المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكومة السودان /ضد/ سيد ميرغني حسب النبي



شمس الدين
03-20-2009, 12:08 PM
المحكمة العليا
القضاة :
صاحب السعادة السيد / خلف الله الرشيد رئيس المحكمة العليا رئيساً
سعادة السيد / د. حسن محمد علوب قاضي المحكمة العليا عضواً
سعادة السيد / محمد الفضل شوقي قاضي المحكمة العليا عضواً


حكومة السودان /ضد/ سيد ميرغني حسب النبي


م ع/ م ك/ 188/ 1974

المبادئ:

قانون جنائي – قواعد عامة – معيار الشخص المعقول – ضوابطه.

1- عندما نقرر ان مستوى محدد هو مستوى الإنسان المعقول في بيئة من البيئات نأخذ في الأعتبار العادات والتقاليد والنظم والقيم التي تميز تلك البيئة ومستواها الفكري.
المحامون :
عبيد حاج علي عن الطاعن

الحكم:
15/4/1975 :
القاضي محمد الفضل شوقي :
جلست محكمة كبرى في مدني برئاسة قاضي الدرجة الأولى عمر ميرغني المنا وأصدرت قرارها يوم 12/12/1974 الذي يقضي بادانة المتهم سيد ميرغني حسب النبي تحت المادة 251 من قانون العقوبات والحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت.
هنالك طعن من محامي المتهم يستند على النقاط التالية :-
النقطة الأولى هي أن موت المجني عليه لم يكن نتيجة راجحة لفعل المتهم وذلك أذا ما طبقنا المعيار الشخصي وليس معيار الإنسان المعقول الذي هو معيار موضوعي أتضح عدم دقته وعدم عدالته لأنه مبنى على أساس أنسان رمزي ولا وجود له وغير محدد الشئ الذي يجعل الأجابة على الأسئلة الخاصة بتصرفاته اجابات جزافية في كثير من الأحيان.
وقد أورد السيد المحامي بعض السوابق أراد بها أن يدلل على التناقض الذي تقع فيه المحاكم عند تطبيقها لمعيار الإنسان المعقول.
أما النقطة الثانية التي أوردها السيد المحامي فتتعلق بالأستفزاز وقد رأى سيادته أن أحجام المتهم عن الأفصاح في طور التحري من المحاولات الجنسية التي أجراها المجني عليه معه لا ينم عن الكذب وأنما يعزي لتردد في التحدث عن أمر يمس سمعته وشرف أسرته وهذا أمر طبيعي ويؤكد صدقه على عكس ما ذهبت له المحكمة وقد جاءت شهادة شاهد الدفاع الثانى مؤكدة لذلك وقد أخطأت المحكمة برفضها لهذه الشهادة لأنها تعتبر أستثناء من القاعدة العامة التي تحرم قبول الشهادات السماعية.
ويرى السيد المحامي أن أدانة المتهم كان يجب أن تكون تحت المادة 253 من قانون العقوبات أما على أساس أن موت المجني عليه كان أمراً محتملاً فقط بالنسبة للطعنة التي أصابته من سكين المتهم ولم يكن مرجحاً – أو على أساس ان المتهم عندما طعن المجني عليه كان واقعاً تحت تأثير أستفزاز خطير ومفاجئ (بعد تراكمه) أصابه من المجني عليه.
الوقائع الجوهرية باختصار هي أن المتهم والقتيل كانا زميلين في الهيئة المركزية للكهرباء والمياه بواد مدني وقبل يوم الحادث ذهب المجني عليه لمنزل المتهم باحثاً عن مفتاح المخزن الذي به معدات الوردية والذي كان يحمله زميل المتهم. ظن المجني عليه أنه سيجده في منزل المتهم وكان المتهم متغيباً عن منزله ولم يعثر عليه المتوفي وأنصرف المتوفي وعاد مرة ثانية ودار بينه ووالد المتهم حديث شكا فيه المجني عليه لوالد المتهم من تصرفات أبنه وأتهمه بانه أصبح سكيراً وأخلاقه فاسدة وطعن في رجولته وغضب والد المتهم غضباً كبيراً وثار ثورة عارمة واعلن عن طرده لابنه المتهم وحرمانه من دخول بيت الأسرة . وفي اليوم التالي حوالي يوم 9/8/1973 شوهد المجني عليه يقف في حوش الإدارة المركزية بواد مدني وهو يتكئ بيده على كتف المتهم ويتحدث معه وفجأة أخرج المتهم خنجراً وطعن به المجني عليه في بطنه وتراجع المجني عليه وهنالك رأى شاهد الإتهام الثاني المتهم وهو يلحق بالمجني عليه الطعنة الثانية في كتفه ثم يهرب – وقد تمت ملاحقة المتهم والقبض عليه وتسليمه للبوليس كما تم نقل المصاب للمستشفى حيث أجريت له عملية ولكنه مات في اليوم التالي أي بتاريخ 10/8/1973 بعد أن حدثت مضاعفات في حالته وصلت حد أصابته بالتهاب رئوي نتج عن الطعنات التي لحقته والصدمة التي أدت لها وذلك حسب التقرير الطبي المبني على نتيجة التشريح.
نبدأ أولاً بالرد على ماورد في مذكرة محامي المتهم عن معيار الإنسان المعقول والأخطاء التي نسبها إليه – هذا المعيار كما ذكر السيد راتنلال في كتابه عن القانون الجنائي بالصحيفة 607 لا غنى عنه لأنه المقياس العادل الوحيد الذي يمكن الركون اليه وبموجبه لا يعطى القانون وزناً لحالات الأشخاص سريعي التهيج والذين يفرطون في الحساسية وكذلك لا يعول على الأشخاص الذين يبالغون في السكينة وعدم التأثر فكلاهما نمط فريد وغير مألوف وهم الأغلبية أما الاكثرية التي يعول عليها والتي على أساسها ينبنى ميزان الإنسان المعقول فهي التي تتأثر في الحد المعقول بحسب المقاييس المتعارفة – وكذلك بالنسبة لحالات الوفاة فان الشخص العادي يعلم أن الطعنات والضربات بالآلات القاطعة أو الصلبة في الأماكن الحساسة تؤدي غالباً للوفاة – فاذا كان هنالك أناس لا يموتون منها فان ذلك يعد خروجاً عن المألوف.
ومن ناحية أخرى نجد أن معيار الإنسان المعقول ليس مطلقاً على علاته كما ذكر السيد المحامي بل أن له ضوابط دقيقة تحدث عنها أيضاً راتنلال في نفس تلك الصفحة حيث قال ما معناه أننا عندما نقرر أن مستوى محدداً هو مستوى الإنسان المعقول في بيئة من البيئات نأخذ في الأعتبار العادات والتقاليد والنظم والقيم التي تميز تلك البيئة ومستواها الفكري والأجتماعي وليس هنالك من سبيل غير ذلك لتحقيق العدالة والتاكد من شيوعها وانطباقها على الجميع في وقت واحد وباسلوب علمي دقيق – وهذا كله لا يعني أغفال المعيار الشخصي والتغاضي عن ظروف المتهم الخاصة وحالته النفسية ولكن هذه محلها اجراءات تقدير العقوبة فهنالك تجد المتسع الذي تستحقه.
نعود الأن لمناقشة اركان جريمة القتل العمد وقد فعلت المحكمة ذلك في دارية وتأن وتوصلت الى ان واقعة الطعن مثبتة ببينات مباشرة ومعترف بها ورابطة السببية متوفرة ووثيقة وقد أدت الطعنتان اللتان اصابتا المجني عليه من خنجر المتهم الى وفاة الأول وان كانت الوفاة قد جاءت متراخية الا أن هذا لا يفصل تلك الرابطة.
عارض الدفاع في الركن الخاص بالقصد الجنائي ورأى ان المتهم لم يكن يقصد أن يقتل المجني عليه ولم يكن يعلم أنه سوف يتسبب في وفاته كامر مرجح وقد جاءت مناقشته مبينة على منطق غير سليم ولا يتوخى العدالة التي تحدثنا عنها الأن . ان الشخص العادي الذي يصر القانون على اعتباره المقياس العادل لوزن التصرفات يعلم تماماً أن الطعن في البطن بأداة حادة يؤدي في الغالب الأعم للوفاة . وأذا فرضنا أن الشخص غير العادي لا يعلم هذه الحقيقة فأن الدفاع لم يثبت لنا أن المتهم كان شخصاً شاذاً وغير عادي أو متخلفاً في التفكير كل الأعتبارات تشير الى أن المتهم شخص عادي بكل معنى الكلمة وأنه كان يعلم بانه بطعنه للمجني عليه كان سيودي بحياته وقد طعنه مرتين في مكانين خطرين وأي مناقشة ترمي الى محاولة إثبات ان المتهم لم يكن يقصد ان يقتل المجني عليه أو لم يكن يعلم أنه سيودي بحياته بتلك الطعنات كأمر مرجح تبدو غير مجدية ولا طائل من ورائها.
جريمة المتهم هي في المقام الأول جريمة قتل عمد ولم تجد المحكمة مجالاً لتطبيق ظرف الأباحة ولا ظرف تجاوز حق الدفاع الشرعي عن النفس فقد كان المجني عليه أعزلاً من كل سلاح ولم يكن في حالة هجوم أو أستعمال للعنف ازاء المتهم كذلك كانت أعتبارات المعركة المفاجئة لا محل لها ، ولكننا نرى في ظروف الحادث حسب البينات التي توفرت ما يفسح المجال لتطبيق ظرف الأستفزاز الخطير على أساس نظرية التراكم ، هنالك في البينات ما يشير الى أن المجني عليه ربما كانت له ميول جنسية نحو المتهم حسب ما ورد في أقوال الأخير التي قبلناها أخذاً بقاعدة تفسير الشك لصالح المتهم وبناء على هذا التفسير نتقبل أيضاً تفسير المتهم الخاص بعدم أدلائه بذلك الجزء من الرواية في طور التحري أستناداً على أعتبارات الخجل التي ذكرها.
لقد تسبب حديث المجني عليه مع والد المتهم في ضرر بليغ له ولاسرته وكان مدى تأثيره بعيداً والحق بالمتهم أذى نفسياً وعائلياً لا يمكن المبالغة في وصفه فقد أدى لطرده من منزلهم وتشريده . على ضوء هذه الخلفيات نقوم الأن بفحص تصرف المجني عليه في يوم الحادث . لقد شاهده شاهد عيان وهو يتكئ على كتف المتهم ويتحدث إليه.
لايهم كثيراً أن نعلم تفاصيل ما دار بينهما من حديث وهل صدق المتهم فيما رواه أو لم يصدق في هذه النقطة . ولكن تصرف المجني عليه بتودده للمتهم على الرغم مما الحقه به من ضرر في اليوم السابق يعد بمثابة تجديد الأثارة العنيفة المتراكمة التي صرحنا تفاصيل حلقاتها من قبل.
لقد كان المتهم في حالة هياج عنيف نتيجة لاستفزاز حاد ومفاجئ عرضته له تصرفات المجني عليه البعيدة والأخيرة وبناء عليه فأن حالته تصلح لتطبيق الفقرة الأولى من المادة 24 من قانون العقوبات وبالتالي تهبط جريمته لمستوى القتل الجنائي ونحن نعدل أدانته للمادة 253 من قانون العقوبات.
ولاغراض العقوبة نأخذ في ناحية التشديد أن الجاني الحق بالمجني عليه طعنتين وليس واحدة ونأخذ في جانب التخفيف صغر سن الجاني والأضرار النفسية التي لحقته من المجني عليه وبموازنتها نعدل عقوبته لأثنى عشرة سنة سجنا أبتداء من 9/8/1973.