المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السمات العامة للإدارة الرومانية في مصر



هيثم الفقى
06-15-2010, 11:28 AM
سبق أن ألمحنا إلى أن أوغسطس لم يكن في حاجة إلى أن يصنع لمصر هيكلاً جديدًا للإدارة لأن نظم أسلافه البطالمة في هذا المجال كانت كفيلة بأن تحقق له أهدافه من مصر، وهي أهداف اقتصادية في المقام الأول، ولاسيما وأن من هذه النظم البطلمية ما كان مستندًا إلى أوضاع راسخة في إدارة شئون مصر ترجع إلى أقدم العصور. وكل ما كان الأمر يقتضيه هو تشديد قبضة الحكومة المركزية التي كانت قد تراخت في أيام البطالمة الأواخر بسبب ضعفهم وتدهور أحوال مصر الداخلية في عهودهم، من أجل أن يستعيد النظام الإداري كفاءته هذا إلى إدخال التعديلات الضرورية التي كان يتطلبها انتقال السلطة من ناحية والرغبة في إضفاء صبغة رومانية على أداة الحكم من ناحية أخرى.

غير أنه تأسيًا على هذه الفكرة العامة، ومنذ أن أصدر ميلن G.J. Milne عبارته المأثورة من أن دخول مصر في حوزة الرومان في عام 30 ق.م. لم يكن تعني سوى أن البلاد استبدلت سيدًا رومانيًا بسيد بطلمي، سادت بين الدارسين مسلّمة مؤداها أنه في خلال الفترة الممتدة ما بين عهد أوغسطس وعهد دقلديانوس، لم تكن النظم الرومانية في مصر إلا استمرار للنظم البطلمية. لكنه يتتابع نشر الوثائق خاصة إبان السنوات الخمسين الأخيرة وتتابع ظهور دراسات عديدة قانونية وإدارية واقتصادية واجتماعية قائمة على هذه الوثائق، تغيرت هذه الفكرة العامة وأصبحت مقولة "الاستمرارية" المطلقة بين النظامين البطلمي والروماني مقولة غير مقبولة في جملتها وبدرجة أكبر في كثير من تفصيلاتها. فقد تبين أن ما أدخله الرومان على مختلف نظم البطالمة يفوق كثيرًا ما سبق أن لاحظه الدارسون الأوائل على السطح من مظاهر الاستمرار. وصارت المسألة تطرح من خلال تعبيرات معدلة هي التأثر أو الاقتباس بدلاً من تعبيرات الاتصال والاستمرار، وأصبح التساؤل هو: أي النظم الإدارية البطلمية بقى، وما العوامل التي أوجبت بقاءه؛ وأي النظم أسقطها الرومان أو عدلوها أو ابتكروها ابتكارًا، وما منطلقاتهم السياسية أو القانونية أو أهدافهم العملية من وراء كل ما صنعوه.

أمثلة من نظم إدارية بطلمية بقيت وتفسير ذلك :


والواقع أن من النظم البطلمية ما لم يكن أمام الرومان بد من الإبقاء عليه، وهي تلك النظم التي باتت مقررة في مبادئ الإدارة المصرية منذ أقدم العصور الفرعونية وقيام الحكومة المركزية، والتي يمكن تتبع استمرارها في عهد سيطرة الفرس ونظم الإسكندر الأكبر التي ارتضاها لإدارة مصر على عجل قبل أن يغادرها، ثم نظم خلفائه البطالمة من بعده. وأشهر مثال لذلك هو مبدأ التقسيم الإداري إلى أقسام عرفها اليونان في مصر باسم "النومات" Nomoi أي الأقاليم وعرفتها مصر الحديثة باسم المديريات أو المحافظات ثم تقسيم هذه النومات إلى مراكز وتقسيم المراكز إلى قرى. ونحن هنا إزاء وضع تقليدي فرض نفسه من قبل الرومان على البطالمة، ولم يكن أمام الرومان خيار للتصرف بتغييره أو التجديد فيه.

ونجد في مبدأ إجراء الإحصاء السكاني الدوري مثلاً آخر على نظام يرجع إلى العصور الفرعونية أيضًا وفرض نفسه على الرومان ولكنهم أجروا بعض التعديلات فيه. ومن المعلوم أن الحياة الاقتصادية في أي بلد تطورت نظمه على أساس مركزية الحكم لا يُستغنى فيه عن إجراء الإحصاءات الدورية لمجموع السكان. ولدينا معلومات بأنه إلى جانب تعداد الممتلكات من أموال وأراضي ماشية، وهو ما كانت حكومات الفراعنة المركزية تجريه كل عامين في أول الأمر ثم كل عام بعد ذلك، أجريت إحصاءات للأفراد في أوقات بعينها وإن لم تكن تجري بصفة دورية منتظمة. وقد استخدم البطالمة أسلوب الإحصاء السكاني بالطبع وأخضعوه لدورة منتظمة. وتبني الرومان ذلك الأسلوب ـ وما كان لهم إلا أن يفعلوا ذلك ـ لكنهم أدخلوا عليه من التعديلات وابتكروا له من الوسائل ما يناسب سياستهم الضريبية في مصر، خاصة فيما يتصل بجباية "ضريبة الرأس" التي فرضوها على المصريين، حتى لقد أصبحت الكلمة الدالة على هذه الضريبة والأكثر ورودًا في الوثائق هي كلمة لاوجرافيا laographia ومعناها الحرفي باللغة اليونانية هو تعداد السكان أو تسجيلهم. أما التعديل الذي أدخله الرومان فهو إجراء هذا الإحصاء دوريًا كل أربعة عشر عامًا. فإذا عرفنا أن أداء ضريبة الرأس كان مفروضًا على الشخص عند بلوغه سن الرابعة عشرة، وهي السن التي اعتبرتها الحكومة سن القدرة على الكسب، أدركنا أن السبب في دورة الأربعة عشر عامًا هو تسجيل الأفراد الذين ولدوا بعد إجراء الإحصاء السابق فلم يشملهم ليأتي الإحصاء ليسجلهم في قوائم من يجب عليهم دفع ضريبة الرأس.

وقد سبق أن أشرنا إلى التشابه الكبير بين الأهداف الاقتصادية لكل من البطالمة والرومان في مصر، وقد أدى ذلك بالضرورة إلى استمرارية في النظم الإدارية، لأن هؤلاء وأولئك قد وظفوا نظم الإدارة لتحقيق غاية واحدة وهي الحصول على أكبر دخل ممكن من طاقة مصر الإنتاجية لصالح الحاكم. وقد أوجد البطالمة في مصر أداة حكم منظمة تنظيمًا علميًا دقيقًا، وأثبتت هذه الإدارة نجاحًا في تحقيق أهدافها الاقتصادية في عهود البطالمة الأوائل. وليس من شك في أن نظم البطالمة كانت تحمل موروثًا من مصر الفرعونية، لكن أداة الحكم عندهم أصبحت عند اكتمالها أداة يونانية قلبًا وقالبًا. لذلك كان أوغسطس يستطيع أن يتقبل جهاز البطالمة الإداري، لكن كان لابد له من أن يغير ما لم يتلاءم مع ما ألفه الرومان من حيث وضع الوظيفة العامة مثلاً وطبيعة سلطة شاغلها ومدتها. ويمكن أن تعتبر هذا التغيير من باب "رومنة" النظم، لكن هذه الرومنة لم تكن مقصودة لذاتها من باب استعلاء الرومان بوصفهم فاتحين. فحسبنا أن نعلم مثلاً أنهم لم يقوموا بمحاولة لتغيير لغة الإدارة اليونانية إلى لغتهم اللاتينية في أي بلد من البلاد الشرقية التي فتحوها ووجدوا فيها اللغة اليونانية هي السائدة، وأن نعلم أيضًا أن الرومان ـ كقاعدة عامة في أي بلد فتحوه ـ لم يعمدوا إلى تغيير نظام حكم قائم تغييرًا جذريًا طالما كان هذه النظام يجري على مستوى أداء طيب. إنما كانت "الرومنة" تعبيرًا تلقائيًا وعمليًا في الوقت نفسه عن خصائص العقلية الرومانية في نزعتها إلى تقنين كل الأمور.

ازدواجية نظام الوظائف في الإدارة المحلية :
ونذكر هنا عاملاً آخر أحدث تغييرًا في أسلوب الإدارة في مصر على المستوى المحلي في الإقليم nome وأدى إلى قيام نظم مزدوج للوظائف. وهذا العامل هو رغبة الرومان في التخفف من أعباء الحكم. فإلى جانب تلك الوظائف التي تمثل السلطة المركزية على مستوى الإقليم والتي كان أصحابها يتقاضون عنها مرتبات من الخزانة، مثل وظيفة مدير الإقليم strategos والكاتب الملكي Basilicos Grammateus ، أنشأ الرومان عددًا من الوظائف "البلدية" الشرقية التي عرفت في المصطلح اليوناني بـ archai وفي المصطلح اللاتيني بـhonores وكان القصد منها القيام بأعباء الإشراف على ما تتطلبه حياة الجماعات اليونانية في عاصمة الإقليم في مجالات التعليم والتموين ورعاية الشباب والحياة الاجتماعية والدينية.
ومن هذه الوظائف وظيفة مدير معهد التربية Pymnasiarchos والمشرف على شئون الشباب exegetes ومدير التعليم cosmetes وما إلى ذلك. وقد كانت هذه الوظائف كما تدل عليها صفتها وظائف شرفية لا يتقاضى شاغلوها أجرًا، بل كانت تقتضي ممن يتولاها الإنفاق على مقتضياتها من دخله الخاص. ولقد وجد بعضُ هذه الوظائف في عصر البطالمة لدى اليونان الذين انتشروا في أقاليم مصر سواء في المدن اليونانية، الإسكندرية ونقراطيس وبطوليميس أو في خارجها. لكن الرومان زادوا عليها وظائف اقتبسوها من نظم المدن اليونانية القديمة وحولوا هذه وتلك جميعًا إلى وظائف منتظمة لكل منها اختصاص ومسئوليات. وفي الوقت نفسه فإن سياستهم الاجتماعية بكل ما ابتكروه لها من إجراءات مكملة للإحصاء السكاني مثل عملية فحص مستندات الفئات الممتاز epikrisis وإشهارات المواليد وما إليها، قد استهدفت ضمن ما استهدفته تقوية فئات اليونان أو حتى المتأغرقين لتكون معينًا يمدهم بالأفراد القادرين على تولي هذه الوظائف. ولقد بدأ الحكم الروماني في مصر وسكان عواصم الأقاليم يتنافسون لنيل شرف تولي هذه الوظائف، وإن تبدل الحال غير الحال بعد ذلك، وكان من الممكن لهذه الوظائف الشرفية أن تمضي بمصر تحت حكم الرومان قُدمًا في طريق التطور إلى نظام الحكم المحلي الكامل على نمط الـmunicipia الرومانية في ولايات الغرب، لولا أن الهدف هذا لم يكن منح مزيد من الاستقلالية في الحكم المحلي وإنما التخفف من أعباء الحكم بإلقائها على عاتق الأهالي.

هيثم الفقى
06-15-2010, 11:29 AM
ولعل من أبرز خصائص الإدارة الرومانية في مصر تلك البيروقراطية المفرطة التي تتجلى في العناية الفائقة بتدوين كل شيء وتوثيقه وحفظه في سجلات لتحقيق ضبط الأوضاع القانونية للسكان والتغيرات التي تطرأ على ممتلكات الأفراد وقدرتهم المالية التي تؤهلهم للاضطلاع بعبء الخدمات الإلزامية Leitourgia وما إلى ذلك. وليس أدل على هذه العناية من تلك الوثيقة الطريفة رقم 31 من برديات استراسبورج وترجع إلى عام 194م وفيها نرى شخصًا يشغل في الأصل وظيفة الكاتب الملكي ويقوم في وقت تحرير الوثيقة إلى جانب وظيفته تلك بمهام وظيفة مدير الإقليم مؤقتًا، وهو يكتب الآن بصفة كونه "مدير إقليم" إلى نفسه بصفته "كاتبًا ملكيًا" يطلب الاهتمام بإرسال التقارير الشهرية المتعلقة بحصة الإقليم من القمح المرسل إلى روما.

ولحفظ تلك الكميات الهائلة من الوثائق والسجلات التي اقتضتها الأغراض الإدارية أقام الرومان سلسلة من دور المحفوظات فاقت بكثير تلك التي نراها في عصر البطالمة، وحملت هذه الدور أسماء متعددة، متدرجة من القرية وهي أصغر وحدة إدارية حتى عاصمة السلطة المركزية في الإسكندرية، وقد أفردت الإدارة لكل منها موظفين مختصين. فمن الجرافيون grapheion على مستوى القرية والمركز (ويشرف عليها النوموجراقواس Nomographos)، إلى دار المحفوظات العامة Bibiothike demosin logon على مستوى عاصمة الإقليم ويشرف عليها الأجورانوموس. وقد تفرعت عن هذه الدار أخرى لحفظ سجلات الممتلكات من أراض وعقار وعبيد عرفت باسم Biblotheke engtesion وقد انشئت فيما بين عامي 64، 67م وأصبح يشرف على الدارين موظفان حمل كل منهما لقب أمين المحفوظات Bibliophylax واختصت الدار القديمة بحفظ الوثائق العامة الرسمية الحكومية، وأصبح هناك قسمان أحدهما يختص بالوثائق المكتوبة باليونانية وعرف باسم agoranomeion والثاني بالوثائق المكتوبة بالديموطيقية وعرف باسم Mnemeion. فإذا بلغنا عاصمة الحكومة المركزية في الإسكندرية وجدنا دار محفوظات مركزية عرفت باسم Katalogeion ويشرف عليها موظف له صفة قضائية ويحمل اسم Archidikastes، وهو لقب انحدر إلى الرومان من عصر البطالمة غير أنه كان في ذلك العصر يتولى وظيفة أرفع بكثير هي وظيفة كبير القضاة أو وزير العدل. ومن هذه تفرعت دار يبدو أنها أنشئت في عهد الإمبراطور هادريان وحملت اسمه Adrianeion على حين عرفت القديمة باسم Naneion. وينبغي أن نضيف إلى هذا أخيرًا دار الوثائق الخاصة بوالي مصر في مدينة الإسكندرية وقد ورد ذكرها تحت اسم Hegemonike Bibiotheke وكانت بالطبع هي أعلى مستوى من حيث نوعية السجلات المحفوظة فيها.

لغة الإدارة:

ذكرنا أن اللغة اليونانية كانت هي لغة البلاد الرسمية منذ بداية العصر البطلمي. وقد أقر الرومان هذا الوضع، فكانت القرارات والمراسيم والأوامر تصدر جميعًا باللغة اليونانية، بل أنه حتى خطابات الأباطرة إلى الولاة وبياناتهم التي كانت تكتب أصلاً باللاتينية إلا في حالات قليلة هي على سبيل الحصر الوثائق الخاصة بالمواطنين الرومان Cives Romani في داخل إطار القانون المدني Ius Civile، وقرارات لاإدارة المركزية حين تكون متعلقة بالجيش الروماني، وأخيراً اللغة الرسمية للجيش الروماني ذاته. وقد ظل هذا الوضع قائمًا في مصر حتى أيام دقلديانوس الذي صدر في عهده قرار بأن تصبح اللاتينية لغة رسمية في جميع ولايات الإمبراطورية حتى تلك التي كانت اليونانية تحتل فيها هذه المكانة. وإزاء الضعف الشديد لتيار اللاتينية في مصر قبل دقلديانوس بالرغم من أن الرومان الفاتحين كانوا يملكون الوسائل لإلباس أداة حكمهم في مصر ثوبًا لاتينيًا، فقد نظر البعض إلى هذه الحقيقة على أنها شاهد من الشواهد على تفضيل أوغسطس وخلفائه لمبدأ الاستمرار والمواصلة على مبدأ فصم التقاليد البطلمية في مجال الإدارة. ومن هؤلاء من رتب على رأيه هذا رأيًا آخر، هو أن ولاية مصر تمثل في هذا وضعًا استثنائيًا بين ولايات روما الشرقية. فإذا استندنا إلى هذا الرأي الأخير بدا لنا الرومان متسامحين تسامحًا خاصًا في مصر بما يجعلهم أميل في هذا الأمر إلى التقليد منهم إلى التجديد.

غير أن دراسة المتاح من القرائن للمقارنة بين وضع اللغة اللاتينية في مصر ووضعها في الولايات الشرقية الأخرى لا تشير إلى فروق ذات أهمية من حيث الانتشار سواء في مجال الإدارة أو مجال الاستخدام العام، بمعنى أن مصر لا تمثل في هذا الأمر وضعًا خاصًا. والأمر الذي يبدو واضحًا، أن الرومان على مستوى ولايات الإمبراطورية كلها، لم يتدخلوا بسياسة لغوية، إن صح هذا التعبير، لفرض وضع لغوي بعينه على السكان غير المتمتعين بحقوق المواصلة الرومانية، في حين كان على المواطنين الرومان أن يستخدموا اللاتينية في الوثائق التي كانت تحرر في إطار القانون المدني الروماني فقط، وكان إبقاء الرومان على اليونانية لغة للإدارة تسليمًا بأمر واقع كان من الصعب تغييره في الولايات الشرقية. والدليل على ذلك أنه حتى عندما تقرر أن تكون اللغة اللاتينية هي اللغة الرسمية الوحيدة منذ أيام دقلديانوس باعتبار ذلك وسيلة من وسائل توحيد النظام الإداري في الإمبراطورية وتبسيط لتحقيق ترابط أجزائها، لم يترتب على هذا القرار إلا تغيير طفيف انعكس في الوثائق على إطار الخارجي فحسب، ونعني عنوان الوثيقة وتاريخها وموضوعها وملاحظات الحاكم أحيانًا، أما أقوال الطرفين في قضية ما وأقوال الشهود والقضاة فكانت كلها تكتب باللغة اليونانية.


منقول