المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " عِنْدَمَا تَرْقُصُ الرِّيَاحُ لاهِيَةً " قصة قصيرة للشاعر الكبير الدكتور عزت سراج



صفاء عطاالله
02-06-2011, 10:55 PM
عِنْدَمَا تَرْقُصُ الرِّيَاحُ لاهِيَةً

فِي الثَّامِنَةِ صَبَاحًا ، يُسْرِعُ عَلِيٌّ حَامِلاً رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، دَافِعًا قَلْبَهُ أَمَامَ رِجْلَيْهِ ، مُتَّجِهًا نَحْوَ مَوْقِفِ السَّيَّارَاتِ الْمُتَّجِهَةِ إِلَى طَنْطَا ، مُتَذَكِّرًا رَئِيسَ مَكْتَبِهِ السَّمِينَ ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى الصُّورَةِ فِي أَعْلَى الْجِدَارِ ، مُهَدِّدًا بِالْفَصْلِ ، وَإِلْقَائِهِمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ يَدْعُونَ هُنَالِكَ ثُبُورًا ، مُنْذِرًا فِي حِدَّةٍ نَاظِرًا إِلَيْهِمْ فِي اشْمِئْزَازٍ سَاخِطًا فِي غَضَبٍ :
ـ لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا !
000000
000000
000000
الْقَرْيَةُ الْكَبِيرَةُ تَبْدُو كَامْرَأَةٍ فِي السَّبْعِينَ ، ابْيَضَّ شَعْرُهَا ، وَتَرَهَّلَ جِلْدُ وَجْهِهَا الْمُنْكَمِشُ عَلَى الْعِظَامِ الْهَشَّةِ الْبَارِزَةِ ، تَمْلأُ ـ مَا بَيْنَهَا مِنْ نُتُوءَاتٍ ـ أَحْزَانُ السِّنِينَ الطَّوِيلَةِ ، وَانْتِظَارِ لْحْظَةِ النِّهَايَةِ 000
الشَّوَارِعُ تَضِيقُ عَلَى بُيُوتِهَا الطِّينِيَّةِ الْمَزْحُومَةِ بِالصِّغَارِ الْجَائِعِينَ فِي غَيْرِ صَمْتٍ ، وَالأَرْصِفَةُ تَمْشِي عَلَى رُؤُوسِ الْعَابِرِينَ الشَّارِدِينَ الْمُتَرَقِّبِينَ صَهِيلَ الْخُيُولِ الَّتِي لا تَجِيءُ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ 000
تَزْدَحِمُ الْمَحَطَّةُ الْكَئِيبَةُ بِالْوُجُوهِ الشَّاحِبَةِ الْبَاحِثَةِ عَنْ بَقَايَا ظِلٍّ تَخْتَبِئُ تَحْتَهُ مِنْ لَهِيبِ الشَّمْسِ الْحَارِقَةِ 000
تَمْتَزِجُ رَائِحَةُ الْعَرَقِ بِالأَوْجَاعِ الْمَخْنُوقَةِ ، وَدُخَانِ السَّيَّارَاتِ الْقَدِيمَةِ ، وَأَبْخِرَةِ الْفُرْنِ الْمُجَاوِرِ ، وَهَمْهَمَاتِ الْمُنْتَظِرِينَ ، وَصَيْحَاتِ بَائِعِي اللُّبِّ ، وَطَقْطَقَةِ أَكْوَابِ عَصِيرِ الْقَصَبِ الْمُثَلَّجِ ، وَرَنِينِ صُنُوجِ بَائِعِ الْعُرْقُسُوسِ الْمُنْعِشِ 000
يَتَلَفَّتُونَ نَحْوَ النَّخْلَةِ الصَّامِتَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، يَتَطَلَّعُونَ فِي دَهْشَةٍ إِلَى جَرِيدِهَا الْمُتَشَابِكِ تَرْقُصُ فَوْقَهُ الرِّيَاحُ لاهِيَةً 000
000000
000000
000000
تَتَعَالَى فَوْقَ الضَّوْضَاءِ الْمُتَدَاخِلَةِ صَرْخَةُ شَابٍّ فِي الْعِشْرِينَ ، تَرْتَفِعُ مَخْنُوقَةً مَبْحُوحَةً فَوْقَ الأَحْزَانِ 000
يَسْقُطُ مُرْتَطِمًا بِالأَرْضِ ، يَفْقِدُ وَعْيَهُ ، يَتَمَدَّدُ فَوْقَ بَطْنِهِ الْمُرْتَعِشِ ، مُهْتَزًّا كَثَوْرٍ مَذْبُوحٍ تَسِيلُ دِمَاؤُهُ فَوْقَ السِّكِّينِ الْبَارِدِ ، مُخْرِجًا أَنْفَاسَهُ الأَخِيرَةَ ، نَابِضَةً أَوْصَالُهُ ، مُمْسِكَةً بِبَقَايَا الرُّوحِ الْهَارِبَةِ 000
مُخْتَنِقًا يَسْوَدُّ الْوَجْهُ كَقِطْعَةِ فَحْمٍ ، تَتَصَلَّبُ عَيْنَاهُ الزَّائِغَتَانِ كَحَجَرَيْنِ اصْطَدَمَا فَاشْتَعَلا 000
تَتَشَنَّجُ ـ فِي وَجَعٍ ـ عَضَلاتُ الْجَسَدِ هَائِجَةً لا تَتَوَقَّفُ 000
يُهَرْوِلُ عَلِيٌّ وَحْدَهُ ، يَدْفَعُهُ فِي إِصْرَارٍ نَحْوَ جَنْبِهِ الأَيْمَنِ 000
ضَاغِطًا عَلَى رِئَتَيْهِ ، يَفْتَحُ فَمَهُ الْمُغْلَقَ ، دَافِعًا بِالْهَوَاءِ ، مُتَشَبِّثًا بِاللَّحْظَةِ الْبَاقِيَةِ 000
صَارِخًا فِي الْوُجُوهِ الْمَدْهُوشَةِ أَنْ يُسْرِعَ أَحَدُهُمْ يُمْسِكُ يَدَهُ 000
تَمُرُّ الدَّقَائِقُ بَطِيئَةً فَوْقَ عَقَارِبِ السَّاعَةِ الْمُعَلَّقَةِ فَوْقَ الْجِدَارِ الْمَشْرُوخِ 000
يُفِيقُ مَذْهُولاً كَمَيِّتٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْقُبُورِ حَامِلاً جَسَدَهُ ، بَاحِثًا عَنْ بَيْتِهِ الْقَدِيمِ 000
يَرْغُو فَمُهُ كَجَمَلٍ يَلْهَثُ فَوْقَ الرِّمَالِ السَّاخِنَةِ لا يَهْتَدِي فِي وَسَطِ الصَّحْرَاءِ إِلَى طَرِيقِ الْوَاحَةِ ، يِخِبُّ وَرَاءَ السَّرَابِ 000
يَفْزَعُ فِي شُرُودٍ مُمْسِكًا قَبْضَةَ الْحَقِيبَةِ ، يَكْسِرُهَا حَانِقًا 000
سَائِرًا نَحْوَ الْبَيْتِ يَسُبُّ أَشْبَاحَ الطَّرِيقِ ، لاعِنًا صَمْتَ الأَرْصِفَةِ 000
يَفِرُّ مُنْكَسِرًا ، يَخْتَفِي وَرَاءَ السَّيَّارَاتِ 000
000000
000000
000000
مُتَّكِئًا عَلَى أَوْجَاعِهِ يَنْهَضُ عَلِيٌّ مُتَأَمِّلاً هَذَا الآخَرَ الَّذِي تَسَمَّرَتْ نَظَرَاتُهُ فِي شُحُوبٍ ، لا يَرِفُّ لَهُ جَفْنٌ ، تَمِيلُ رَأْسُهُ عَلَى كَتِفِهِ فِي غَيْبُوبَةٍ قَصِيرَةٍ 000 يَنْقَطِعُ تَيَّارُ الْوَعْيِ 000
ـ أَنْتَ ، هِيهِ ! مَا بِكَ ؟ يَا اللهُ !
يَهُزُّ جَنْبَيْهِ فِي رِفْقٍ مُحَاوِلاً أَنْ يَعُودَ بِهِ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ دُونَ جَدْوَى 000
يَتَثَاءَبُ الْوَاقِفُونَ فِي خُمُولٍ يَنْتَظِرُونَ 000
يَجْمَعُونَ 000
يَطْرَحُونَ 000
يَقْسِمُونَ 000
يَضْرِبُونَ 000
يَعُدُّونَ الْعَابِرِينَ 000
يَتَلَفَّتُونَ يَمْنَةً ويَسْرَةً 000
يَضْحَكُونَ 000
يُقَهْقِهُونَ فِي انْكِسَارٍ 000
يُتَمْتِمُونَ فِي حُرُوفٍ مَمْطُوطَةٍ تَأْتِي مِنْ ذَاكِرَةٍ مَطْمُوسَةٍ 000
يُعِيدُونَ دُرُوسَ الْكِيمِيَاءِ حِينَ تَخْتَلِطُ بِأَبْيَاتِ قَصِيدَةٍ فَرَّ صَاحِبُهَا مِنْ سِجْنِ السُّلْطَانِ ذَاتَ مَسَاءٍ فِي لَيْلَةِ عِيدٍ 000
كَمُومِيَاوَاتٍ يَفْقِدُونَ مَلامِحَهُمْ 000
يَجْرُونَ وَرَاءَ الأَشْبَاحِ 000
يَجُرُّونَ ـ خَلْفَهُمْ فِي غَرَابَةٍ ـ مَخَاوِفَ الْكَهْفِ الأَسْوَدِ السَّحِيقِ 000
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ 000
يَشَمُّونَ ـ جَائِعِينَ ـ رَائِحَةَ الْخُبْزِ الْمَحْرُوقِ فَوْقَ النِّيرَانِ 000
يَسْمَعُونَ ـ فِي فَزَعٍ ـ أَصْوَاتَ مَلائِكَةٍ لا تَتَنَزَّلُ بِالْبُشْرَى 000
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 000
كَكَابُوسٍ لا يَنْتَهِي يَبْدُو الْمَشْهَدُ فَوْقَ رَصِيفِ الْمَحَطَّةِ 000
000000
000000
000000
تَتَقَدَّمُ لَيْلَى فَاتِنَةً تَرْقُصُ عَارِيَةً مُتْعَبَةً 000
فِي قَلَقٍ تَجْرِي حَافِيَةً وَرَاءَ صَوْتِ صَغِيرِهَا الْبَعِيدِ 000
تَسْقُطُ فَوْقَ الرَّصِيفِ 000
يَتَرَاجَعُ عَلِيٌّ نَحْوَ الْبَيْتِ كَقِزْمٍ يَقْرِضُ أَصَابِعَهُ النَّحِيفَةَ ، مُمْسِكًا أَضْلاعَهُ فَوْقَ الْجُرُوحِ 000
مُرْتَجِفًا تَطْحَنُهُ صَرَخَاتُ الْمَوْجُوعِينَ 000
تَتَدَاخَلُ أَصْوَاتُ الْبَاعَةِ الْجَوَّالِينَ ، وَطَقْطَقَةُ الأَكْوَابِ الْفَارِغَةِ ، وَرَنَّاتُ الصُّنُوجِ النُّحَاسِيَّةِ الْخَائِفَةِ 000
هَارِبًا يَفِرُّ فَوْقَ جُثَثِ الْمَفْزُوعِينَ 000
مَخْنُوقًا تُطَارِدُهُ تِلْكَ النَّخْلَةُ الصَّامِتَةُ 000
تَرْقُصُ ـ فَوْقَ سَعَفِهَا ـ الرِّيَاحُ لاهِيَةً فِي جُنُونٍ 0

هدي السماك
02-07-2011, 06:44 AM
اشكرك استاذه صفاء على حسن ودقه اختيارك وسلمت يداك ياسراجنا وشاعرنا العظيم لما كتبته وما تقدمه من اعمال جديده وقيمه لك منى احلا الامانى التى تحبها