون إقامة دائمة في مسعكرات أو حاميات. وبالرغم من أنه لم يعد هناك ما يسوغ تمتع الكانويكوي والكليروخوي بالانتفاع بأراضي الاقطاعيات فإن أوغسطس لم يصادر هذه الأراضي بل أبقاها في أيديهم لأن سياسة المصادرة كانت تتنافى مع سياسة أوغسطس العامة في تشجيع الملكية الشخصية من أجل زيادة عدد الملاك الزراعيين في مصر وهي سياسة كانت لها مواميها السياسية كما ذكرنا في مناسبة سابقة. والواقع أن أرباب الإقطاعات قد أفادوا من ذلك فائدة مزدوجة لأن واجب الخدمة العسكرية سقط عنهم واحتفظوا بالأراضي دون مقابل، بل أصبحوا أصحابها الشرعيين من الناحية القانونية وليس مجرد منتفعين. حقًا أنهم كانوا في محرة سابقة إبان الحكم البطلمي قد تحولوا بالفعل إلى ملاك لإقطاعاتهم من الناحية العملية، لكن ما أضيف إلى موقفهم هنا هو الناحية النظرية أي من وجهة النظر القانونية.

هيثم الفقى
06-15-2010, 11:40 AM
وقد كان من المنطقي تبعًا لذلك أن تختفي في مصر في العصر الروماني التفرقة التي كنا نلاحظها من قبل في الوثائق البطلمية بين اسطلاحي كانويكوي وكليروخوي، باعتبار أن كلاً من الفريقين أصبح في العصر الروماني مساويًا للفريق الآخر من حيث الأساس القانوني الموحد لملكية الأرض لكن التفرقة بين اللفظين بقيت في وثائق العصر الروماني. بحيث أصبح لفظ كاتريكوي يستخدم بمعنى اجتماعي محدد سوف نشير إليه بعد قليل، على حين فقد لفظ كليروخي كل معنى اصطلاحي خاص وأصبح مرادفًا لكلمة يونانية عامة هي جيوخوي Geochoi أي حائز (مالك) لقطعة أرض.

ولقد اعتبرت الإدارة الرومانية في مصر الأفراد الذين كانوا في العصر البطلمي يحملون لقب كاتويكوي. اعتبرتهم ورثة المقدونيين واليونان الأوائل الذين أسكنهم ملوك البطالمة ريف مصر وخاصة في إقليم الفيوم والذين اعتمدوا عليهم اعتمادًا كليًا في تعبئة قواتهم الحربية حتى آواخر القرن الثالث ق.م. ولذلك منحوهم وضعًا اجتماعيًا متميزًا منذ البداية غير أن الرومان لم يكونوا يستطيعون افتراض أن كل من وجدوه في مصر حاملاً هذه الصفة كان يونانيًا من حيث السلالة، إذ جاء في عصر البطالمة وقت أصبحت فيه هذه الصفة كانويكوس (أي مستوطن) صفة اصطلاحية يحملها كل من يكون بحوزته قطعة أرض من ذلك القسم من الأراضي الذي عرف في ذلك العصر باسم أراضي المستوطنيين Katoikeke Ge. وأما كان جزء من هذه الأراضي قد آل في خلال القسم الأخير من العصر البطلمي بخاصة إلى أفراد لم يكونوا في الأصل من سلالة المقدونيين أو اليونان وذلك بسبب التنازلات أو البيوع التي لم تكن قانونية وأن تغاضت السلطات البطلمية عن عدم قانونيتها، فإن السلطات الرومانية لم تكن لتضعهم في ذات المستوى الاجتماعي الذي وضعت فيه طبقة مواطني مدينة الإسكندرية فتعفهيم من ضريبة الرأس إعفاء كاملاً ولم يكن من الممكن اعتبارهم يونانًا خالصين.

ويصبح وضع الكانويكوي الاجتماعي في إقليم الفيوم في العصر الروماني في رأينا أنهم كانوا يؤلفون طبقة متمايزة عن فئة "مواطني عاصمة الإقليم" هناك تمايزًا اجتماعيًا فقط، على النحو الذي تمايزت فيه طبقة خريجي الجمنازيوم في داخل فئات مواطني العواصم في سائر الأقاليم الأخرى، بمعنى أن الكاتويكوي في إقليم الفيوم كانوا يدفعون ضريبة الرأس بمعدلها المنخفض في الفيوم وهو عشرون دراخمة، وأن التمتع بحق تولي الوظائف المحلية كان مقصورًا عليهم والذي يجعلنا نميل إلى هذا الرأي أنه لا يرد في الوثائق ذكر لطبقة خريجي الجمنازيوم في الفيوم، وإنما بر برد ذكر لطبقة تحمل اسم "الـ6475 هيليتي" وهو اسم يوحي هذا الرقم الثابت فيه بأن الأمر يتعلق بطبقة اجتماعية مغلقة ويبدو أن أوغسطس أو أحد خلفائه الأوائل قد انتقى من سكان عاصمة إقليم الفيوم هذا العدد (6475) على أساس وضعهم الاجتماعي الراهن آنذاك، على غرار ذلك الإجراء الذي اتبع في اختبار طبقات خريجي الجمنازيوم في السنة الرابعة والثلاثين من حكم أوغسطس (4/5 ميلادية) بالنسبة إلى الأقاليم الأخرى. ونحن نضيف في هذا المجال ما أثبته "بيكرمان" من أن لفظ كاتويكوس بمدلوله الاجتماعي الذي يرد به في وثائق إقليم الفيوم في العصر الروماني كان صورة مختصرة لإصطلاح كامل ترجمته العربية هي كاتويكرس من جماعة الـ6475 هيليني، بحيث نشير الصورتان المختصرة والكاملة إلى فئة واحدة بلا اختلاف.

تلك كانت أوضاع فئات اليونان المتمايزة في ريف مصر. وليس من شك في أنه وجدت إلى جانب هذه الفئات أعداد كبيرة من اليونان الذين لم يدخلوا في عداد مواطني عواصم الأقاليم، لأنهم أثروا العيش في قراهم ولم ينتقلوا إلى عاصمة الإقليم استجابة للسياسة الرومانية التي كانت تهدف في هذا المجال إلى تركيز العناصر اليونانية في تلك العواصم من أجل تقوية مركزها ولعل هذه السياسة الرومانية تتجلى فيما قام به أوغسطس من إلغاء مؤسسات الجمنازيوم التي كانت قائمة في قرى مصر في العصر البطلمي، مكتفيًا بما كان موجودًا منها في عواصم الأقاليم فقط، حيث أصبح للجمنازيوم هناك صفة رسمية وأصبح مديره ذا منزلة رفيعة على نحو ما مر بنا. وليس من شك في أن اليونان الذين كانوا يعيشون في القرى والذين لم يكن يمنع زواجهم من المصريين قانون ما من قبل السلطات أو خوف من ناحيتهم هم من أن يؤدي زواجهم هذا إلى فقدانهم امتيازًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا بعينه، والذي توقعوا عن ممارسة أساليب الحياة اليونانية واختلطوا بالسكان الوطنيين، ليس من شك في أنهم اندمجوا مع هؤلاء الوطنيين وأصبحوا شديدي الشبه بهم.

المصريون:

أما السكان الوطنيون الذين كانوا يؤلفون الأغلبية الساحقة في ريف مصر فنحن نتصور حال ملايينهم في القرى والكفور، وقد كانوا أفقر الطبقات وأكثرها أعباء. فإلى جانب ضريبة الرأس التي كانوا يؤدونها كاملة، كانوا يخضعون لأعمال السخرة ـ وهي تعتبر في ذاتها ضريبة نوعية ـ ثم لأنواع أخرى من الضرائب شتى. وكان غالبية عامة للمصريين يشتغلون بالزراعة ويزاولون مختلف الحرف والصناعات. أما فئة أصحاب الأراضي منهم، وهم الذين كانوا في البداية على شيء من اليسر فعلهم كانوا أسوأ خطأ من غيرهم إذ سقط على كاهلهم عبء الخدمات الإلزامية كزراعة الأراضي المهجورة وأداء الضرائب المفروضة عليها والقيام ببعض المهام الإدارية التي تكلفهم بها السلطات نظرًأ لأن بعضهم كان ملمًا بشيء من لغة الإدارة التي ظلت هي اللغة اليونانية أساسًا، فضلاً عما كان لديهم من أملاك زراعية كان يمكن أن تستوفى منها السلطات استحقاقاتهم من هؤلاء الأفراد إذا ما قصروا في أداء التزامهم ولسوف نلاحظ أنه عندما كثرت أعباء هؤلاء لجأوا مع سائر الفلاحين إلى القرار من أراضيهم بعيدًا عن عيون السلطات المحلية. وعلى مر الأيام إزدادت ظاهرة هذا الفرار التي عرفت في لغة البردي بتعبير Anachorisis وكان الفارون يختبئون في أحراش الدلتا أو يتسللون إلى مدينة كبيرة كالإسكندرية حيث يتوارون في رحمة سكانها يجدون لهم فيها عملاً متواضعًا يقتاتون منه.

أما فيما يخص رجال الدين المصريين الذين كانوا في كل العصور أرفع فئات المصريين شأنًا فإن السياسة الرومانية تعمدت إضعافهم، فرأينا أوغسطس بصادر جانبًا كبيرًا من أراضي المعابد بالرغم من أن سياسته العامة نحو الأراضي كانت تسير في اتجاه يعاكس المصادرة. لكن الهدف هنا كان إضعاف نفوذ الكهنة. كذلك انتقص من عدد المعابد التي كانت تتمتع بحق حماية اللاجئين إليها، ولم يعف من أداء ضريبة الرأس إلا عددًا محدودًا من الكهنة في كل معبد، وحتى هذا العدد المحدود كان آخذًا في التناقص على مر الوقت.


منقول