المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من كتاب : تأملات في دنيا الله --



د.شيماء عطاالله
05-16-2014, 12:21 PM
حب .. إلى الأبد !
ليس أكره عند الله من كهل يعشق .. أو غني يبخل .. أو قوي يضغى ، لأن الإنسان يبلغ غاية قدراته مع رشد الكهولة ، و بسطة الغنى و وفرة القوة .. و لا ينتظر من هذا الذي بلغ أشده أن يقع في النقصان .. و ما يُسامح فيه المراهقون و الصبيان , لا يُسامح فيه الكهول الراشدون .. و لهذا يقول القرآن عن الإنسان ..
" حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ و على والديّ و أن أعمل صالحا ترضاه .." (15_الأحقاف)
و يسمى القرآن الصبوة إلى النساء جهلا , فيقول النبي يوسف شاكيا حاله إلى ربه حينما تكاثرت عليه نسوة مصر يراودنه " و إلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن و أكن من الجاهلين " (33- يوسف )
فيقول لربه : إن لم تصرف عني إغراء هؤلاء النسوة فسوف أضعف بحكم بشريتي و أصبو إليهن و أكن من الجاهلين .
و في هذه الآية لمحة قرآنية عميقة تحتاج لوقفة تأمل .. لماذا تكون الصبوة إلى الجميلات ذوات الفتنة جهالة ؟
و ما الذي جهله ذلك الذي أغرم صبابة و هام جدا ؟
و ما نوع الجهل المقصود ؟
إن المغرم صبابة يمكن أن يكون من حملة الدكتوراة , و يمكن أن يكون وزيرا , و يمكن أن يكون فقيها و يمكن أن يكون عالما , و يمكن أن يكون صوفيا سالكا إلى أهل الله .. فسقطة الحب ليس فيها كبير .. و فتنة المرأة يمكن أن يقع فيها الرجال على تنوع ثقافتهم .
إذن الجهل المقصود هنا ليس الجهل المتعارف عليه .. ليس هو الجهل بالحساب و الكيمياء و الجغرافيا .. و ليس هو الجهل بالفلسفة والفقه و علوم الكلام .. و ليس هو حتى الجهل بالشريعة .. لأن النبي يوسف لو سقط لما كان سقط عن جهل بالنصوص والوصايا .. إنما الجهل المقصود هنا أعمق .. هو جهل بروح الأمر .. و سره و خفاياه .. جهل بروح الشريعة و حكمتها ومقصودها الباطن .
فما هو روح الأمر ؟
و لماذا جهل المغرم صبابة روح الأمر حينما نظر إلى وجه حبيبته فتعلق به , و افتتن و هام و ارتبط بكل همته و عزمه ، و جعل من ذلك الحزن و الجمال شغله الشاغل بالليل و النهار .
إنه جهل تماما _ و بلا شك _ لأنه قد فاتته لغة الله التي كلمه من خلال وجه حبيبته .
فالله يقول له من خلال هذا الوجه أنا الظاهر والباطن و أنا الأول و الآخر .
أنا الجمال الظاهر الذي فتنك فلا تنسبه لغيري .
و انا الحسن و البهاء الذي بهرك فلا تنسبه لحبيبتك و تنساني.. فغدا و بعد سنوات لو نظرت إلى هذه الحبيبة عينها فلن ترى فيها إلا وجها مغضنا .. و خدا هضيما و جلدا مجعدا .. و بالموت سوف تغدو رمة .. فجمالها ليس جمالها و إنما هو جمالي .. و حسنها ليس حسنها و إنما هو حسني .. أنا أعطيته إياها على سبيل الإعارة و الإنعام .. لأنعم عليها و عليك .. و أجمل حياتها و حياتك .. فكيف تنساني و تعطي نفسك كلية لها و تعطني ظهرك و تجتمع عليها بكل قوتك و تتفرق عني !؟
تلك يا عبدي قطيعة بأصل النعمة , و إغفال لليد الحقيقية التي أنعمت و أعطت .
و لأن هذه الصبابة قطعت صاحبها عن الله , و حجبته عن نور ربه ، فقد سماها الصوفي أبو حامد الغزالي سقوطا .. و اعتبر الغرق في حب امرأة واحدة إشراكا بالله .. فلا يصح التوحيد في الحب إلا لله وحده ، و لا يعشق وحده و لا على وجه الإفراد الكامل إلا لله .
و تلك عند الغزالي من أسباب الحكمة الخفية لتعدد الزوجات .
إن المغرم صبابة جاهل لأنه لم يعرف من هو الجميل ؟ إنه غرق في تقبيل نحاس الضريح في حين أن المحبوب الحقيقي هو روح الحسين مثلا .. و تلك وثنية سقط فيها العاشق و لم يدركها .
و كل مغرم صبابة هائم بالشفتين و النهدين .. مشغوف بلثم الخدود والقدود .. هو وثني مادي عابد أصنام .. آنسته الشكليات الجزئية الحاضرة محبوبه الحقيقي .. و آنسته اليد الحقيقية التي كان يلثمها.
و ذلك باب شريف من الغيرة الإلهية .. أن يحرم الله هذه الصبابة .. لأنه يغار على عبده و يراه جديرا بحب أرقى و أعلى .. و لا يحب أن يرى عبده يلحس اليدين و الشفتين مثل كلب يلك عظمة .. و كأنه يقول له : انظر لقد فاتتك وليمة أشرف, و لذات أعظم و شغلت نفسك بالمسائل الدون و لثمت الحجاب , و خلف حجاب الوجه الذي دون جماله كل جمال .. خلف الحجاب وجهي أنا ..
أنا سبحاني خلف الحجاب ..
فانظر إليّ عبدي فإني أنظر إليك .. و أنا في عين كل ناظر , و على لسان كل متكلم , و في سمع كل مستمع , و أنا خلقت العالم من أجلك و خلقتك من أجلي و من أجل أن تنظر إليّ و انظر إليك فلا تنشغل بما هو لك و بما هو في خدمتك و تنسى ما أنت له بحكم رتبتك و وجاهتك .. و إلا فقد نسيت وجاهتك و وجاهتي ، و رضيت لنفسك بدروم الخدم .. بما فيه من ملذات و متع تافهة .. و لو خلدت إلى هذا البدروم و اطمأننت إليه و وجدت نفسك فيه فأنت منه .. و مصيرك في الآخرة بدروم الظلمة و عالم الأسفلين .. و أنا أغار عليك و قد كرمتك بما نفخت فيك من روحي ، و رفعتك عن هذا السفل .. أن تعود فتقع فيه و حفظتك بشريعتي و أوامري و قضيت عليك بالرجم والجلد إن زنيت .. خوفا عليك و حفاظا عليك و لكي أبعدك عن هذا المصير و عن عالم الأسفلين ..و اخفيت رحمتي في عقابي .. فافهم .. افهم اليوم و إلا فما فهمت أبدا .
تلك روح الأمر
و تلك فتنة الحجاب ..
و من وراء الحجاب الوجه الأجمل الأكمل الذي قال عنه سبحانه : " كل شئ هالك إلا وجهه " ( 88 – القصص )
فكل من يرتبط بغير وجه الله يهلك ..
و كل حب لغير وجه الله هو حب هالك ..يقول الله لنبيه في حديث قدسي : " عش ما شئت فإنك ميت و احبب من شئت فإنك مفارقه "
فالفراق و الإحباط و الفشل نهاية كل حب لغير وجه الله .
إنما تكون العلاقة السوية على الأرض بين الرجل و المرأة هي علاقات المودة والرحمة .. و الرحمة تشتمل على الحب المطلوب لعمارة الأرض و نجاح الأسر.. أما الحب صبابة و الجنون غراما .. و الهلاك في مفاتن الخدود و القدود .. فذلك هو الجهل المحظور و هو لثم نحاس الأضرحة .
وقانا الله أن نكون من أهل الصبابة .. و حفظك و حفظني أن نكون من أهل الجهالة في عصر كله جهالة .
..
-- د. مصطفى محمود || كتاب : تأملات في دنيا الله --