المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كلمة القضاة في مصر والموجهة إلى البرلمان الأوروبي



امل
01-24-2009, 12:36 PM
كلمة القضاة الموجهة إلى البرلمان الأوروبي


بسم الله الرحمن الرحيم

أيها السيدات والسادة الضيوف الكرام،

يسعدني أن أرحب بكم في نادي قضاة مصر راجيًا أن يكون لقاؤنا بكم لبنة في بناء تصوركم عن مصر المعاصرة، وآراء النخبة فيها، ومواقفهم من قضايا أمتهم وعلاقاتها بالأمم والشعوب الأخرى.

لقد كان جيل آبائنا من قضاة مصر ومؤسسي علم القانون فيها ينظرون إلى المنهج الأوروبي في التقنين وتنظيم القضاء نظرة تقدير واحترام. واطمأنوا إلى أن معنى العدل في العالم واحد يستشعره الناس جميعًا على سواء، وتأمر به الأديان السماوية كما تأمر به الشرائع الوضعية بغير فوارق تذكر اللهم إلا في طرق الوصول إليه وتحقيقه بين الناس. ولم يكن لدى آبائنا شكٌ في أن أوروبا كانت رائدة في مناهج تحقيق العدل الإداري، وأساليب تحقيق العدل القضائي، ولم نجد غضاضة في اتخاذ تلك المناهج والأساليب تحقيقًا للعدل في بلادنا.

ولم يبدأ ذلك مع التنظيم الحديث للقضاء الوطني فحسب، بل سبقه إرسال البعثات على يد محمد علي باشا، والي مصر، تضم المئات من أبنائها ليتلقوا العلم في معاهد أوروبا، وكانوا مكلفين منه بأن يكتبوا له شهريًا تقارير عما أنجزوه. وقد حاول ابنه إسماعيل، أحد أعضاء تلك البعثات، عندما حكم مصر أن يجعلها نسخة من فرنسا: دستورًا وبرلمانًا وانتخابات نزيهة وجامعة؛ بل ودارًا للأوبرا وكلية فنون ومتاحف ومتنزهات وفرق موسيقية تعزف في الميادين العامة أيام العطلات!!

وقد استمر هذا التقدير للثقافة الأوروبية، والحضارة الأوروبية سائدًا، لا في مصر وحدها بل في العالم العربي كله، إلى أن وقعت الواقعة بيننا وبين أوروبا بقيام إسرائيل، وتمكينها من جزء غالٍ على كل عربي هو أرض فلسطين، فبدأ رأي ينتشر بقوة بين المصريين، والعرب أجمعين، يرى أن الحضارة الأوروبية ـ والأمريكية داخلة في هذا التعبير عند أصحاب هذا الرأي ـ خطرٌ على الإنسانية كلها، وعلى بلادنا بوجه خاص، لأنها حضارة عنصرية تسعى إلى تدمير كل من لا ينتمي إليها، وهي تحكم العدل والحرية في العلاقات بين مواطنيها ولكنها تستبيح الظلم والقهر والخداع في التعامل مع غير المنتمين إليها لاسيما العرب والمسلمين منهم. وهي تتقن استخدام جماعات من غير الأوروبيين في أداء المهام غير الأخلاقية التي لا تحب أن تلقى تبعاتها عليها. فهي أول من استخدم المرتزقة في الحروب ولا تزال تستخدمهم حتى الآن. وهي أول من أنشأ جيوشًا من أبناء المستعمرات. وهي التي أنشأت دولا عنصرية في جنوب أفريقيا وروديسيا، وأبادت أجناسًا بتكاملها كالهنود الحمر (سكان أمريكا الأصليين)، وشعب تَسمانيا (سكان أستراليا الأصليين) وهاهي تحاول معنا على امتداد ستين عامًا من خلال محاولات المحو المنظمة ضد شعبنا في فلسطين.

وأصحاب هذا الرأي، المنتشر بقوة بين المثقفين العرب، يرون أن قرار إنشاء إسرائيل قرار أوروبي محض فكر فيه نابليون في حملته على مصر والشام، وورثه عنه الإنجليز ونفذوه بالفعل، وأن أوروبا خدعت العرب واستخدمتهم في محاربة الخلافة الإسلامية العثمانية بدعوى تأييدها لحق العرب في إقامة دولة موحدة ثم نكلت عن ذلك باتفاقية (سايكس ـ بيكو) التي قسمت العالم العربي إلى دويلات تحكمها عروش متناحرة، وسلمت فلسطين إلى بريطانيا ليصدر بلفور وعده باعتبارها وطنًا قوميًا لليهود، حلا للمشكلة اليهودية في أوروبا!!

وأقول المشكلة اليهودية في أوروبا لأن اليهود لم يكن لهم أية مشكلة في العالم العربي والإسلامي لا قبل الإسلام ولا بعده، فقد قال لنا نبينا: إن من آذى يهوديًا أو نصرانيًا فقد آذاه (أي آذى النبي نفسه صلى الله عليه وسلم )، وقد مات النبي ودرعه مرهونة عند يهودي، وأنفق خليفته عمر من الميزانية العامة للمسلمين على فقراء اليهود، وتنازع خليفته وابن عمه علي مع يهودي فاحتكما إلى القاضي فحكم ضد علي. ولم تكن هناك مشكلة في العالم العربي والإسلامي لأصحاب أي دين أو ملة أو قومية في أي مرحلة من مراحل تاريخنا إلى أن جاء الاستعمار فصنع صنيعه في دق أسافين الفرقة بين الشعوب والجماعات الدينية والعرقية إعمالا للمبدأ القبيح العريق: فرِّق تَسُد!!

لقد عاينت أوروبا بنفسها كيف قدمت الدولة الإسلامية الحماية ليهود الأندلس عندما اعتدي عليهم وعلى المسلمين باسم المسيح البريء من كل عدوان وظلم. ولا ريب أن المشكلة اليهودية هي مشكلة أوروبية محض. وأنتم تعرفون تاريخ محاكم التفتيش في الأندلس، كما تعرفون من ارتكب الهول وكست في القرن العشرين وشارك فيه، وكان الحل الأوروبي لهذه المشكلة هو توظيف من يشاء من يهود أوروبا في شن حرب على العرب والمسلمين مع إغرائهم بأن فلسطين ستكون وطنًا خالصًا لهم. وهكذا كان وزودت إسرائيل بالمال والسلاح بما في ذلك القنبلة النووية، وظن حكامها أن العالم العربي سيظل مستباحًا لهم، أو كما قال منا حم بيجين: «من طنجة إلى جاكرتا». وأن حدود وطنهم تتسع لكل ما يستطيع أن يدافع عنه جيشهم كما قال ديفيد بن جور يون. وأنه لن يكون لعربي ولا مسلم، في هذه المناطق كلها، حق ولا حرمة، وأن حكام العرب والمسلمين سيكونون عونًا لإسرائيل، ومن تمرد منهم فستحطمه الدول الكبرى بنفسها. هذا، أيها السادة، هو سر الحرب على عبد الناصر، وسر تدمير العراق، وسر معاقبة إيران وسوريا، وسر الموقف الذي كان متخذا إلى وقت قريب من ليبيا(!) ومن تعذر تحطيمه فيكفي أن يوصم بالإرهاب ليحول ذلك بينه وبين الاستمرار في مقاومة إسرائيل. وقد زادت الدول العظمى على ذلك بإفشال كل محاولة للتقارب في العالم العربي(!)

إن أصحاب هذا الرأي يقولون لي: ما جدوى لقاء قضاة مصر بممثلي البرلمان الأوروبي؟؟

ألا يعرفون هؤلاء أن أرض فلسطين تبنى عليها المستوطنات كل يوم؟ وأن المساكن التي بنتها وكالة غوث اللاجئين في القدس تزال لاستكمال تهويدها؟ ألا يعرفون بأمر الجدار العنصري الذي أدان إنشاءه قرار محكمة العدل الدولية؟ ألا يعرفون بالحواجز التي تمنع حركة الفلسطينيين والحصار المفروض على غزة حتى من الحكام العرب أصدقاء أوروبا وأمريكا حتى باتت يسودها الظلام، وخلت مخابزها من الطحين وتلوثت مياه الشرب بمياه الصرف؟؟

يقول لي أصدقائي من أصحاب هذا الرأي: هل ستحدثون وفد البرلمان الأوروبي عن ميثاق الأمم المتحدة المنتهك في بلادنا على يد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني؟ هل ستذكرونهم بميثاق عصبة الأمم وحقوق الشعوب التي كانت موضوعة تحت الوصاية أو الانتداب؟؟

هل ستسألونهم عن مصير السجلات الرسمية لأملاك الفلسطينيين؟ أو عن انتهاك اتفاقيات جنيف الخاصة بحقوق الإنسان القانون الإنساني الدولي وجرائم الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي، وكل ذلك كائن يوميًا في أرض فلسطين المحتلة، وفي غيرها من أوطان العرب التي يقدم حكامها وذوو النفوذ فيها كل يوم علامات الصداقة والمودة لأوروبا وأمريكا وحكامهما؟

هل ستسألونهم عن المحكمة الجنائية الدولية ومشغلتها العظيمة في القبض على الرئيس البشير جزاءًا لما يجري في دارفور؟

ويقولون: هل ستصدقون الأوروبيين في إدانتهم للتعذيب وحكوماتهم ترسل المعتقلين العرب إلى بلادنا لتحقق معهم سلطاتهم بطريقتها ثم تعيدهم إليها؟ هل ستصدقونهم إذا ادعوا الحرص على سلامة الانتخابات بعد الذي حدث في الجزائر، والذي حدث في فلسطين عندما طلب بعضهم من إسرائيل اعتقال من أتت بهم الانتخابات التي أشرف عليها الأوروبيون أنفسهم؟

هل ستصدقون أقوالهم عن حقوق المواطنة وحرية العقيدة وهم الذين يتعهدون حتى اليوم بالمحافظة علي يهودية الدولة في إسرائيل، وهو تعهد لا يعني إلا إطلاق يد إسرائيل في إبادة العرب، وطردهم من ديارهم، وحرمانهم من الحق الإنساني في العودة إلى بيوتهم؟ إنهم يسألون: لماذا ترفض أوروبا أن تكون فلسطين دولة موحدة لسكانها جميعًا عربًا ويهودًا، مسلمين وغير مسلمين، أليس سر هذا الرفض أن حل المشكلة الفلسطينية يؤدي إلى السلام في المنطقة والعالم على حين أن أوروبا وأمريكا حريصتان على أن تبقى إسرائيل دولة تحارب العرب؟؟

أيها السيدات والسادة، إن عملنا القضائي علمنا أن يكون لنا موقف عادل منصف من كل قضية لا نخضع فيه لهوى ولا نستجيب فيه لإغراء ولا نقع فيه أسرى لإغواء ترهيبًا كان هذا الإغواء أم ترغيبًا. لذلك أقول لكم، والحق أقول: إن قضاة مصر، كما قلت لمن حاورني سيحسنون استقبال الوفد البرلماني الأوروبي، ويشكرون له قدومهم إليهم. ويقدرون ما قدمته إلينا أوروبا من علم وفكر ومبادئ ونظم لا نزال نستفيد بها. وقلت لهم إنني سأنقل إليكم رأيهم، وما يرددونه من ضيقهم من سياسات حكوماتهم، وما تبديه من ضعف مواجهة القوى العظمى دعاها إلى حضور مؤتمر أنابولس، أو مؤتمر نيويورك لحوار الأديان، أو مناقشة ما يسمى بخارطة الطريق، وغيرها من مبادرات يتلهى بها في الوقت الذي تغتصب فيه الأراضي وتجري على قدم وساق الشعبين الفلسطيني والعراقي.

وقلت لمن حاوروني إنني سأخبركم أن كل قضاة مصر العالم العربي وشعوب الأمة العربية يؤيدون حق الشعب الفلسطيني وحق الشعب العراقي، وحق كل شعب محتل بلده في الكفاح المسلح ضد كل من يستبيح أرضه، ويرون أن هذا هو السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق السليبة والكرامة المهدرة. إن شعوب الأمة العربية، والقضاة في طليعتها يحترمون منظمات ومؤسسات عديدة للمقاومة تصفها الحكومات الأوروبية، وتدرجها في قوائمها، على أنها منظمات إرهابية. وإذا كان القضاة يتحفظون على بعض الممارسات المحدودة الناشئة عن انفلات بعض الأفراد، أو شعورهم باليأس والإحباط، فإنهم يرون أن استمرار العدوان على الشعب الفلسطيني واحتلال أراضي سوريا ولبنان والعراق هو المصدر الرئيسي لنمو الحركات الإرهابية. وما كان لحكومات الدول العربية أن تشارك فيما يسمى بالحرب على الإرهاب قبل التوصل لإزالة العدوان الواقع على الأمة العربية.

وقضاة مصر يؤكدون أن إقامة اليهود في بلاد المسلمين والعرب لم تكن مشكلة في أي وقت من الأوقات، ولن تكون مشكلة في مقبل الأيام. المشكلة الحقيقية تتمثل في قيام دولة يهودية مؤسسة على غصب أراضي الغير وسلب حقوقهم ونهب خيرات بلادهم. ومهما يكن ما يقال في المؤتمرات الدولية، وما يقدم من مبادرات ويعقد من اتفاقات، وبصرف النظر عن الاختلال الفادح في ميزان القوى فإن السلام والأمن لا يمكن أن يسودا المنطقة والعالم إلا إذا تم العدول عن فكرة يهودية دولة إسرائيل، وتحققت عودة الفلسطينيين إلى ديارهم وأموالهم.

والقضاة يدينون حصار غزة، وإغلاق معبر رفح، الذي بدأ فور إعلان نتيجة انتخابات 2006 التي خاضتها القوى السياسية الفلسطينية لأنها خُدعت في الشعارات الأوروبية عن الديمقراطية والانتخابات النزيهة، فاختار أهل فلسطين لحكمهم جماعة ترفض الاستسلام لمشروعات القوى العظمى للتسوية التي تسلبهم حقهم في العودة إلى ديارهم وجانبًا من أراضيهم. كما يدينون بيع الغاز لإسرائيل، وتقديم أي دعم لها من أية جهة كانت وهي تحتل الأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان. وقد قرر قضاة مصر عقد مؤتمر خلال شهرين من الآن ليدارسوا ما ينبغي عليهم فعله للإسهام في رفع الحصار عن فلسطين، وبوجه خاص عن غزة، ووقف جريمة الإبادة الجماعية التي تجري تحت سمع العالم وبصره. وقد كلفوا القاضي أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض بالتحضير لهذا المؤتمر، فقام بإعداد هذه الكلمة، بعد استطلاع رأي زملائه من القضاة، وغيرهم من أهل الاختصاص المدعوين للمشاركة في هذا المؤتمر. سوف تكون هذه الكلمة ورقة من أوراقه الأساسية.

وقضاة مصر يدعون ممثلي البرلمان الأوروبي للمشاركة في هذا المؤتمر وإبداء رأيهم فيما سلف. والقضاة واثقون من أن إسهامكم مفيد حتى لو اختلفنا في الرأي، ذلك أننا نعتقد ـ بصرف النظر عن رأينا في سياسات الحكومات الأوروبية ـ أن أكبر مزايا الحضارة الأوروبية أنها تحترم العلم والعقل والرأي الآخر، وأنها حريصة على مظهرها الأخلاقي حرصها على مصالحها، وأنها قادرة على ابتكار الحلول المناسبة كما فعلت في مشكلة جنوب أفريقيا ومشكلة أيرلندا الشمالية.

ونؤكد هذه الدعوة لكم بما تعلمناه من القرآن الكريم من أن الله سبحانه قد خلق الشعوب لكي تتعارف، وأن الآخرين ليسوا سواءً فمنهم من يسارع في الخيرات ويأمر بالحق والعدل، وينهى عن الظلم ويحب للناس ما يحبه لنفسه.

وفي الختام أرى من واجبي أن أطلب إليكم نقل تقدير قضاة مصر لقرار البرلمان الأوروبي الصادر بتاريخ 17/1/2008 بشأن حقوق الإنسان في مصر، وما جاء فيه من تقدير لدور القضاة المصريين وفهم دقيق لمطالبهم أعتقد أنه مستمد من زيارتكم الأولى لنادينا هذا بتاريخ 21/11/2006م. ولقد قابلنا قرار البرلمان الأوروبي بما يستحقه من تقدير، ونتطلع أن تكون لزيارتكم الحالية نتائج مماثلة.

ونشكركم على زيارتكم لنا ونتمنى لكم وقتًا طيبًا في ربوع مصر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



القاضي



زكريا أحمد عبد العزيز



رئيس نادي قضاة مصر



[التاريخ: 26 \ 11 \ 2008]