المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حماية الخصوصية الجينية فى عقدي التأمين والعمل



dr.mohamedlutfi
03-04-2010, 04:18 AM
حماية الخصوصية الجينية فى عقدي التأمين والعمل

على الرغم من الفوائد الكثيرة التي يحملها أو ُيَبشِر بها العصر الجينومى ، فإن هناك تحفظات كثيرة وأسئلة َتردُ على أذهان المجتمعات والأفراد ، وُمجمل هذه الأسئلة يتعلق بالجوانب الأخلاقية والشرعية والاجتماعية والقانونية التي قد ُيفرزها العصر الجينومى , سيما وأن هذا التقدم العلمي السريع للجينات الوراثية وتطبيقاتها في الميادين المختلفة أدى إلى إثارة العديد من الموضوعات الجديدة التي تتعلق بالقانون والأخلاق والسياسة ، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع.
كما ُيخشى الآن في المجتمعات الغربية التي تتبع سياسة التأمين على الصحة والحياة أن ُيستبعد هؤلاء الأشخاص من التأمين على صحتهم ، إذا استطاعت شركات التأمين الإطلاع على أسرارهم الجينية، وبالتالي هل يتم حرمان هؤلاء الأشخاص من فرص العمل والزواج والتأمين لمجرد أنهم تلقوا موروثات جينية من آباءهم لا دخـل لهـم فيـها ؟ وهل سيوافق رب العمل أن يوظف لديه شخص ما وهو يعلم مسبقاً أنه سيترك عمله في الأربعين من عمره بسبب مرضه ؟.
ومن ناحية أخرى قد يؤدى حماية الخصوصية الجينية فى هذا الشأن إلى تضليل الغير حسنى النية ، إذ قد يتعاملون مع هذا الشخص ثم يفاجئون بأنه يعاني من مرض له أصل جيني ، وأمثلة ذلك : أن ُتبرم شركة تأمين وثيقة تأمين بمبلغ كبير ، وُيخفي طالب التأمين معلومات جينية لها أهميتها في قبول المؤمن لديه للتأمين ، أو أن يقوم أحد الطيارين بكتمان معلومات ُتفيد احتمال تعرضه لمشكلات صحية مستقبلية ؛ خشية تأثير هذه المعلومات على مستقبله الوظيفي ، لا سيما وأن شركات التأمين تعتمد في تحقيق أرباحها خاصة في مجال التأمين على الحياة على الإبقاء على الشخص حياً معافى.
ومع ذلك قد ُيساء استخدام تلك الرخصة ، فالكثير من الاستخدامات غير الطبية للمعلومات الجينية قد تكون ضارة للفرد وتمس بحقوقه دون مبرر ، ومن الأمثلة أيضاً في محيط العمل أن يستخدم صاحب العمل هذه المعلومات بهدف فصل العمال الذين لا تتوافر لديهم المثالية بدعوى أنهم لا تتوافر فيهم الشروط الصحية للعمل ، وكذلك الشأن بالنسبة للمؤمن الذي قد ُيستخدم المعلومات الجينية لحرمان الشخص من الحماية التأمينية للصحة أو الحياة.
وقد نص القانون المدني المصرى في الفقرة الثانية منه على مراعاة هذا الأمر ، وحق شركة التأمين بالنكول أو التعويض لها ، بما يتناسب وحجم التدليس الذى تم من ِقبل المؤمن له ، وبناء على ذلك يكون من حق شركة التأمين الاشتراط على طالب التأمين الفحص الوراثي ، سيما وأنه قد يكون ظهور مرض وراثي سبباً في الامتناع عن التعاقد معه ، أو سبباً في رفع أقساط التأمين.
ويترتب على القيام باختبارات جينية لعقد من عقود التأمين ، أن ُيؤدي إلى تسجيل بعض الأشخاص في قائمة الأشخاص الخطيرة ، إذا كان يوجد بينهم أشخاص يحملون بالفعل بعض الجينات الخطيرة ، في حين أنه ليس هناك ما ُيثبت بأن هذا الجين الخطير قد انتقل إليهم، فبإمكان الاختبارات الجينية أن ُتجنب بعض الأشخاص التعرض إلى دفع أقساط عالية أو إلى رفض إمضاء العقود.
وقد أثارت هذه الفحوص القلق في نطاق التأمين حيث أصبحت مصدر إزعاج ، ومصدر للتفرقة في المُعاملة ، حيث بدأت الدول فى معالجة تلك الآثار الخطيرة للفحص الجينى ، حيث تعهدت شركات التأمين فى فرنسا بعدم اعتبار الخضوع لفحص جيني شرطاً للتأمين ، وعدم طلب نتائج الفحوص التي ربما يكون قد اجتازها طالب التأمين ، وعدم الأخذ بها في الاعتبار إذا قدمها طواعية ، وقد تضمنت المادة (1141) من قانون الصحة العامة تقنيناً لمضمون هذا التعهد ، بحيث أنه لم يعد جائزاً قانوناً لمشروعات التأمين أن تأخذ في الاعتبار المعلومات الجينية التي ُيقدمها طالب التأمين ولا أن تطلب هذه المعلومات.
أما فى المملكة المتحدة فإن استغلال الفحوص الجينية بمناسبة التأمين على الحياة أمرٌ جائز ، ولكن وفقاً لشروط حمايته ، فالخضوع للفحص الجينى ليس شرطاً للتأمين ، ومع ذلك إذا كانت نتيجة الفحص ُتعتبر سبباً لطلب التأمين ، فإن شركة التأمين لها الحق في معرفة هذه النتيجة بشرط أن تكون مؤثرة ، وتحديد ما إذا كانت النتيجة مؤثرة أم لا أمر ُتقدره لجنة مستقلة تنشئها الحكومة ، ولا يثور هذا الأمر بالنسبة لطالب التأمين إلا إذا تجاوز التأمين مبلغاً معيناً ، وإلا فإن التأمين على الخطر لا يتطلب قسطاً إضافياً.
وأما في مجال العمل ، فإن الفحوص الجينية ُتثير تساؤلات من نفس طبيعة التساؤلات في مجال التأمين ، وقد تضمنت المادة 122/45 من تقنين العمل في فرنسا ، النص على مبدأ عدم التمييز فيما يتعلق بالتعيين أو الجزاء أو الفصل ، لكنها ُتستثنى من ذلك التمييز القائم على الحالة الصحية والإعاقة ، إذا كانت هذه أو تلك ُتؤدى إلى عدم التعيين أو الفصل استناداً إلى عدم القدرة الصحية الثابتة طبياً ، وتفهم عدم القدرة على أنها عدم القدرة حالياً وليس مستقبلاً ، لأن عدم القدرة المحتملة لا ُتؤثر على التنفيذ الحالي لأداء العمل.
وفى أمريكا لم يظهر مفهوم " التمييز الجينى " إلا من فترة قصيرة ، لكن هذه المشكلة أصبحت موثقة جيداً ، ففي ما يقرب من 500 حالة فى الولايات المتحدة وحدها ُمنع أفراد وأعضاء أسر من التوظيف أو فقدوا التأمين على حياتهم بناء على إصابتهم باضطرابات وراثية واضحة أو مفترضة ، فنتائج الاختبارات الوراثية ُتدرج عادة فى الملف الطبى للشخص المعنى ، ونحو 30% من جميع طلبات التأمين الفردي فى الولايات المتحدة الأمريكية ُترفض على أسس طبية.
وقد اختلفت خطة تشريعات الولايات الأمريكية قبل القانون الاتحادي لسنة 2003م في النص على الحماية من التمييز القائم على المعلومات الجينية ، فبعض هذه التشريعات ُتنظم استخدام التجارب الجينية فيما يتعلق بقرارات التعيين وإفشاء نتائج الاختبارات الجينية ، وهذه التشريعات تحظر بصفة عامة على الموظفين العموميين أن يطلبوا من المُستخدمين والمتقدمين لشغل الوظائف أن يخضعوا لاختبارات جينية كشرط للتعين.
ثم صدر قانون عدم التمييز الجيني الأمريكي لسنة 2003م الذى وافق عليه مجلس الشيوخ بتاريخ 18 فبراير سنة 2005م ، حيث عاقب على إفشاء أو جمع معلومات جينية لأغراض تأمينية ، وتطبيق هذا القانون يقتصر على مجالي التأمين الصحي والعمل.
كما نص قانون حماية الخصوصية الجينية لولاية إلينوي على كفالة سرية كافة المعلومات والسجلات تحت يد سلطات الولاية أو السلطات الصحية المحلية والخاصة بالمعلومات الجينية ، وأن ُتستثني من أحكام النسخ والفحص المُقررة بقانون حرية المعلومات.
وقد ثار التساؤل كذلك عن مصير المعلومات التي تحتفظ بها الشركات التي تتولى الفحص الجيني ، وما إذا كان تخزين هذه المعلومات يحظى بالخصوصية المناسبة ؛ أم أنها ُعرضة لكشفها من هذه الشركات وإفشاء سريتها للغير أو حتى بيعها لهم ، ولذلك فإن الشارع الأمريكي قد َجرَّم المساس بهذه المعلومات ، إذا كان من شأنه أن ُيفضي إلى التمييز في أهم مجالين ُيمكن أن ُتستخدم فيهما هذه المعلومات وهما التأمين والعمل
وعلى الرغم من أن للمعلومات الجينية أهمية كبيرة بالنسبة للشخص ، فإنه لا تتوافر لها الحماية حتى الآن في نظر الكثير من التشريعات العربية إذ تخلو هذه التشريعات من نصوص تكفل حماية المعلومات الجينية الخاصة بالشخص ، والتي توجد تحت يد الشركات أو الهيئات أو حتى الأفراد من أن ُيعاد استخدامها لغرض آخر غير الغرض المأخوذة من أجله.
إلا أنه يجب على النظام القانوني أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التقدم في مجال الجينات ، لوضع التوصيات اللازمة لاستصدار القوانين اللازمة قبل فوات الأوان ، والوضع في الاعتبار الأبعاد المتعلقة بحقوق الفرد وتحقيق كرامته.
نحن إذن على أعتاب فتحٍ جديد يفتح آفاقاً رحبة أمام الجنس البشرى ، وستكون السمة الغالبة للقرن الحادي والعشرين ، بدرجة تفوق التطورات في العلوم الطبيعية والتقنيات المرتبطة بها في القرن الماضي ، وإزاء هذا الفتح الجديد تجد المجتمعات البشرية نفسها ُمجبرة على إعادة النظر في قيمها الأخلاقية ومبادئها ، لوضع التشريعات المناسبة للحد من غلو الإنسان في عدوانيته واعتدائه على حريات الآخرين ومنها الخصوصية الجينية.
والخلاصة أنه لم ُيعد اكتشاف الذهب أو النفط ، ولا غزو الأراضي واستعمار الشعوب ، هو الذى يوصل إلى القوة الاقتصادية أو الهيمنة الثقافية ، بل ُتوصلناإليها القدرة على كتابة البرامج المعلوماتية وفك رموز الجينات ، أي امتلاك المعرفة في جميع الفروع والتخصصات ، وهو ما يجب أن تفعله الدول العربية والإسلامية ، سيما وأن مادة البحث التي تتعرض لها استخدامات التكنولوجيا الحيوية هي كل الكائنات الحية التي خلقها الله سبحانه وتعالى ، ولأن واجب البحث فيها فريضة إسلامية من أجل اعمار وترقية الحياة على الأرض.