المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فِي انْتِظَارِ عُرْوَةَ وَالشَّنْفَرَى بَيْنَ الأَطْلالِ للشاعر الكبير د/ عزت سراج



صفاء عطاالله
02-05-2011, 04:45 PM
فِي انْتِظَارِ عُرْوَةَ وَالشَّنْفَرَى بَيْنَ الأَطْلالِ الْقَدِيمَةِ




فِي صَبَاحٍ غَيْرِ مُشْرِقٍ ، تَلَبَّدَتْ سَمَاءُ سَرَاةِ عُبَيْدَةَ بِالْغُيُومِ الْمُتَقَارِبَةِ الَّتِي أَوْشَكَتْ أَنْ تَسْقُطُ أَمْطَارُهَا الْغَزِيرَةُ عَلَى بُيُوتِ الْمَدِينَةِ الْمُتَنَاثِرَةِ ، كَقِطَعِ أَثَاثِ الْبَيْتِ حِينَ غَادَرَتْهُ زَوْجَةُ عُمَرَ الْجَمِيلَةُ ، عَائِدَةً إِلَى مِصْرَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنَ الْغُرْبَةِ وَالْعُزْلَةِ مَعَهُ فِي مَدِينَةٍ تَرْتَفِعُ ثَلاثَةَ آَلافِ مِتْرٍ فَوقَ سَطْحِ الْبَحْرِ ، تُحِيطُهَا الْجِبَالُ غَيْرُ الْخَضْرَاءِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ 000
الْمَدِينَةُ هَادِئَةٌ كَجَزِيرَةٍ غَارِقَةٍ فِي الْمُحِيطِ ، وَبَعْدَ الثَّامِنَةِ مَسَاءً لَيْسَ ثَمَّةَ مَنْ يُقَابِلُكَ فِي الطَّرِيقِ إِلا أَسْرَابُ الْعَقَارِبِ وَالْحِدْآنِ ، وَقَطِيعٌ مِنَ الْحَمِيرِ الْبَرِّيَّةِ الشَّارِدَةِ لا تَدْرِي إِلَى أَيْنَ تَسِيرُ ، وَبَعْضُ الْقُرُودِ الْهَارِبَةِ مِنْ قَسْوَةِ بَرْدِ الْجِبَالِ 000
الْمَدِينَةُ مُوحِشَةٌ ، كَقَلْبِ امْرَأَةٍ دَمِيمَةٍ ، فِي الْخَمْسِينَ ، مَاتَ وَحِيدُهَا ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا طِفْلاً ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَمْسَحُ عَلَى كَتِفَيْهَا لِيُخَفِّفَ أَوْجَاعَهَا حِينَ يَدْخُلُ اللَّيْلُ الْبُيُوتَ ، مُتَسَلِّلاً يَسْرِقُ فَرْحَةَ النَّهَارِ وَأُنْسَهُ ، يَجْثُمُ فَوْقَ قُلُوبِ الأَرَامِلِ هَابِطًا ، كَسُيُولِ السَّرَاةِ فِي مَوْسِمِ الشِّتَاءِ 0000
الْمَدِينَةُ بَارِدَةٌ مُمْطِرَةٌ طَوَالَ فُصُولِ السَّنَةِ ، تَحْبِسُ سَاكِنِيهَا فِي غُرَفِ النَّوْمِ لَيْلَ نَهَارَ 000
000000
000000
000000
الطَّرِيقُ إِلَى الْكُلِّيَّةِ ـ عَلَى قِصَرِهِ ـ مَوْصُولٌ بِالْمَخَاوِفِ وَالْهَوَاجِسِ وَالأَوْهَامِ ، وَلَوْعَةِ الشَّوْقِ إِلَى الأَهْلِ ، وَالاشْتِيَاقِ إِلَى شَوَارِعِ الْقَرْيَةِ ، وَحَارَاتِهَا الْقَدِيمَةِ الضَّيِّقَةِ ، وَالْحَنِينِ إِلَى مَلاعِبِ الصِّبَا ، وَمَرَاتِعِ الطُّفُولَةِ 000
000000
000000
000000
فِي الصَّبَاحِ يَنْدَفِعُونَ إِلَى حُقُولِ التُّفَّاحِ الْمُتَرَامِيَةِ مَا بَيْنَ الْبَحْرِ وَالتُّرْعَةِ ، مُطْلِقِينَ الْعِنَانَ لِلأَقْدَامِ الْخَفِيفَةِ فَوْقَ فَدَادِينِ الْخَسِّ النَّدِيَّةِ ، وَالْخِيَارِ الطَّازَجِ ، سَارِحَةً أَبْصَارُهُمْ فِي حُقُولِ الْكُرُنْبِ وَالْقَرْنَبِيطِ الْخَضْرَاءِ ، كَقَلْبِ الأُنْثَى حِينَ تُحِبُّ صَادِقَةً 000
وَبَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ ، تَمْتَلِئُ الْمَلاعِبُ بِصِيَاحِهِمْ وَعُنْفُوَانِهِمْ وَلَهْوِهِمُ الْبَرِيءِ حَتَّى الْغُرُوبِ 000
وَفِي الْمَسَاءِ تَجْمَعُهُمُ الْحِكَايَاتُ أَمَامَ الْبُيُوتِ النَّاعِسَةِ ، كَزَنَابِقَ فِي صَحْرَاءَ تَكْتَفِي بِأَنْدَاءِ الْفَجْرِ وَأَنْسَامِ الْمَغِيبِ 000
000000
000000
000000
ـ عَلَيَّ أَنْ أُسْرِعَ قَبْلَ الْمُحَاضَرَةِ الأُولَى ، مَانِحًا رُوحِي بَعْضَ الْوَقْتِ ، لِتَعُودَ مِنْ تَطْوَافِهَا اللَّيْلِيِّ فَوْقَ مَنَازِلِ أَحْبَابِهَا ، نَاشِرَةً عِطْرَهَا الْوَرْدِيَّ عَلَى السَّاكِنِينَ فِي سَلامٍ 000
يَبْدَأُ عُمَرُ مُحَاضَرَةَ الأَدَبِ الْجَاهِلِيِّ ، لِتَظَلَّ رُوحُهُ مُحَلِّقَةً فَوْقَ الأَطْلالِ ، وَاقِفَةً تَبْكِي الدِّيَارَ ، تَسْتَعِيدُ ذِكْرَى مَنْ رَحَلُوا ، وَمَنْ فَارَقُوا ، وَمَنْ خَانُوا ، وَمَنْ غَابُوا 000
يَدْخُلُ الْقَاعَةَ شَابٌّ قَوِيُّ الْبِنْيَةِ ، تَجَاوَزَ الثَّلاثِينَ ، رَثُّ الثِّيَابِ ، مُغْبَرُّ الْوَجْهِ ، تَبْدُو أَمَارَاتُ الذَّكَاءِ فَوْقَ مَلامِحِهِ الْحَزِينَةِ 000
ـ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَرِيحَ خَارِجَ الْقَاعَةِ بَعْضَ الْوَقْتِ حَتَّى أُنَظِّفَهَا !!
ـ أَنْتَ الْكَنَّاسُ الْجَدِيدُ ؟
ـ نَعَمْ
ـ لَكِنَّكَ تَبْدُو 000
ـ أَنَا حَاصِلٌ عَلَى بَكَالُورِيُوسِ التِّجَارَةِ مِنْ جَامِعَةِ الْقَاهِرَةَ 000
ـ مَا اسْمُكَ ؟
ـ خَدَّامُكَ صَبْرِي
ـ وَمَا الَّذِي يَدْفَعُكَ إِلَى أَنْ تَكْنِسَ ؟ أَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِهِ فِي بِلادِكَ ؟
ـ بِلادِي ؟ وَأَيْنَ هِيَ حِينَ أَكْنِسُ الشَّوَارِعَ ، مُسْتَيْقِظًا فِي هَذَا الْبَرْدِ الْقَارِصِ ، لا يُؤْنِسُنِي إِلا مُوَاءُ الْقِطَطِ السَّمِينَةِ ، وَنُبَاحُ الْكِلابِ الضَّالَّةِ وَهِيَ تُطَارِدُهَا 000
ـ لا أَفْهَمُ كَيْفَ يَضِيعُ مِثْلُكَ بَيْنَ الأَكْوَامِ الْعَفِنَةِ وَالأَكْيَاسِ السَّوْدَاءِ !
ـ لُقْمَةُ الْعَيْشِ لا تَتْرُكُ لِمِثْلِي اخْتِيَارًا 000 وَالْبَلَدُ فِي لَحْظَةِ الْمَخَاضِ ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَتَحَمَّلَ آلامَهَا 000
ـ هَلْ أَنْتَ مُتَزَوِّجٌ ؟
ـ مَا زَالَ الْعُمْرُ أَمَامِي طَوِيلاً ، وَالصَّبْرُ مِفْتَاحُ الْفَرَجِ ، وَالْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لا يَفْنَى ، ثُمَّ إِنَّ الْبِنْتَ الَّتِي أَحْبَبْتُهَا وَأَحَبَّتْنِي تَزَوَّجَتْ هَذَا الرَّجُلَ الثَّرِيَّ الْبَدِينَ حِينَ أَسْقَطَتْهَا هَدَايَاهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ رَاضِيَةً ذَاتَ مَسَاءٍ 000
ـ لَكَ اللهُ يَا صَبْرِي 000
ـ تَأْمُرُنِي بِشَيْءٍ آخَرَ ؟
ـ شُكْرًا لَكَ
000000
000000
000000
فِي كُلِّ صَبَاحٍ ، يَفْتَحُ الْقَاعَاتِ صَبْرِي مُبَكِّرًا ، لِيَظَلَّ ـ بَعْدَ كَنْسِهَا ـ قَابِعًا أَمَامَ الْبَابِ طَوَالَ النَّهَارِ فِي انْتِظَارِ مَنْ يَسْتَخْدِمُهُ لِقَاءَ بَعْضِ النُّقُودِ الزَّهِيدَةِ ، لِيُلْقِيَ بِنِصْفِهَا أَوْ يَزِيدُ فِي جَيْبِ الْكَفِيلِ السَّاخِطِ دَائِمًا ، مُهَدِّدًا بِإِبْلاغِ الشُّرْطَةِ ، وَتَرْحِيلِهِ وَرَاءَ الْحُدُودِ 000
وَفِي اللَّيْلِ يَحْشُرُ جُثَّتَهُ الْهَامِدَةَ بَيْنَ خَمْسَةِ مُتْعَبِينَ يُشَارِكُونَهُ الْحُجْرَةَ الْكَئِيبَةَ ، وَالْغِطَاءَ الْمُهَلْهَلَ الْوَحِيدَ 000
000000
000000
000000
ـ دَرْسُنَا الْيَوْمَ ، أَيُّهَا الأَعِزَّاءُ ، عَنْ عُرْوَةَ بِنِ الْوَرْدِ ، وَالشَّنْفَرَى ، وَكَيْفَ كَانَا يُغِيرَانِ عَلَى قَوَافِلِ التِّجَارَةِ ، يَسْلُبَانِ عِلْيَةَ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ ، وَيُوَزِّعَانِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْقَبِيلَةِ 000
تَضِجُّ الْقَاعَةُ بِاللَّغَطِ وَالْهَمْهَمَاتِ مَا بَيْنَ مُعْجَبٍ بِعُرْوَةَ وَالشَّنْفَرَى ، وَسَاخِطٍ عَلَيْهِمَا 000
تَتَزَايَدُ الأَصْوَاتُ الْمُبْهَمَةُ مُتَدَاخِلَةً 000
تَنْتَابُهُ رِعْشَةٌ قَدِيمَةٌ تَهُزُّ مَفَاصِلَهُ 000
يَدُقُّ قَلْبُهُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ فِي تَرَقُّبٍ لِلَّحْظَةِ الْحَاسِمَةِ ، عَابِرًا مَخَاوِفَ الْكَهْفِ السَّحِيقَةَ 000
000000
000000
000000
تَتَعَالَى ـ مِنْ بَعِيدٍ ـ هُتَافَاتُ عُمَّالِ الْمَحَلَّةِ وَكَفْرِ الدَّوَّارِ 000
يَخْرُجُ الطُّلابُ غَاضِبِينَ رَافِضِينَ أَنْ يَظَلُّوا بَيْنَ الأَسْوَارِ 000
ـ مِنْ فَضْلِكُمْ نَلْتَزِمُ الْهُدُوءَ 000
تُحَاصِرُ الشُّرْطَةُ قَاعَاتِ الدَّرْسِ ، تَمْنَعُ الآخَرِينَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى السَّاحَاتِ 000
تَرْتَفِعُ الْهِرَاوَى 000
تَتَشَابَكُ الأَيَادِي وَالرُّؤُوسُ 000
ـ مِنْ فَضْلِكُمْ نَلْتَزِمُ الْهُدُوءَ 000
يَنْدَفِعُونَ فِي لَحْظَةٍ خَاطِفَةٍ كَالْبَرْقِ نَحْوَ الطَّرِيقِ إِلَى الْبَيْتِ الْكَبِيرِ 000
الشَّوَارِعُ الْغَاضِبَةُ لَمْ تَعُدْ قَادِرَةً بَعْدَ الْيَوْمِ أَنْ تَكْظِمَ غَيْظَهَا 000
تَنْضَمُّ طَوَاعِيَةً إِلَى الْمَوَاكِبِ الزَّاحِفَةِ 000
تَتَسَاقَطُ وَرْدَةٌ 000
تَسْحَقُهَا الشُّرْطَةُ بِالأَقْدَامِ 000
يَسْقُطُ صَبْرِي 000
يَنْفَجِرُ الطُّلابُ وَالْعُمَّالُ سَاخِطِينَ ، يَحْمِلُونَهُ مُمَدَّدًا فَوْقَ الأَكْتَافِ 000
يَنْظُرُونَ ـ فِي لَهْفَةٍ ـ نَحْوَ الْقَادِمِ مِنْ وَرَاءِ الدُّخَانِ الْكَثِيفِ 000
يَتَرَقَّبُونَ الْقَافِلَةَ الْقَادِمَةَ الْمُحَمَّلَةَ بِأَرْغِفَةِ الْخُبْزِ وَالزَّيْتُونِ 000
يَبِيتُونَ فَوْقَ الأَوْجَاعِ عَلَى الأَرْصِفَةِ الْبَارِدَةِ ، فِي انْتِظَارِ مَجِيءِ عُرْوَةَ وَالشَّنْفَرَى مِنْ بَيْنِ الأَطْلالِ الْقَدِيمَةِ 0