المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سياسه أوغسطس فى تنظيم ولايه مصر



هيثم الفقى
06-09-2010, 03:05 AM
سياسه أوغسطس فى تنظيم ولايه مصر


كان سقوط الاسكندريه يوافق اليوم الاول من الشهر السادس فى التقويم الرومانى القديم(شهر أوغسطس فيما بعد) . وبسقوطها دخلت مصر أخيرا فى حوزه الرومان بعد ان طال اشتهاؤهم اياها اتصبح واحده من اهم الولايات واغناها فى امبراطوريتهم المتراميه الأطراف، وبذلك اكتملت سيطرتهم على ممالك الشرق الهلنستى وأقطاره جميعا . وبموت كيلوباترة السابعه فى اليوم العاشر من الشهر نفسه انقضت سلاله الملوك البطالمه وانتهى حكمهم فى مصر بعد ان دام قرابه ثلاثه قرون. وخلصت روما من ذلك الكابوس الثقيل الذى ارقها وأثار فى نفوس ساستها الهلع سنوات طويله، حين كانت ترقب بقلب واجف أحداث الصراع بين ابنيها انطونيوس واوكتافيانوس بعد ذلك فى الوثائق من انه يوم دخل الاسكندريه أنقذ الدوله من خطر بليغ. كذلك تجلت فرحه الرومان بانتصار قائدهم المظفر فى تلك العمله التذكاريه التى صدرت بهذه المناسبه وعليها صوره التمساح أشهر المعبودات المصريه فى ذلك الحين(الاله سوبك) ورمز النيل، وتحتها عباره من كلمتين اثنتين ومعناها: غنمت مصرAegypto Capta، كما تجلت فى ذلك القرار الذى أصدرهمجلس الشيوخ الرومانى باعتبار يوم الغنيمه عيدا وطنيا يحتفل به ضمن قائمه الأعياد فى روما .

اوكتافيانوس فى الاسكندريه

وبالرغم من الحقد الذى كان اوكتافيانوس يضمره لمدينه الاسكندريه و الذى تخلف عنده من عنف الصراع بينه و بين انطونيوس و حليفته كليوباترة، فانة منع جنودة من استباحة حرمة المدينة بالنهب والسلب على عادة الغزاة الفاتحين مع البلاد التى يعتبرونها غنيمة حرب. وقد اعلن عفوة عن المدينة فى خطاب قصيرالقاة باللغة اليونانية التى لم يكن يجيدها بحال، لكنة
لم يخف فى هذا الخطاب ازدراءة للاسكندريين، ويقول ديون كاسيوس ان اكتافيانوس " برر عفوة عنهم بالالة سرابيس واكراما لذكرى مؤسسها الاسكندر ومن اجل الفيلسوف آريوس احد مواطنى الاسكندرية الذى افاد اوكتافيانوس من علمة وصحبتة، ونحن نتصور ان جمال المدينةو بهاءها الفائق قد كان لة دخل فى قرارة، كما ان نفسة كانت قد رضيت حين حصل على كنوز البطالمة سالمةوهى الكنوز التى كان على اكبر قدر من الاهتمام بها والتعويل عليها للانفاق فى المسقبل وكان يخشى ان تعمد كليوباترة فى يأسها الى تدميرها. غير انة بالرغم مما اظهره اكتافيانوس لذكرى الاسكندر الاكبر من احترام وتبجيل، حيث شاهد جثمانه وتفحصه ووضع عليه تاجا من الذهب ونثر فوقه الزهور، فانه تعمد ان يذل كبرياء الاسكندريين الذين كان يعلم حق العلم اعتذاذهم بانفسهم وبمجد مدينتهم وثرائها. فعندما أظهروا له رغبتهم- تملقا له ومداهنه بالطبع- فى ان يشاهد أضرحه الملوك البطالمه رد قائلا بأنه" رغب فى ان يشاهد ملكا لا امواتا" ولعله أراد أن يفهمهم أن الأوضاع قد تغيرت، ولم يعد لمدينتهم مركزها القديم بوصفها عاصمه لمملكه البطالمه المستقله، لان هذا العهد قد انقضى، وصاروا كسائر سكان مصر رعايا خاضعين لروما. لكن أشد ما أحفظ قلوب الاسكندريين على اوكتافيانوس هو رفضه ما التمسوه منهمن اعاده مجلس الشورى Boule الى مدينتهم، وكان هذا المجلس يعتبره أبرز سمات الاستقلال الذاتى فى اى مدينه يونانيه Polis. والغالب ان الاسكندريه تمتعت بوجود هذا المجلس فيها منذ تأسيسها لكنه ألغى فى وقت وظروف لايمكن تحديدها فى الشطر الثانى من حكم البطالمه. ونحن نرى أنه لم يكن من الممكن أن يوافق اوكتافياموس على هذا الطلب، لأن عوده هذا المجلس كان أدعى الى ان يذكى من شعور الاسكندريين بكبرياء المدينه المستقله وهو الذى أراد أن يكسر شوكتهم. ولعل مما زاد فى غضب الاسكندريين أنه أقر للجاليه اليهوديه المقيمه فى المدينه بحقوقها القديمه، حيث كانت لهم جماعه قوميه Politeuma معترف بها ولها رئيسEthnarchos ذواختصاصات اداريه وقضائيه الى جانب زعامته الدينيه الروحيه، بل منحهم اوكتافيانوس علاوه على ذلك مجلسا للشيوخGerousia لعله كان أشبه بمجلس السنهدرينSynedrion القديم فى فلسطين.

وللمرء أن يتسأل عن سر التفرقه فى المعامله من حيث العطف الظاهر على اليهود والتشدد الظاهر مع الاسكندريين. وهنا نلاحظ أن الرومان كانوا يرتاحون الى طائفه اليهود التى كانت قد أعدت نفسها منذ زمن لاستقبال الرومان فى مصر بعد أن أحست بأنهم سيكونون فى وقت قريب حكامها الجدد. وتجلى ذلك فى مساعدتهم للقوات الرومانيه التى أعادت بطليموس الثانى عشر(الزمار) الى عرشه فى عام 55 ق.م. ومساعدتهم ليوليوس قيصر أثناء "حرب الاسكندريه ( 48-47 ق.م ) ، وموقفهم المتخاذل من كيلوباترة أثناء صراعها مع حليفها أنطونيوس ضد أوكتافيانوس. و من ثم يمكن اعتبار تعاطف الرومان مع اليهود من هذا الوجه نوعا من المكافأه لهم. ومن وجهة اخرى لم يكن هناك مايخشاه الرومان من منح اليهود حقوقا تبدو دستورية على نحو ما ، اذ لم يكن لهؤلاء تطلعات سياسية تهدد حكم الرومان فى مصر باعتبار أنهم جالية تقيم فى مدينة ليست مدينتهم أى لا يتمتعون فيها بحق المواطنة ، بل كانوا لذلك أدعى أن يكونوا عملاء للرومان من باب العرفان . وقد كان الموقف مختلفا تماما بالنسبة لمنح الاسمندريين مجلسا للشورى كما سبق القول . وأخيرا فعلينا ألا ننسى المبدأ الذى اصطنعه الرومان فى حكم الشعوب لأيجاد نوع من التوازن السياسى وهو مبدأ "فرق تسد" divide et impera وقد قصدوا الى تطبيقه على الاسكندرية ضمانا للهدوء فيها . بيد أن هذا لم يتحقق ، لأنه لما كان الاسكندريون يعتبرون اليهود أجانب فى المدينة ويكنون لهم الكراهية و الاحتقار ، فان سياسة أوكتافيانوس قد جعلت العلاقة متوترة منذ البداية بين الاسكندريين وكل من السلطة الرومانية التى تشددت معهم واليهود الذين دللتهم هذه السلطة على حسابهم . وأدى تراكم الأحقاد الى وقوع فتن و أحداث دامية فى المدينة اعتبارا من عام 38 م .

هيثم الفقى
06-09-2010, 03:06 AM
العوامل التى املت على اوكتافيانوس سياسته ازاء مصر :

لم يكن اوكتافيانوس يستطيع ان يمكث فى مصر وقتا طويلا . كان عليه أن يسرع بالعودة الى روما ليتصدى لمشكلات عديدة تراكمت هناك عبر سنوات طويلة من الحرب الاهلية بلغت نحو نصف قرن من الزمان ، وأولها مشكلة بناء الدولة فى ظل نظام سياسى وادارى جديد ،لأن النظام الجمهورى القديم كان فى حقيقة الامر قد تفسخ بعد أن انهار الدستور تحت وطأة سلسلة متتالية من الانتهاكات التى كان يتعرض لها بالضرورة فى خلال تلك الحروب الاهلية . وقد كانت هناك أيضا مشكلة تنظيم الولايات الرومانية التى كانت اكثر حكوماتها قد فسدت ، هذا فضلا عن مشكلة الانهيار الخلقى والاجتماعى العام فى روما . غير أنه كان على اوكتافيانوس فى خلال الوقت الذى كان متاحا له للبقاء غى مصر أن يقوم ببعض الاجراءات لمواجهة احتياجات البلاد العاجلة ، وبالرغم من اننا نفتقر الى المعلومات الكافية عن تلك الاجراءات العاجلة ، فلسنا نشك فى انها كانت تصدر عن سياسة محددة رسمتها الاهداف التى أراد الزعيم الرومانى أن يحققها لروما من مصر. وقد اكتملت صورة هذه السياسة فى السنوات التالية من حكم اوكتافيانوس (الذى سيحمل بعد سقوط مصر بقليل لقب اوغسطس) بحيث أصبحت سياسة ثابتة نحو مصر سار عليها هو طوال سنىن حكمه الطويل ، كما أنها ارست قواعد السياسة التى اتبعها خلفاؤه من الأباطرة الرومان أزاء مصر لفترة طويلة من تاريخها .

اهمية الموارد المصرية:

وقد نتسائل فى البداية عن العتبارات التى تأثر بها اوغسطس وهو يرسم سياستة ازاء مصر. وقد كان اول هذه الاعتبارات دون شك هو اهتمامه بضمان أقصى قدر ممكن من موارد مصر الغنية ليكون مصدرا دائما يعتد به لدخل روما . والواقع ان هذا الهدف المادر للحكم الرومانى فى مصر كان ظاهرا منذ البداية ، بل لعله قد ظهر لنا حتى قبل أن تدخل مصر فى حوزة الرومان ، ولا غرو ، فمصر كانت أغنى ماضمته روما اليها من اقاليم حتى ذلك الوقت ، ومواردها الوفيرة ، من القمح على وجه الخصوص هى التى جعلت لها أهمية خاصة بين ولايات الامبراطورية ، حقا ان روما كانت تستطيع أن تحصل على القمح من ولايات أخرى مثل ، ولاية افريقيا و صقلية و سردينيا ، لكن مصر كانت اكبر هذه البلاد انتاجا منه . ولما كانت زراعة القمح قد اهملت منذ حين كانت ثمة حقيقة يعرفها دارسو التاريخ الرومانى ويعبر عنها ذلك القول القديم سكان روما يحكمهم ، ومن يفشل فى ذلك لا يبقى فى الحكم يوما واحدا ، فاننا نرى ان موارد مصر من القمح كانت امرا بالغ الاهمية بالنسبة الى اوغسطس ولاى خلفائه من بعده ليس من الناحية الاقتصادية وحدها بل من الناحية السياسية أيضا .

القرائن على ذلك من المصادر:

وتتأكد لدينا الحقيقة بأن موارد مصر كانت الهدف الأول والأخير للحكم الرومانى فى مصر من خلال مراجعتنا لبعض الارقام التى تذكرها بعض المصادر الادبية القديمة عن الجزية النوعية من القمح والضريبة النقدية التى كانت تحصل عليها روما من مصر ، وكذلك من خلال بعض الشواهد والاشارات الأخرى التى ترد فى هذه المصادر الأدبية و فى الوثائق على السواء ، فاكاتب الرومانى اورليوس فكتور Aurelius victor مثلا يذكر أن مصر فى خلال حكم اوغسطس كانت ترسل الى روما سنويا قمحا يبلغ مقداره عشرين مليون موديوس Modius رومانى . ويحدثنا الؤرخ اليهودى "يوسف" بأنه الى جانب الجزية النقدية ، كانت مصر فى خلال عهد الامبراطور نيرون (54-68 م) تمد روما بما يكفيها من القمح اربعة شهور. وبالرغم من أننا لا نعرف قدر احتياج العاصمة الرومانية من القمح شهريا فى عهد هذا الامبراطور كى نحسب الكمية التى يشير اليها المؤرخ ، فاننا نقدر أن كمية القمح المصرى الذى كان يرسل الى روما فى ايام نيرون كانت اكبر بكثير منها أيام اوغسطس لان أنتاجية الارض المصرية كانت قد ازدادت فى عهد نيرون زيادة ظاهرة .

والى جانب هذه الجزية النوعية من القمح كانت هناك جزية نقدية ، وليس لدينا لسوء الحظ معلومات وثيقة عن مقدار هذه الجزية النقدية أبان عهد اوغسطس ، لأن ماتذكره المصادر عنها متضارب الى حد ما ، لكن هذا التضارب فى المصادر يقل فيما يتعلق بعهود خلفاء اغسطس ، حتى اذا مابلغنا عهد الامبراطور فسباسيانوسVespassianus (68\69-79) وجدنا الجزية النقدية المحصلة من مصر تبلغ مائة واربعين مليونا من الدينارات الرومانية كل عام .
فضلا عما تثبته هذه الارقام من ضخامة ماكانت تجبيه روما من مصر عينا أونقدا فان بعض العبارات والاشارات الواردة عند بعض الكتاب القدامى عن مصر بوصفها ولاية رومانية تجعل المرء يتلقى انطباعا مبدئيا عما كان يمكن ان تكون عليه طبيعة الحكم الرومانى فىمصر ، ويدرك فى التو ماذا كانت تبغيه روما من هذه الولاية . فهناك ماتوحى به عبارة صريحة واردة عند المؤرخ الرومانى تاكيتوس من أن " مصر بلد مثيرة للمتاعب ، لكنه مصدر أساسى للقمح والدخل" ، وهناك مايذكره فينون من أن والى مصر (الذى كان يعينه الامبراطور ليحكم مصر باسمه ) كان يقضى الجانب الاكبر من وقته كل عام فى تفقد موارد الدخل فى مختلف اقاليم مصر ومراجعة حساباتها .

ولعل الوثائق البردية تعطينا – الى جانب هذه الصورة العامة – الانطباع بأن كل دقيقة من دقائق العمل الحكومى فى مصر تحت حكم الرومان كانت تستهدف بطريق مباشر أو غير مباشر ضمان الحد الأقصى من دخل البلاد . وفى هذا المجال تذكر بردية مهمة أشرنا اليها فى مناسبة سابقة وهى المعروفة باسم P.Gnomon والتى تعتبر مصدرا مهما لمعلوماتنا عن سياسة الرومان الاقتصادية والاجتماعية فى مصر ، وتتناول هذه الوثيقة المطولة الاحكام التى كانت تعمل بمقتضاها ادارة رومانية فى مصر عرفت بأدارة الحساب الخاص Idios Logos وكانت تشرف على مصادر الدخل غير الاعتيادية من أراضى مصادرة أو غرامات أو ماشاكل ذلك . والواقع أن من يراجع هذه الأحكام ليدهش حقيقة أمام اهتمام السلطات الرومانية البالغ بالحصول على أقصى ما يمكن أن تدره موارد الدخل فى مصر ، أو بالأحرى باعتصار هذه الموارد حتى أخر دراخمه من نقد وحتى أخر صاع من القمح . ومن الأوامر والتعليمات التى كان يصدرها ولاة مصر الى مرؤسيهم أن الولاة كانوا فى بعض هذه الوثائق يصفون الخزانة بأنها "بالغة القداسة" Herotaton Tameion بمعنى أنه لايمكن انتهاك صالحها الذى يوضع فوق كل اعتبار .

هيثم الفقى
06-09-2010, 03:07 AM
تأثير النظم و السياسات البطلمية :

هكذا تشير كل من المصادر الأدبية و الوثائقية فى وضوح الى تلك الحقيقة وهى أن موارد مصر كانت آخر الأمر هى الهدف الأول و الأوحد للرومان وكان من الطبيعى إذن أن تأتى النظم التى وضعها أوغسطس لحكم مصر فى كافة المجالات مستهدفة تحقيق ذلك فى المقام الأول . وفى الوقت نفسه كان من الضرورى أن تتأثر نظم اغسطس بسياسة اسلافه فى حكم مصر وهم البطالمة. وكان هؤلاء قد اوجدوا فى البلاد جهازا للحكم شديد الاحكام و أقاموا السلطة المركزية على أساس علمى ، وكان النظام البطلمى بالصورة التى وجده عليها اوغسطس كفيلا بأن يحقق له غايته فى أن يبقى مصر ومواردها تحت سيطرته الكاملة ، ولم تكن ثمة حاجة الى إدخال نظام إدارى جديد . وهنا ينبغى أن نشير الى أن الرومان على وجه العموم لم يكونوا يتدخلون لتغيير نظم الإدارة التى وجدوها فى البلاد التى آل إليهم حكمها تغييرا أساسيا طالما كانت هذه النظم تتمشى مع السياسة الرومانية فى الإدارة وكل ماكان الامر يتطلبه فى مصر هو أن يشدد أوغسطس من قبضة السلطة المركزية التى كان قد انتابها شئ من الضعف إبان عهود البطالمة الأواخر ، وان يسبغ على الإدارة صبغة رومانية على نحو ما . ولذلك فإننا سنلاحظ أن الهيكل الأساسى للإدارة البطلمية سيبقى على حاله فى فترة الحكم الرومانى بالرغم من بعض التعديلات التى طرأت من حيث إدخال وظائف جديدة وإلغاء أخرى أو تغير طبيعة بعض الوظائف وإختصاصها لتتناسب مع الأوضاع الجديدة .

وفى مجال السياسة الاقتصادية أيضا وجد أوغسطس عند اسلافة البطالمة نموذجا يمكن احتذاؤه فبطليموس الثانى (فيلادلفوس) كان قد نفذ فى مصر برنامجا اقتصاديا واسع المدى واستهدف منه أن استغل طاقة مصر الإنتاجية إلى أقصى حد ممكن . ويفضل النظام البيروقراطى المحكم الذى وضعه هذا الملك وضعت الدولة تحت اشرافها الدقيق كل ماكان يمكن أن يدر دخلا للخزانة المللكية . وكذلك أوغسطس ، الذى كان لسياسته عين الأهداف ، والذى نفترض انه كان على علم بتاريخ مصر وبنظمها الاقتصادية ، ومن هنا مانلحظه من التشابه بل التطابق فى بعض الاحيان- بين الإجراءات التى سيتخذها لإنعاش الموارد الانتاجية المصرية وتلك التى اتخذها فيلادلفوس من قبله .

أما فى مجال السياسة الاجتماعية ، فقد وجد أوغسطس فى مصر مجتمعا طبقيا تتمايز فيه فئات السكان من حيث الامتيازات والحقوق والواجبات والأعباء . فالبطالمة كما نعلم اتبعوا فى مصر سياسة التمييز العنصرى بين العصر اليونانى والمتأغرق من ناحية والعنصر الوطنى من جماهير السكان من ناحية أخرى ، فمنحوا الفريق الأول كثيرا من الامتيازات على حساب الفريق الثانى . وبالرغم من أننا لا نستطيع أن ننكر أن سياسة العطف التى اتبعها البطالمة إزاء اليونان كانت متأثرة بتعاطفهم مع هذا العنصر باعتبار أنهم ملوك مقدونيون أغريقيو الثقافة ، فإن هناك اعتبارات عملية أملت عليهم هذه السياسة فى الواقع ، ونعنى بها احتياجهم المادى الى خبرة اليونان وجهودهم فى شتى المجالات من أجل إقامة دولتهم فى مصر . وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى أوغسطس: لقد اتبع هذا أيضا سياسة البطالمة فى التمييز العنصرى ، ليس فقط لأنه كان معجبا بالثقافة اليونانية مدركا للفارق الكبير بينها و بين الثقافة المصرية بحالتها الواقعة فى ذلك الوقت ، بل لأنه استشعر الاحتياج المادى نفسه للعنصر اليونانى لكى يلقى عليه بعض مهام الحكم فى مصر توخيا لتخفيف الاعباء عن اداة الحكم الرومانى فى مصر .
ولسوف نرى أن اوغسطس لم يكتف بتبنى سياسة التمييز العنصرى ، وإنما أكدها ودعمها حتى أننا سنلاحظ مثلا أن بعض التعبيرات الاصطلاحية التى كانت ترد فى الوثائق البردية فى العصر البطلمى لتدل على فئة أو غيرها من فئات اليونان الممتازة باعتبار ماكان لها من وضع خاص أو أسلوب معين فى الحياة الاجتماعية مثل تعبير Hoi apo Gymnasiou (ومعناها جماعات رجال الجمنازيوم الذين تخرجوا من معهد التربية اليونانى Gymnasium )، وقد أصبحت ترد فى وثائق العصر الرومانى لتدل على طبقة اجتماعية بكل ما فى كلمة الطبقة من معنى و بحيث لم يكن من الممكن أن يدخل فى عداد هذه الطبقة سوى الأفراد الذين تتوافر فيهم شروط خاصة معينة كانت السلطات تراعيها بكل دقة وصرامة .

وهكذا يتضح لنا أن تشابه أهداف السياسة البطلمية و الرومانية فى مصر كانت عاملا مهما فى تبنى أوغسطس السياسة البطلمية فى خطوطها العامة الاساسية . ولم تكن التعديلات أو التجديدات التى أدخلها فى النظم البطلمية التى وجدها إلا من أجل دفع هذه النظم نحو مزيد من المركزية ضمنا لأداء افضل يسمح بتحقيق دخل أكبر . وقد بدأ أوغسطس فى وضع تنظيماته لمصر فى خلال الفترة القصيرة التى مكثها فيها بعد الاحتلال ثم استكمل هذه التنظيمات بعد عودته إلى روما جاريا على ذات السياسة ، منطلقا من ذات الاهداف . وقد أصبحت سياسته تلك فى مصر سياسة تقليدية ثابتة تابعه فيها خلفاؤه من بعده .

سياسة عزل مصر وتأمينها :

إجراءات استثنائية

ولشدة حرصه على أن تبقى مصر فى حوزته ، أو بالأحرى صدورا منه عما يشبه عقدة الخوف من ضياعها ، اتخذ أوغسطس عدة اجراءات استثنائية كانت تمثل احتياطات صارمة . وقد بالغ بعض الدارسين المحدثين فى تحميل هذه الإجراءات اكثر مما تحتمل ، حتى ثارت بينهم تلك القضية الخلافية التى دامت وقتا غير قصير حول حقيقة وضع مصر الفريد بين ولايات الامبراطورية ، وذهب فريق الى أنها لم تكن " ولاية " عادية من تلك الولايات " الامبراطورية" التى أسند الإشراف عليها الى أوغسطس وانما كانت ملكا خاصا له . والواقع انه لم يعد هناك مجال الآن لترديد هذا الخلاف بين الباحثين ، لأنه بتزايد بعض الأدلةوالشواهد التى أتاحت تناول الموضوع من زاوية جديدة تماما ، أصبح الحديث يجرى فيه فى حدود أن الأمر كان استثنائات حقيقية فعلا ، لكن مصدرها كان مزيدا من الحيطة والحرص على الولاية ,
ولعل أبرز مايذكر من هذه الاستثناءات تلك القاعدة التى استنها أوغسطس وسار عليها خلفاؤه من بعده بألا يزور مصر أحد من أفراد " طبقة السناتو " أو من أفراد "طبقة الفرسان" المرموقين (أو اللامعين) illustrii إلا بإذن مسبق من الامبراطور شخصيا . ولقد شمل هذا الحظر حتى أفراد الأسرة الامبراطورية أنفسهم . ومن الواضح أن سبب هذا الإجراء هو الخوف من أن يتمكن أحد من أعضاء طبقة السناتو ، بحكم ما لأفراد هذه الطبقة من حق دستورى تقليدى فى قيادة الفرق الحربية الرومانية ، من أن يستميل إليه جند الحامية التى تقرر وضعها فى مصر ، فتعلن ولاءها له ويستقل هو بالولاية " ويصيب إيطاليا بالمجاعة" على حد تعبير المؤرخ تاكيتوس فى صراحة .
ومن جملة الاستثناءات أيضا ماقرره أوغسطس بأن تكون لمصر عملة محلية خاصة تضرب فى دار السكة بالاسكندرية ولاتكون لها قيمة فى مجال التداول إلا فى مصر فقط ، ولم يسمح بتداول العملات الرومانية الفضية أو البرونزية فى مصر و إن سمح بتداول العملات الذهبية . ومن الواضح أن الهدف كان عزل مصر بإبقائها وحدة اقتصادية قائمة بذاتها. ونذكر أخيرا اجراء ظهر فى اختيار "الوالى" الذى ينوب عن أوغسطس فى حكم مصر . ولقد اختبر هذا الوالى من طبقة الفرسان التى كان الإمبراطور يثق فى ولائها له وفى قدرة أفرادها على إدارة الأعمال والمشروعات وليس من طبقة السناتو التى لم يكن يثق فى إخلاصها أو كفاءتها . ولم يحمل والى مصر لقب مندوب أوغسطس Legatus augusti كما كان الحال فى الولايات "الامبراطورية" الأخرى لكنه حمل لقبا من ألقاب طبقة الفرسان وهو (Praefectus) ومعناه الحاكم أو الوالى ، أو حتى الوكيل أو النقيب . وقد أدى اختيار والى مصر من طبقة الفرسان إلى استثناء آخر تجلى فى ضرورة منحه سلطة الامبيريوم imperium ، وهى سلطة لم يكن من حق أفراد طبقى الفرسان طبقا للدستور الرومانى أن يحملوها ، ذلك أن والى مصر كان لا بد أن يكون مزودا بهذه السلطة التى تخول صاحبها حق قيادة جيوش رومانية مكونة من فرق أساسية Legiones . فقد أريد لوالى مصر أن يكون القائد الأعلى للجيش الرومانى فيها ، وكان هذا الجيش يضم بالطبع فرقا اساسية. غير أن تمتع الوالى بهذه السلطة عنه عند نهاية مدة ولايته بل حتى فى حالة وجوده خارج مصر .

المشكلات العاجلة التى واجهت اوغسطس فى مصر:

1-مشكله الدفاع عن الولايه:

ونعود الان لنرى كيف تصدى اوكتافيانوس (اوغسطس) للمشلات التى عرضت له فى الاسكندريهغداه الاحتلال، وكانت أولى هذه المشكلات هى مشكله الدفاع عن الولايه وصيانه أمنها الداخلى، وقد أشرنا من قبل فى أكثر من مناسبه الى الاهميه البالغه التى علقها اوغسطس(وخلفاؤه من بعده) على مصر باعتبارها مصدرا عظيما لدخل الخزانه الرومانيه، وليس من شك فى ان ضياع هذه الولايهالغنيه من روما كان من شأنه ان يسبب لها متاعب جمة، ويكفى ان نتصور فقط انقطاع تصدير القمح المصرى اليها لنتصور خطر المجاعه يتهدد ايطاليا، وتلك حقيقه يذكرها صراحه المؤرخ تاكيتوس كما سبق ان اشرنا منذ قليل، كما يذكر ان مصر بلد يسهل الدفاع عنه بالنسبه الى من يسيطر على الامر فى الداخل، اذ كان يكفى احكام الدفاع عن النقطتين الرئيسيتين برا وبحرا، وهو يعنى بهذا بلوزيون(الفرما) فى الشرق، فاروس (السكندريه) فى الغرب وفى الوقت نفسه لم يكن وصول القوات الرومانيه الى مصر اذا ما وقع المحظور امرا سهلا لانه لم يكن لمصر من ميناء يصلح لاستقبال السفن الكبيرة الحامله للقوات سوى ميناء الاسكندريه، كما ان اقتحام الجيوش البريه سواء من الصحراء الشرقيه او الصحراء الغربيه كان ينطوى على مخاطر كثيره لتلك الجيوش.واما عن الامن الداخلى فى مصر فكان هو الاخر مشكله. فسكان الاسكندريه الذين كانوا يؤلفون خليطا غير متجانس، كانوا ميالين الى أثارة الاضطرابات والشغب، ولعنا نذكركم من المتاعب سببها الاسكندريون لحكامهم فى عهود آواخر البطالمه، وكان هؤلاء الاسكندريون أدعى الى ان يعمدوا الى مزيد من الشغب فى ظل الحكم الرومانى الذى نظروا اليه على انه احتلال انتقص كثيرا من امتيازهم وأذل كبرياءهم وحابى الى حد التدليل طائفه اليهود على حسابهم. وأقاليم مصر كانت تقوم بينها المشاحنات التى تتردد اصداؤها فى بعض المصادر القديمه، فكان الامر يتطلب اداره امن حازمه، واخيرا وليس اخرا كان هناك اقليم طيبه معقل الثروات القوميه التى واجهها الحكم البطلمى فى مصر منذ السنوات الاخيره من القرن الثالث ق.م. والذى كاد ان ينفصل عن سلطه البطالمه المركزيه حتى اضطر البطالمه الاواخر الى ان يعينوا لحكمه ذلك الموظف ذا الاختصاص العسكرى وذا الصلاحيات الواسعه التى جعلته بمثابه نائب الملك هناك، ونعنى به الابيستراتيجوس Epistrategos ، وكان من الطبيعى ان يهتم اوغسطس بامر هذا الاقليم لان امنه كان قى الواقع تأمينا لحدود مصر الجنوبيه التى كانت فى الوقت نفسه حدود الامبراطوريه الرومانيه الجنوبيه. وضمانا لاحكام الدفاع عن مصر، ترك اوغسطس فيها حاميه كبيرة نسبيا، لعلها كانت اكبر كثيرا مما تتطلبه احتياجات هذا الدفاع فى الواقع. فالمؤرخ استرابون الذى نعتبره شاهد عيان على التنظيمات الاداريه الرومانيه الاولى فى مصر يذكر ان اوغسطس ترك فى مصر ثلاث فرق Legiones وتسع كتائب مساعده Cohortes ،وثلاث وحدات من الفرسان Alae. ويعنى ذلك- فى حساب الاستاذ لسكييه Lesquier ان جيش الاحتلال فى مصر كان يربو على اثنين وعشرين الفا باعتبار ان الفرقه الرومانيه تضم 4200 جندى وان عدد أفراد الكتيبه المساعده كان 480 جندى، من المشاه وقد يبلغ ضعف ذللك(960)، وان وحده الفرسان Alae كانت تضم 480 من الجنود الخياله وقد رابطت احدى الفرق الثلاث فى المعسكر نيقوبوليس Nicopolis على بعد اربعه اميال تقريبا شرقى مدينه الاسكندريه حيث انتصر اوكتافيانوس على انطونيوس فى صيف عام 30ق.م.(ومكانها الان معسكر مصطفى كامل برمل الاسكندريه) وقد عززت هذه الفرقه ثلاث كتائب مساعده. ورابطت فرقه ثانيهفى منطقه طيبه تعززها أيضا وضعت عند سيينى Syene(اسوان)، اما الفرقه الثالثه فوضعت عند بابليون(مصر القديمه) اى مكان غير بعيد عن منف عاصمه الفراعنه العريقه وذات الموقع الهام المسيطره على طريق المواصلات بين الدلتا ومصر العليا. اما الكتائب المساعده الثلاث الباقيه ووحدات الفرسان فقد رابطت فى مواضع مختلفه من مصر لم يذكرها استرابون ويصعب تحديدها، لكن من المفهوم انها كانت مواضع تتميز بأهميتها الاستراتيجيه فى الدفاع فى مصر الوسطى والحدود الشرقيه تجاه منطقه البحر الأحمر.

تأمين الحدود الجنوبيه:

والواقع أن المهمة العاجلة لجيش الاحتلال الروماني في مصر كانت التصدي لأخطار الحـدود الجنوبية. وسـرعان ما أثبتت الاحداث ذلك إذ لم يمضي عام على الاحتلال حتى ثار إقليم طيبة في وجة السلطة الرومانية ثورة عنيفة بلغ من خطورتها أن كورنيلـيوس جالـوس-أول ولاة روما في مصر-اضطر إلى أن يقود بنفسه القوات الرومانية لإخضاعها وقـد وصلت إلينا أخبار هـذه الثورة وقمعها على يد قوات جالوس في نقـش هـام مكـتوب باللاتينـية واليونانـية والهيروغلوفية عثر عليه في جزيرة فيلة وجاء فية أن والي مصر أخضع طيببة مصدر الذعـر لجميع الملوك (الدوليين)وأن هؤلاء-على حد حد قول الوالي في النقش المذكور-قبلوا حمايـة
الرمان إذ أن جالوس عين ملك النوبة حكاماً تحت الحماية الرومانية على منطقة ترياكانوتــا سخوينوس وهي المنطقة التي كانت تقع بين حدود مصر عند سييين(اسوان)وحدود الذوية أي ما بين الشلال الأول والشلال التاني .

غير أن حملة جالوس هذه لم تكن كافية لتأمين منطقةالحدود الجنوبية إذ لم يلبث النوبييـن أن هاجموا الحاميةالمرابطة عند سييني والمؤلفةمن ثلاث كتائب منتهزين فرصة انسحاب جزء من القوات الرومانية في مصر للاشتراك في تلك الحملة التي اوغسطس بقيادة ايليـوس جالـوس
(ثاني ولاة مصر)فيما بين عامي 25و24 ق.م.لمد النفوذ الرومـاني على ساحل بلاد العــرب الغربي واليمن.وقد تمكن النوبيينعندئذ من التغلب على الحملة الرومانيـة ونهبوا فيلة والفانتين وأسوان وسلبوا بعض تماثيل أوغسطسكما اأسروا بعض الأهالي. وإزاء هذه الاحـداث الخطيرة اضطر ثالث ولاة مصر بترونيوس(24-21ق.م.)إلى الزحف جنوبا على رأس قوة ضخمة لصـد هجمات النوبييـن. وقد وصلت به هذه الحملـة حتى ناباتا عاصمة النوبييـن الشماليـة وعاد بترونيس إلى الأسكندرية بعد أن وضع حامية عند بريميس(ابريم)بالنوبة لكنه اضطر إلى معاودة
العمل العسكري في المنطقة عندما عاود النوبيين .وفي هذه المرة احتل الرومانبمقتضى صلح عقوده مع ملكة النوبة المشهورة كنداكي، أحتلو المنطقة النوبيية الواقعة ما بين أسوان والمحرقة(هيراسيكامينوس)حيث أنشألوا عدة استحكمات قوية كان لها الفضل في اقرار الأمن في هذه المنطقة منذ ذلك الوقت حتى منتصف القرن الثالث الميلادي.

ويبدو أنه عقب استتبات الأمن في منطقة الحدود الجنوبية بات واضحا أن القوات الرومانية المرابطة في مصر تزيدكثيرا عما تتطلبه احتياجات الدفاع الواقعية. ولذلك فإننا سنرى أن الامبراطور نيبيرويوس-خليفة اوغسطس-لن يجد مانعا قبل عام 23م من سحب الفرقة الورمانيةالمرابطة عند بابليون لترابط مكانها بعض القوات المساعة . وبهذا انخفض عدد الوقات في مصر إلى اقل من 17 ألف ، ومن ناحية ثانية فإنه مع استتباب الأمن رؤى أن يستغل خذور الحامية الرومانية في مصر للقيام بمهام غير قتالية مثل اعمال الشرطة والشئون الإدارية خاصة ما يتصل بجباية الضرائب بل استخدمت القوات عندئذ1 في شق القنوات وإصلاحها وإقامة الخزانات على الطرق الصحراوية وحراسة المناجم والمحاجر.

أما عن قوات الاسطول الروماني في مصر فإن من المرجح أن اوغسطس هو الذي انشأ ذلك الأسطول الذي يرد ذكره بعد ذلك تحت اسم اسطول الاسكندرية الامبراطوري والذي كانت مهمته حراسة شاطىء الدلتا (وربما الشاطىء الليبي ايضا).وكان هذا الاسطول يقوم ايضاً بحراسة كميات القمح المراسلة من مصر الى روما. وفي فترة لاحقة سنجد أن من مهام قائد هذا الاسطول حراسة النقل المائي في نهر النيل.

2-رفع طاقة موارد مصر الانتاجية

كان مورد الانتاج الأول في مصر هو الزراعة بالطبع، لكن حالة هذا المورد غداة الاحتلال الروماني لم تكن مرضية.ففي الفترة الاخيرة من حكم البطالمة لحق بالزراعة تدهور واسع بتجلي في تحول تحول جزء كبير من الاراضي المزروعة إلى اراضي بور. ولعل السبب في ذلك هو انه في فترات الاضطرابات الساسيلم يعد هناك الاهتمام الكافي بنظام الري الذي تقوم على اساسه حياة مصر الزراعية برمتها، فأهملت القنوات والسدود ولم تلق الجسور الصيانة اللازمة. وقد كان لزاما علاى اوغسطس ان يصلح نظام الري تماما مثلما فعل البطالمة الاوائل من قبل وكما فعل العرب بعد ذلك عقب الفتح الإسلامي. وقد استخدم اوغسطس قوات الجيش الروماني في مصر في تطهير القنوات المهمة وتعميقها. وأثمرت جهوده في هذا المجال حتى ان استرابون يذكر أنه قبل الحكم لم تكن البلاد تشهد عاما زراعيا موفور الانتاج إلا إذا ارتفع منسوب مياه النيل عند الفيضان بمقدار اربعة عشر ذراعا بحيث ان ارتفاعه بمقدار ثمانية اذرع فقط كان يعني المجاعة، لكنه في ولاية بترونيوس(24-21ق.م.)فان ارتفاعا في المسوب قدره اثنا عشر ذراعا فقط قد حقق محاصيل وافرة هذا وقد احتفظ اغسطس في سبيل شق واصلاح القنوات بنظام السخرة القديم، وهو النظام الذي يفرض على الفلاحين أداء الخدمات دون مقابل .

هيثم الفقى
06-09-2010, 03:07 AM
ولم يكن اصلاح الرى وحده يكفى، اذ كان يلزم ان تستصلح الاراضى التى أصابها البوار فى أواخر عصر البطالمه. وقد استخدم اوغسطس فى ذللك ذات الوسائل التى استخدمها البطالمه الأوائل تقريبا، لكن سياسته نحو الاراضى الزراعيه اتجهت الى تشجيع الملكيه الخاصه. ومن المعلوم ان الملك البطلمى شأنه شأن الفرعون من قبله- كان من الناحيه النظريه هو المالك الوحيد لكل أراضى مصر. حقا أن الملك البطلمى كان يعفى مساحات كبيره من هذه الأراضى من سيطرته المباشره، لكن هذه الأراضى على أختلاف انواعها او اقسامها- كانت تؤول آخر الأمر الى الملك. وبالرغم من ان البطالمه كانوا يؤجرون الأراضى بعقود طويله الأجل مما كان يقرب من الملكيه فأنهم لم يشجعوا فيما يبدو الامتلاك الخاص بحيث يمتلك الأفراد الأراضى تملكا حقيقيا. وقد انتقلت ملكيه أراضى مصر بحق الفتح الى اوغسطس لكنه تخلى عن نظريه ملكيه التاج(الملك) لجميع الأراضى التى كانت تعرف فى العصر البطلمى بأسم أراضى الامتلاك الخاص Ge Idiotike، فتوسع فى بيع الأراضى التى كانت قد اقحلت وبارت او التى كان أصحابها قد هجروها، وقد كانت فرصه شراء هذه الأراضى متاحه لكل من يرغب فى ذلك، وكانت الشروط مشجعه، اذ كان من المعتاد ان تعفى الأراضى القاحله من الضريبه لفتره من الزمن، ثم تحصل عنها بعد ذلك الضريبه التى كانت فى العاده اردبا واحدا Artaba عن كل مساحه ارورة Aroura من الأرض (الاردب هنا يساوى سدس الاردب المصرى الحالى تقريبا، والارورة تساوى ثلاثه اخماس الفدان المصرى). وفضلا عن هذه الشروط المتسامحه فأن اسعار بيع هذه الأراضى التى وردت فى الوثائق البرديه كانت منخفضه للغايه حتى لتبدو هذه الأسعار وكأنها أسعار رمزيه. ومن ناحيه ثانيه اتجه اوغسطس فى أعقاب استيلاءه على مصر مباشره فيما يعدو، اتجه الى منح الجنود الذين استقروا فى مصر مساحات صغيره من الأراضى ثم عدل عن هذا النظام الى دفع مبلغ من المال للجندى مع تشجيعه على شراء قطعه أرض بثمن زهيد .

والى جانب تشجيع هذه الملكيات الخاصه الصغيره لجأ أوغسطس من أجل الاسراع بعمليه استصلاح الأراضى الى اسلوب يشبه الأسلوب الذى اتبعه من قبله بطليموس الثانى(فيلادلفوس) وان اختلف فى طبيعته. فقد حث اوغسطس أفراد الطبقه الارستقراطيه سواء من الرومان او مواطنى مدينه الاسكندريه الأثرياء على استثمار رؤوس أموالهم فى استصلاح مساحات كبيره من أرض مصر وزراعتها، وقد كانت هذه الاراضى تمنح للأفراد دون مقابل او تباع لهم بقيمه اسميه. وقد ترتب على هذه السياسه نشوء الملكيات الزراعيه الكبيره التى شكلت فى مصر فى العصر الرومانى قسما هاما من الاراضى عرف باسم أرض "الوسيه" Ousiake Ge. ولا شك ان هذه الملكيات الكبيره قد ادت دورا هاما فى استعاده قدره مصر الاقتصاديه على مدى القرن الأول من الحكم الرومانى .

وهكذا نرى ان سياسه اوغسطس فى تشجيع الملكيه الخاصه فى مصر كانت تستهدف فى المقام الأول اشراك جهود الأفراد فى العمل على استصلاح الأراضى البور، وكان هناك الى جانب ذلك هدف سياسى يتحقق بازدياد عدد ملاك الأراضى سواء من صغار الفلاحين او متوسطى الحال من يونان الأقاليم .

3- تقويه السلطه المركزيه وتنظيم اداة الحكم:

وكانت المهمه الثالثه امام اوغسطس هى ان يهيئ لمصر جهازا قويا يضمن له احكام السيطره عليها. وقد سبق ان اشرنا الى انه لم يكن محتاجا فى ذلك الى اجراء تعديلات جذريه فى نظام الاداره البطلميه الذى وجده فى مصر، لان هذا النظام كان كفيلا بأن يحقق له كل أهدافه اذا ما زال عنه الضعف والتراخى الذى لحقه على أواخر أيام البطالمه. ولذلك فاننا سنلاحظ قدرا كبيرا من الاستمراريه فى النظم الاداريه خاصه فى الوظائف الاداريه الرسميه على مستوى الاقليم او المديريه Nome، ومع ذلك فاننا نجد هنا العديد من التعديلات والاجراءات التى استحدثها الرومان فى نظم الاداره المحليه اما بقصد "رومنتها" او لمواجهة اوضاع استجدت بالضروره .

على مستوى السلطه المركزيه كان الامر يقتضى بالطبع تعيين موظفين جدد من الرومان لممارسه السلطات التى كانت للملك البطلمى. وقد توخى اوغسطس ان يكون هؤلاء تابعين له تبعيه مطلقه ليكونوا اداته الطيعه و المضمونه فى حكم الولايه الغنيه. ويأتى فى مقدمه هؤلاء الوالى الذى كان يمثل رأس السلطه المركزيه فى مصر والذى ذكرنا من قبل ان اوغسطس اختاره من طبقه الفرسان التى كان يثق فى ولاء افرادها له وقدرتهم على اداره مصر كما تدار الضيعه لصالح الشعب الرومانى، حيث انهم كانوا فى الأصل من الرجال العمال. وهنا نلاحظ انه بالرغم من الصلاحيات الواسعه التى تمتع بها والى مصر الرومانى حتى ترددت عند بعض المؤرخين القدامى (استرابون وتاكيتوس واميانوس ماركلينوس) عباره ان الوالى كانت له "مكانه الملوك" فانه لم يكن باى حال فى وضع "نائب الملك" وانما كان تعيينه بمقتضى "قانون" يجعله فى وضع موظف رومانى عام Magistratus Romanus يشغل وظيفته لمده محدده وان كان مسئولا عن تصرفاته امام الامبراطور وحده. اما الوظائف الرومانيه الأخرى على مستوى السلطه المركزيه فقد جعلت لمساعده الوالى فى القيام بمهامه المتعدده وكان اولها منصبا يلى منصب الوالى مباشره وهو اليوريديكوس Iuridicus (وهو يقابل فى الوثائق اسم Decaiodotes باليونانيه ومعناها الحرفى مصرف العداله) ولنا ان نطلق على هذا المنصب اسم وزير العدل. وقد كان الامبراطور هو الذى يعين هذا الموظف الكبير الذى كان لابد من ان يكون مواطنا رومانيا ولا يستطيع الواى عزله. ومما يدل على ان هذه الوظيفه كانت تلى وظيفه الوالى مباشره ما نعلمه من ان اصحابها كان يتولى مؤقتا منصب الوالى فى حاله خلو هذا المنصب فجأه بعزل الوالى او موته، الى ان يعين وال جديد. وبالرغم من اننا لا نعلم تفصيلات عن وظيفه اليوريديكوس (وزير العدل) واختصاصاتها فان المرجح ان هذا المنصب فى مصر كان يقابل منصب المندوب القضائى Legatus iuridicus فى الولايات الرومانيه الأخرى، كما ان من الواضح ان انشاء هذه الوظيفه كان يستهدف تزويد الداره الرومانيه فى مصر بالخبره القانونيه، وينبغى ان نتذكر هنا ان الوالى كان يختار من طبقه الفرسان كما قلنا، وهى هيئه لم يشتغل افرادها فى روما بشئون القضاء وانما اشتغلوا بشئون التجاره والمال وامدادات الجيوش والاداره فحسب.وحتى لا يؤدى انعدام خبره الوالى بالشئون القضائيه الى تعارض احكامه واجراءاته مع مبادئ القانون الرومانى العام، أنشأ اوغسطس هذا المنصب ليكون بمثابه المستشار القانونى للوالى او ربما ليكون الرقيب على تصرفاته القانونيه. وكثيرا ما كان الوالى ينيب عنه هذا الموظف الكبير فى نظر القضايا الكثيره التى ترفع اليه. وقد كانت سلطه اليوريديكوس تشمل عموم مصر، وبالتالى فاننا نستطيع ان نشبه منصبه فى هذا المجال بمنصب قاضى القضاة (ارخيديكاستس) Archidikastes على ايام البطالمه. ومما يجدر ذكره ان منصبا قضائيا آخر يحمل هذا اللقب نفسه(ارخيديكاستس) قد بقى فى مصر تحت حكم الرومان لمساعده الوالى، لكن يبدو من الوثائق ان هذا المنصب اصبح مرتبطا كل الارتباط بمدينه الاسكندريه وكان يشترط ان يكون صاحبه من مواطنى هذه المدينه الذين حصلوا على حق المواطنه الرومانيه، كما يبدو انه كان موظفا تنفيذيا موكولا اليه تنفيذ الأحكام مشرفا على دار الوثائق العامه(المحفوظات)Katalogeion بمدينه الاسكندريه. وتعطينا وظيفه الارخيديكاستس هذه مثالا على بقاء بعض الوظائف التى وجدت عند البطالمه بأسمائها فقط مع تغير جذرى فى اختصاصاتها. وفى الشئون الماليه التى كانت تشكل جانبا كبيرا بل اساسيا من اختصاص الوالى، عين لمساعدة الوالى موظفان كبيران حمل احداهما لقب Dioeketes ونستطيع ان نطلق عليه "المتصرف المالى" وحمل الثانى لقب Idios Iogos ونستطيع ان نطلق عليه "مدير الحساب الخاص" ومن الواضح ان كلا من هاتين الوظيفتين كانت معروفه فى نظم البطالمه، غير انه طرأ على اختصاصات كل منها فى الفتره الرومانيه بعض التغيير الذى اقتضاه تغير الأوضاع. ففى العصر البطلمى كان الديويكتيس على رأس الاداره الماليه فكان فى وضع وزير الماليه ولعلنا نذكر ممن شغلوا هذه الوظيفه كمثال ابولونيوس وزير ماليه بطليموس الثانى (فيلادلفوس) اما الاديوس لوجوس فكان فى العصر البطلمى احد مرءوسى الديويكتيس ويختص بجانب من الشئون الماليه، ومن هنا كانت تسميه "مدير الحساب الخاص" تنطبق على طبيعه هذه الوظيفه.

لكنه مع اعتبار والى مصر فى العصر الرومانى رئيسا اعلى للاداره الماليه فان مرتبة وظيفته الديويكتيس هبطت لتصبح من الناحيه النظريه مساويه لوظيفه الاديوس لوجوس. غير انه من الصعب تحديد اختصاصات وظيفه المتصرف المالى فى العصر الرومانى او تحديد علاقتها بالوظيفه الثانيه المذكوره، وقد كان يراعى فى اختيار شاغلها ان يكون من المواطنين الرومان وكان المستحسن بالطبع ان يكون من هيئه الفرسان المتمرسه بالشئون الماليه. والواقع ان معلوماتنا عن وظيفه الاديوس لوجوس(مدير الحساب الخاص) اوفر بكثير، وذلك بفضل تلك الوثيقه المهمه التى اشرنا اليها من قبل اكثر من مره وهى P.Gnomon التى تتضمن القواعد والاحكام الاداريه الخاصه بهذه الوظيفه فى مصر فى العصر الرومانى، حيث يبدو واضحا ان هذه الوظيفه اكتسبت عندئذ اهميه زائده. وكان الامبراطور يعين فيها مواطنا رومانيا من هيئه الفرسان ايضا. ونستطيع ان نقول على وجه الاجمال ان مدير الحساب الخاص كان مختصا بالاشراف على موارد الدخل غير النتظمه او غير العاديه، وبخاصه تلك المتحصله من الاملاك المصادره او التى لا صاحب لها، الى جانب جميع انواع الغرامات الموقعه على مخالفى القواعد الماليه. كذلك كان يختص بالفصل فى قضايا الخزانه العامه، واداره الأراضى التى تؤول الى الدوله حتى يتم بيعها. كذلك اسند اليه الاشراف على أراضى المعابد ودخلها، ومن اجل هذا حمل لقب كبير كهنه مصر بالرغم من انه كان موظفا مدنيا أبعد ما يكون عن الشئون الدينيه. وقد كان يعاون هذين الموظفين الماليين الكبيرين عدد من الموظفين والاتباع يتولون الاشراف على ادارات فرعيه ويحملون لقب وكيل (Procurator باللاتينيه وEpitropos باليونانيه) ومن اهم هؤلاء المشرف على مخازن الغلال بالاسكندريه وكان يشرف على جمع الغلال من اقاليم مصر وارسالها الى الاسكندريه تمهيدا لشحنها الى روما ومنهم ايضا المشرف على املاك الامبراطور الخاصه Procurator usiacus وكانت هذه الاملاك تضم مساحات كبيره من أرض مصر وكان الامبراطور يوليها اهتماما خاصا. وقد كان هذان الموظفان يعينان فى العاده من عتقاء الامبراطور Iiberti (اى من عبيده المحررين) وهم الذين كان الامبراطور يثق فيهم ثقه كبيره ولذلك استخدمهم فى اداره كثير من المرافق الاقتصاديه فى ولايات شتى فى الامبراطوريه .


منقول