المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فاروق جويده: رموز كاذبة في الغناء والمسرح والسينما



د.عدنان
04-24-2009, 09:41 AM
هوامش حرة
رمــوز كاذبــــة
يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة







كانت مصر دائما تصنع رموزها علي عينها قيمة ودورا ومهابة‏..‏ وكانت دائما قادرة علي أن تفرق بين الغث والثمين‏,‏ وبين النخيل والحشائش‏,‏ وبين الحقائق والأكاذيب‏..‏وكان المصريون لديهم قدرة عجيبة علي فرز معادن البشر بحكم التجربة والوعي واليقين‏..‏ قد يكون البعض نجح أحيانـا في تجميل القبح وتحليل الباطل وخداع البصر وليس البصيرة ولكن مصر كانت دائما قادرة علي فرز معادن البشر‏..‏

من يستعرض مسيرة الحياة علي ضفاف نيلنا الخالد يري الصورة واضحة في كل ملامحها‏..‏

في الثقافة كانت رموز مصر تتجسد في إبداع حقيقي ومواهب فذة في كل المجالات‏..‏ في الشعر كانت أمارته لمصر علي يد أميرها أحمد شوقي دون منازع وخلف شوقي كانت هناك كتيبة من القامات الشعرية التي لم يختلف عليها أحد من حيث التنوع والتميز والأصالة‏..‏

في الغناء حدث ولا حرج‏,‏ فأنت أمام أم كلثوم والسنباطي وعبد الوهاب وعشرات الأصوات الجميلة‏..‏

وفي المسرح وهو فن مصري خالص أنت أمام طليمات ويوسف وهبي وكتيبة من المبدعين العظام الذين جعلوا من المسرح فنا عربيا نصا وإخراجا وأداء‏..‏

وفي الفن التشكيلي أنت أمام تاريخ طويل من العمارة التي كانت ومازالت حديث العالم باختلاف عصورها وتنوع جمالياتها‏..‏

وفي رأس المال مازالت صورة طلعت حرب تجسد الرأسمالية المصرية في أعظم أدوارها‏..‏

وفي السياسة أنت أمام تاريخ حافل من الرموز الحقيقية التي أدت دورها وحملت رسالتها بانتماء حقيقي وصدق شديد مع قضايا الوطن وهمومه‏..‏

إن الشيء الغريب في مصر الآن هو هذه الظاهرة العجيبة في خلق رموز مزيفة‏..‏ أشياء غريبة تحدث في مصر الآن‏..‏ في الفن تجد عشرات بل مئات الأسماء التي صنعتها الأضواء الكاذبة وتراها تتساقط خلف بعضها كأنها ثمار فاسدة‏..‏ والغريب أنك تحاول أن تبحث عن الأيدي التي تحمل هذه النماذج الممسوخة ولا تري شيئـا‏..‏ وتشعر بأنك أمام مؤامرة ضخمة لتقديم أشياء مشوهة كان هدفها تشوية أذواق هذا الشعب وإفساد ذاكرته الفنية والفكرية وهدم ما بقي له من تراث الأصالة والتميز‏..‏

تستطيع ببساطة أن تضع أمامك قائمة طويلة بأسماء كاذبة ومواهب غير حقيقية تسيدت الساحة في الغناء والسينما والمسرح وتحاول أن تقيم هذه المواهب ولا تجد بين يديك غير الرماد‏..‏ حاول أن تسترجع أغنية اشتهرت كثيرا منذ عشر سنوات مضت بل حاول أن تستعيد أغنية مضت عليها شهور قليلة‏..‏ لاشيء يبقي في ذاكرة الناس‏..‏ وإذا ذهبت إلي السينما فسوف تجد عشرات الأفلام ولكن ما القيم التي أضافتها؟‏..‏وما القضايا التي خلفتها ؟‏..‏لا شيء علي الإطلاق‏..‏ وفي بلاط صاحبة الجلالة كانت أسماء الكتاب المصريين مثل قطع الماس تتناثر في عقول القراء فتضيء لهم كل شيء‏..‏ والآن أصبح‏'‏ الردح‏'‏ أسلوبا في الكتابة وأصبحت السطحية والضحالة وسام الرموز الكاذبة واختلطت الأعشاب بالأشجار‏..‏ بالحشائش وتحت كل شجرة عتيقة تجد بعض الطحالب التي صنعتها أيد خفية أو معلومة الله أعلم‏..‏

والأخطر من ذلك تلك الأسماء التي تنطلق في السماء مثل اللعب الفسفورية وتحاول أن تجد فيها بريقـا أصيلا يذكرك بعهود ذهبية للإبداع المصري‏..‏ ولا تجد غير ثمار ضحلة لا طعم لها ولا لون ولا رائحة‏..‏

والأغرب من ذلك كله ما يحدث في دنيا السياسة تجد أسماء غريبة تنطلق أمامك بلا مقدمات وتحاول أن تبحث عن جذورها وأصولها ومحتواها ولا تجد شيئـا‏..‏ هناك أسماء صنعتها أجهزة الدولة أيا كانت هذه الأجهزة وتجد آله الإعلام الجهنمية قادرة بأساليب الإلحاح اليومي علي أن تشكل هذه الرموز لتصبح حديث الناس في الصحف وعلي الشاشات وفي المؤتمرات وعلي النت وتراها في قاعات مجلس الشعب‏..‏ وعلي صفحات الجرائد‏..‏ وربما السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة‏..‏ وتحاول أن تفهم حدود هذه اللعبة ولا تجد من يعينك علي هذا الفهم‏..‏

إن صناعة الرموز المزيفة لم تعد تجارة محلية بل إن هناك مؤسسات دولية تشارك في هذه العملية‏..‏ في السنوات الأخيرة ظهرت في السماء أجسام غريبة تشبه النجوم وفرضت نفسها علي الساحة بالإعلام والضجيج والتضليل والتهويش وتحاول أن تدرس الظاهرة‏..‏ هل هذه النجوم خرجت من طين هذه الأرض أم أنها لعبة مزيفة صنعتها أجهزة وفرضتها سلطة علي حياة الناس وواقعهم‏..‏ وهنا تتشابك الصور والأحداث بين السياسة والبيزنس والفكر والثقافة والدعاية‏,‏ أنها لعبة الأضواء التي تخفي الوجه الحقيقي أمام إبهار يتجاوز كل حدود المقاومة‏..‏ إنها لعبة الرموز الكاذبة التي تحدث في مصر الآن بصورة غاية في البراعة والدقة والتحايل‏..‏

ويتساءل الناس‏:‏ هل ما نري من الرموز يمثل رمزا حقيقيا أم أنها صناعة حكومية جاءت لتؤدي دورا أو تكمل مشهدا لم يكتمل بعد في مسرحية هزلية يخدعون بها السذج والبسطاء من الناس‏..‏

في هذا الوقت وبنفس الصورة تجد رموزا حقيقية تختفي تماما من الساحة أمام محاولات التهميش والإهمال لنجد أنفسنا أمام طابور طويل من الرموز المصنوعة‏..‏ تختفي نجوم حقيقية وتحل مكانها اللعب الفسفورية المزيفة في الفن والكتابة والصحافة والسياسة ورأس المال‏..‏

إن معظم الرموز التي تحيط بنا الآن رموز مصنوعة وتسأل‏:‏ أين الرموز الحقيقية؟‏!‏ ولا تجد إجابة للسؤال‏..‏ أين رموز مثل أحمد زويل والبرادعي وطلبة والقصاص وفاروق الباز ومجدي يعقوب؟‏..‏ أين القضاة العظام والكتاب الأجلاء ورجال الأعمال النبلاء ؟‏..‏ أين أساتذة الجامعات الكبار الذين ماتوا حزنـا وكمدا من الإهمال ؟ وتجد حولك مئات الأسماء من الرموز الحقيقية التي تهمشت وغابت وانسحبت‏..‏

وتدور العجلة الجهنمية الكاذبة لتصنع صخبا وضجيجا حولنا فنشعر بالدوار ولا نجد أمامنا غير صور غريبة لرموز مسخوطة اقتحمت حياتنا في كل شيء وصدقناها رغم كل مظاهر التناقض في كل فصولها‏..‏ ولا أدري علي من تقع هذه المسئولية‏..‏ هل هي السلطة التي تصنع كل رمز كاذب ؟‏.‏ هل هي سذاجة الشعوب التي صدقت؟‏..‏ أم خيانة الصفوة التي عرفت كل شيء ولم تكشف الحقيقة أمام من لا يعرفون‏..‏

إن أسوأ ما في ظاهرة الرموز الكاذبة أننا أحيانـا لا نعرف نقطة البداية حتي نتتبع الخيوط التي تصل بنا إلي حقيقتها ولكننا أمام كيانات عشوائية ومخلوقات هلامية وأعشاب بلا أرض ولا جذور ولا ملامح‏..‏ هناك صفحات كثيرة غامضة في مشوار هذه الرموز وهذا يتعارض تماما مع طبيعة وتكوين كل رمز حقيقي‏..‏ إن الرموز الكاذبة مثل أطفال الأنابيب لا نعرف عنهم شيئـا‏..‏ في السياسة نحن نعرف مشوار مانديلا وغاندي وسعد زغلول ومصطفي كامل ومحمد فريد والنحاس باشا‏..‏

وفي الفن والفكر والثقافة والإبداع‏..‏ كل رمز له جذور معروفة ولكن أمامنا الآن رموز كاذبة لا نعرف أين نشأت وكيف خرجت من أحضان السلطة‏..‏ والسؤال الآن‏:‏ هل أصبح علي كل مصري يحلم أن يكون رمزا حقيقيا في مجال من مجالات الحياة أن يبحث عن سلطة ينشأ في أوكارها أو سفارة تحميه أو جهة تنفق عليه أو لعبة يكمل فصولها كالبهلوان أمام الناس ؟‏!..‏ وكيف تستعيد مصر رموزها الحقيقية بعيدا عن هذا الواقع الملوث الكريه ؟‏!..‏

في كثير من الأحيان أشاهد بعض الوجوه وأتتبع تاريخها فلا أجد صفحة واحدة نقية‏..‏ ويكون السؤال‏:‏ من أي ارض خرجت هذه الحشائش ووقفت تناطح أشجار النخيل؟‏!..‏ قد تتلوث المياه في الأنهار‏..‏ وقد يتلوث الهواء وهو يتسلل في صدور الناس وقد تفسد سلوكيات البشر‏..‏ ولكن الجريمة الأبشع أن تجد الشعوب أمامها رموزا مزيفة وتصدقها وربما سقطت ضحية التحايل والتضليل والخداع‏..‏ وهذه المأساة هي ما نراه الآن علي امتداد الساحة في المال والفن والصحافة والكتابة والسياسة‏..‏ رموز كاذبة صنعتها أيد خفية وتركتها تملأ السماء صراخـا وضجيجا وصخبا‏..‏ وللأسف الشديد الناس تصدق ما تري‏..‏